كانت الإنداية» التي ظلت منتشرة بشكل رسمي، حتى عقود قليلة خلت، في كثير من مدن وحواضر السودان، أكثر من مجرد مكان لشرب الخمر، أو لممارسة البغاء، فكانت مع كل ذلك مكان الاجتماع الرئيس الذي يتم فيه تناول الكثير من الشؤون، خاصة الشأن الثقافي، عبر تبادل الشعر وقص القصص والغناء والرقص، في جو من التحلل وسط كؤوس من الخمور، التي كانت في الغالب محلية، لكن متنوعة في طريقة صناعتها ونسب كحولها.
هذه الحلقة الاجتماعية التي تضم العاملين في الإنداية من نساء ورجال أحياناً، ومجموعة الزبائن ليست بهذه البساطة التي تبدو عليها، بل الظاهر إنها كانت تميّز بين طبقتين، ترى الأولى أو العليا التي يمكن أن نطلق عليها، بعد الاستئذان من كارل ماركس، اسم «البورجوازية» أن لا ضير في الاستمتاع بالخدمات الجنسية وغير الجنسية التي تقدمها الطبقة الثانية أو الدنيا.
بهذا التقسيم، وتماماً كما يحدث في المجتمعات ذات الحدود الفاصلة اجتماعياً بين الطبقات، فإن المنتمين للطبقة الأولى لن يهمهم أن يتساءلوا عما دفع أبناء الطبقة الثانية لهذا المصير، حيث يبدو الأمر وكأنه قدر محتوم أن تقع مهمة الترفيه عن الناس على عاتق البعض منهم. هذا «القدر» وللغرابة، ما كان يناقش حتى من قبل أبناء الشريحة المستضعفة نفسها، بل يصل الأمر ببعضهم درجة الدفاع عن هذا التقسيم الظالم ضد من يحاول تغييره، أو المساس بذلك النظام الاجتماعي الذي ترسّخ عبر الأجيال كخطة إلهية لا يجوز الخروج عليها أو تعديلها.
وفي رواية «الإنداية» لصلاح البشير تلفت الانتباه، نقطة مثيرة للجدل تتعلق بشعور العبودية، التي سيطر على البعض لدرجة إحساسهم بالفخر إذا ما فض بكارة ابنتهم أحد أبناء العرق «الراقي» أو «الحر»، سواء كان ذلك برضاها أو غصباً عنها. قد تبدو هذه الفكرة لأول وهلة خيالية بعض الشيء أو من الزيادات التي وضعها الكاتب كبهار لعمله الروائي، الذي يظل في نهاية الأمر عملاً من وحي الخيال، لا يجوز الاستشهاد البحثي به، لكن الأمر ليس هكذا تماماً، حيث تظهر مؤشرات على قناعة البعض بذلك حتى في وقتنا الحاضر. من الحوادث ذات الارتباط التي يمكن استدعاؤها بناء على هذا، ما نسبه حسن الترابي في لقاء جماهيري شهير إلى الرئيس المعزول، حين زعم أنه ألمح ذات يوم باستخفاف تعليقاً على إدعاءات الاغتصاب الجماعي، أن الاغتصاب لو تم بواسطة أبناء قبيلة بعينها، وسمّاها، فلعله يكون شرفاً. الشاهد في هذه القصة ليس تقصي نسبتها لقائلها، وهو أمر غير مؤكد بالنظر لحالة العداء التي كانت بين الرجلين حينها، والتي جعلت الترابي يدعو في المخاطبة ذاتها للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، باعتبار أن ذلك هو ما يدعو إليه الإسلام، ولكن مثل هذا المنطق، سواء كان واقعة حقيقية، أو اختلاقاً فرضته المكايدة السياسية يدلّل على وجود هذه الطريقة في التفكير لدى البعض، حتى إن كانت في أغلب الأحيان غير معلنة أو محصورة في نطاقات خاصة. ما يجعل الحديث معاصراً أكثر هو التأمل في طريقة تلقي أخبار عن حالات القتل أو الاغتصاب، والحقيقة التي لا تنكر هي أن التفاعل وطريقة التلقي، وأتكلم هنا عن الماضي كما عن الوقت الراهن، تختلف بحسب خلفية الحالة وبحسب اختلافات المكان.
كانت الإنداية تقسّم المجتمعات المحلية تقسيماً صارماً بين من هم سادة ومن هم عبيد، أو بحسب الكلمة الأخرى التي لا تقل مباشرة واستخداماً، من هم «خدم» لأولئك السادة يتوجب عليهم إرضاؤهم وقضاء حياتهم كلها مذعنين لهم ولأوامرهم. في ذلك الزمن الذي استمر حتى انحسار الإندايات، ثم إلغائها بعد إعلان الرئيس جعفر النميري تطبيق الشريعة الإسلامية عام 1983 كان العمل بالدعارة حكراً على الإماء وبنات العبيد، إضافة طبعاً إلى بعض القادمات من خارج الحدود، لكن السؤال المرتبط بهذه القضية هو: من أين أصلاً جاء أولئك العبيد؟ هذا السؤال مهم لأنه مرتبط بسؤال آخر يتعلق بنجاح السودانيين في الربط بين روح التصوف الغالبة التي اشتهروا بها، والاستعلاء الطبقي والعرقي الذي يصل حد التطبيع مع الاسترقاق.
وكما يحدث في أماكن أخرى فإن أصحاب البشرة الداكنة غالباً ما يكونون أيضاً أصحاب الحظ السيئ الذي يضعهم في مراتب اجتماعية متأخرة، قد تصل حد اعتبارهم عبيداً، أو في حكم العبيد، لكن الكوميديا السوداء في الحالة السودانية تكمن في أن أهل السودان هم سمر أو سود البشرة في غالبهم، ولذلك فإنه يصعب على الكثيرين من خارج هذه الدوائر الاجتماعية أن يفهم وصف أحد لآخر بأنه أسود أو «أزرق»، فالنظرة المحايدة من الخارج توضح أن لا فرق حقيقي يذكر في الغالب من الحالات. بقي أن أشير إلى أن وجود الإنداية كحقيقة تاريخية ماثلة، لا يعني أن كل الناس كانوا يترددون عليها، وخير شاهد على هذا ما ذكره الطيب محمد الطيب في كتابه «الإنداية» (1974) الذي يمكن اعتباره أهم ما كتب حول الموضوع، حيث ذكر أنه وقبل أن يبدأ في جمع معلومات كتابه، لم يكن قد دخل مسبقاً أي إنداية، كما كان يعرف القليل عما يدور في داخلها. أكد الطيب أكثر من مرة أن أصحاب الفطرة السليمة كانوا دائماً يتحاشون التردد على هذه الأماكن، كما كانوا يتحاشون شرب الخمر، حتى في الزمن الذي كان فيه شربها عادة اجتماعية واسعة الانتشار. قد يرى البعض أن فتح مثل هذه الموضوعات أشبه بنكء الجراح، ونكء الجراح ومواجهة الترسبات التاريخية أفضل بكثير من التجاهل والتستر، ومحاولة إخفاء تلك الجروح برباط طبي أو ورق هدايا، وأبلغ دليل على أن هذه الصور القديمة ما تزال مرتبطة ومؤثرة في الواقع، هو ذلك الارتداد الجاهلي نحو الانتماءات القبلية والفخر العرقي، وهو ما لا يحاول البعض، حتى في زمن التغيير، إخفاءه، حين يحكمون على القادة السياسيين، لا من خلال أفكارهم، ولكن بناءً على انتماءاتهم العرقية.
كاتب سوداني