في البداية لا بد من التأكيد على مبدأ قيمة حياة الانسان، فلا يجوز المساس بها او تعريضها للخطر ما لم يرتكب صاحبها جرما مشهودا. ولذلك فموت اي انسان (أيا كان دينه او عقيدته السياسية) خارج السياق الطبيعي للموت والحياة أمر فاجع يجب تجنب وقوعه ما أمكن. هذا المبدأ لا يتناقض مع مبدأ آخر يقول ان التضحية بالمال والروح ضرورة من اجل المبادىء السامية الاخرى كإعلاء كلمة الحق
والدفاع عن النفس والعرض والوطن، والتصدي للظلم، وتحرير الاوطان.
في غزة استشهد حوالي 2200 من الفلسطينيين، وهو رقم كبير بدون شك، ولكن ذلك كان ثمنا لنصر تاريخي متميز. فقد فرضت على فلسطينيي غزة حرب من العدو لم يكونوا يريدونها. فصمدوا خمسين
يوما ودفعوا ثمن صمودهم ذلك العدد الهائل من الشهداء. وما ان تم التوصل الى هدنة يفترض ان تكون طويلة الامد حتى خرج اهل غزة في مواكب احتفالية رافعين شارات النصر والتحدي، ومصممين على الدفاع عن ارضهم وحريتهم حاضرا ومستقبلا، ولو تطلب الامر
التضحية بالمال والنفس. تلك هي مشاعر الاحرار الذين يدافعون عن حق الحياة الكريمة، كما يدافعون عن الحرية والاستقلال والكرامة. انهم ليسوا متهورين او طائشين، بل جيل شجاع رضع معاني الكرامة والاباء والحرية، وصقلت المعاناة فكره ونفسيته، فاذا به صامدا امام العدو، لا يخشى عدده وعدته، معتمدا على الله اولا وعلى النفس ثانيا ودعم احرار العالم ثالثة. تلك هي قصة النصر الذي حققته غزة، تلك المساحة الصغيرة حجما، الكبيرة معنى وموقفا وصمودا. معركتها جسدت شكلا آخر من الصمود، وأضفت على التضحية معاني سامية تختلف جوهريا عما ارتبط باعمال الموت التي تحدث كل يوم في مناطق عربية محاذية. ثمة قوم وجهوا اللوم لاهل غزة ووصفوهم بالمغامرين والعابثين، وآخرون لبسوا زي العلماء وأفتوا بحرمة التظاهر لدعمهم او جمع الاموال لاغاثتهم. بل ان العدو نفسه قال انه دخل الحرب هذه المرة بدعم من الانظمة العربية، ومع ذلك سجل المدافعون عن غزة واحدا من اكبر الانتصارات التي حققتها الامة. لكن ذلك الانتصار لم يحظ بما يستحق من الاحتفاء والحفاوة، ولم تخصص مئات القنوات التلفزيونية من اوقات بثها ما يناسب حجم ذلك النصر، بل تناقلت انباء وقف اطلاق النار والتوصل الى هدنة، كأنه واحد من الاخبار العادية التي تتكرر كل يوم.
ما القصة؟ ولماذا تحولت امة العرب والمسلمين الى جسد بدون روح، فلا الاحتلال او الاستبداد او الاهانة تحرك ذلك الجسد، ولا النصر العظيم قادر على إيقاظه وبث النشوة في مفاصله وإضفاء البسمة على محياه. ثمة نقاط لا بد من تسجيلها، ونحن نقف عند مفصل تاريخي ذي اهمية متميزة.
اولها: ان الحرب كانت صراعا بين اطراف عديدة: الاحتلال وعشاق الحرية، قوى الهيمنة العالمية وممثلي الشعوب المستضعفة المتطلعة للانعتاق من التبعية والاستعمار والاستحمار، وبين المستسلمين والمقاومين. مشروع المقاومة كان في السنوات الاخيرة عرضة للنقد من قبل قوى الثورة المضادة التي ترى ان بقاءها لن يتحقق الا اذا هزم ذلك المشروع واهله. فعلى مدى عشرين عاما من عملية السلام» بين السلطة الفلسطينية والكيان الاسرائيلي، كان الوضع الفلسطيني يراوح مكانه، فيما كان الاحتلال يكرس وجوده ويعمل بشكل حثيث للقضاء على هوية فلسطين واهلها وتهويد مدينة القدس. وفيما كانت دول بعينها تروج مبادرة سلام بعد أخرى، رغبة في انهاء الصراع مع الاحتلال، كانت روح المقاومة تتجسد في مجموعات شعبية، بعيدة عن التوجهات الحكومية، وتؤسس لمشروع تحريري يتبنى المقاومة خيارا، ويرفض اتفاقات اوسلو ومؤتمر مدريد وما يسمى «المبادرات العربية» للتطبيع
مع الاحتلال. وفي تصريح له الاسبوع الماضي في الدوحة قال خالد مشعل ان «معركة غزة أعادت الاعتبار من جديد لخيار المقاومة، وترسيخ الثقة به والرهان عليه». وجاء العدوان الاخير ليكشف هزيمة العدو منذ الايام الاولى، فقد رفضت قوى المقاومة المتمثلة بحماس والجهاد الاسلامي كافة
الدعوات لوقف اطلاق النار ما لم تتحقق مطالبهما ومن ذلك فتح المعابر ورفع الحصار.
ثانيها: ان حرب غزة لم تكن عبثية، بل كانت حربا مشروعة لانها دفاع عن الارض والنفس وصد للعدوان. ووفق ما طرحه القس
المسيحي، توماس اكويناس، في القرن الثالث عشر، حول شروط «الحرب العادلة»، فان صمود المقاومة الفلسطينية كان مصداقا للحرب العادلة، بينما كان العدوان الاسرائيلي عكس ذلك. وفي اطار حديثه عن حرب غزة الاسبوع الماضي في قطر قال خالد مشعل ان هذه الحرب «ليست عبثية» كما هو شأن الحروب الاخرى في البلدان المجاورة. وهذا صحيح. فأية قداسة او عدالة في الحرب التي تشنها المجموعات
المسلحة في العراق وسوريا وباكستان ونيجيريا؟ ولذلك مطلوب ان يستعيد علماء الامة ومفكروها دورهم في التقعيد لمفاهيم الحرب العادلة والجهاد المشروع لتمييزه عما يراه العالم اليوم من حمامات دم لونت مياه الفرات ودجلة بدماء الضحايا.
ثالثها: ان ثمن النصر الذي صنعته دماء شهداء غزة، كان مؤلما جدا، ولكنه أقل كثيرا من الموت العبثي الذي جرى في مناطق اخرى. فلا شك ان قتل 2200 فلسطيني، ربعهم من الاطفال، جريمة شنعاء ارتكبها الصهاينة. ولكن اذا قورن ذلك بالقتل العبثي في البلدان الاخرى، سيتضح مدى عبثية تلك الصراعات والحروب. ففي الجزائر قتل ما يقرب من 200 الف انسان في السنوات العشر التي اعقبت انقلاب العسكر على التجربة الديمقراطية في 1992. أليس ذلك عبثا تافها واجراما بحق الانسانية والقيم الدينية؟
وفي سوريا قتل حتى الآن عدد مقارب لعدد قتلى الجزائر في حرب اهلية تحولت هي الاخرى الى حالة عبثية لا تخدم احدا ولا توصل الى هدف مقدس. ومع التأكيد على شرعية المطالبة باقامة الحرية والتحول الديمقراطي واحترام حقوق الانسان، الا ان مسار الحركة الهادفة لذلك تحول الى حرب طاحنة يمارس الارهاب فيها بدون حدود، وتقطع فيها
الرؤوس والايدي وتنبش القبور وتهدم المساجد وتنتهك الاعراض. وما يجري في العراق، هو الآخر، بعيد عن الصواب والمنطق، اذ تحول الصراع من حرب ضد الاحتلال الى صراع عرقي ديني مذهبي ليس له نظير في اي مكان في العالم. وبسبب الصمت على ما يجري فقد
اصبح كل مكونات الشعب العراقي هدفا للقتل على اختلاف انتماءاتهم. وبلغ القتل الذي تمارسه «داعش» وبقية المجموعات المسلحة اكثر من مئتي الف انسان. الامر المؤكد ان حرب غزة رفعت رؤوس العرب والمسلمين وادخلت الامل في نفوسهم بواقعية خيار التحرير الكامل وانتصار الامة، بينما تبعث الحروب العبثية الاخرى على اليأس
والقنوط والتناحر والاختلاف والتشظي.
رابعها: ان صمود غزة في الاسبوع الاول من العدوان دفع الاطراف التي حرضت عليه ودعمته سياسيا وماديا للاسراع بالمطالبة بوقف الحرب لان صمود المقاومة تجاوز توقعات تلك الاطراف، واصبح بنيامين نتنياهو يلهث وراء وقف اطلاق النار خصوصا مع تصاعد الغضب داخل الكيان الاسرائيلي الذي بدأ يستشعر معنى الهلع الذي تحدثه الصواريخ التي تستهدف كافة المدن الاسرائيلية. وقد هبطت شعبية رئيس الوزراء الاسرائيلي كثيرا في الاسابيع الاخيرة بعد ان اتضح فشله في تحقيق الهدف الاول للحرب وهو نزع سلاح المقاومة والقضاء على حماس والجهاد الاسلامي. لقد خسرت «اسرائيل» الحرب جملة وتفصيلا ووقف العالم كله ضدها. كما ان الدول العربية الاخرى التي اتخذت موقفا معاديا تماما للمقاومة شعرت ان انتصار غزة خسارة لسياستها ودبلوماسيتها. اما مصر التي كان يأمل حكامها العسكريون في كسر شوكة حماس، المحسوبة على تيار الاخوان المسلمين، فقد شعرت بالفشل وهي ترى الفلسطينيين صامدين في مواقعهم برغم وحشية العدوان. وفي البداية سعت القاهرة لتجاوز حماس فلم تذكرها كطرف في اقتراحها الاول لوقف الحرب، ولكن العسكريين اجبروا على التعاطي مع حماس لاحقا بعد ان بدا انها ستنتصر في الحرب على العدو الاسرائيلي. وبالتالي تعتبر حرب غزة ضربة موجعة لقوى الثورة المضادة: السعودية، الكيان الاسرائيلي وعسكر مصر.
اذا كان هناك من يريد ان يستوعب دروس غزة فاهمها ان الصبر والصمود والايمان من ضرورات المعركة، وان الابتعاد عن الحروب العبثية مطلوب ممن يسعى لاصلاح اوضاع الامة وتحريرها من الاستعباد والاستبداد، وان الضرورة تقتضي تحالف قوى المقاومة كافة، وتجاهل كافة الدعوات الاخرى التي تؤثر سلبا على جوهر مشروع التحرير خصوصا الطائفية والتطرف والارهاب. انه درس بليغ لا يستوعبه الا من نهض لأداء الواجب بوعي وحكمة وبصيرة واخلاص، وضحى من اجل تحرير الاوطان، وتخلى عن الفكر العبثي او الفئوي او الطائفي.
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
د. سعيد الشهابي
أحب دائما اذا ذكرت داعش أن أذكر ميليشيات ايران بنفس الوقت
واذا ذكرت الميليشيات أن أذكر معها داعش بنفس الوقت
فكلاهما يقتل على الهويه وكلاهما عندي وعند كثير غيري واحد
داعش تقودها مجموعة مجرمين أما الميليشيات فتقودها ايران
وهنا لا فرق بين ارهاب عصابات وبين ارهاب دوله
فالجميع مجرم
ولا حول ولا قوة الا بالله
2200 روح انسان في غزة يعادل بنسبة عدد السكان 10000 في الكيان الاسرائيلي و 100000 في مصر و 400000 في امريكا. ثمن مرتفع سبق لكل الشعوب المقهورة ان دفعته ثمنا لانعتاقها.
الحقيقة ان هذا الصمود و منع العدو من الانتصار ارسل وميضا من نور لعله يوقظ الامة و يبعث فيها الامل. و لا عجب ان رأيت القوى الظلامية تحارب النور كما فعلت دائما و كما تفعل اليوم بنور الربيع العربي