تونس-“القدس العربي”: كذب الاقتصاد التونسي كل التوقعات بعد الضربات الإرهابية الأخيرة التي شهدتها العاصمة على وجه الخصوص وعرف نموا طفيفا مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية. كما ارتفع مخزون البنك المركزي من العملات الأجنبية ليغطي عددا معتبرا من أيام التوريد مما ساهم في ارتفاع سعر صرف الدينار المحلي مقارنة بالعملات الأجنبية.
ويرجع خبراء أسباب هذا التحسن إلى تطور عائدات القطاع السياحي، حيث يشهد البلد هذه السنة موسما استثنائيا وإقبالا لافتا من السياح الأجانب ذكر التونسيين بالسنوات التي سبقت حصول الثورة. كما ساهم القطاع الزراعي في جلب العملة الصعبة خاصة أن البلد يحتل مراتب متقدمة في إنتاج وتصدير عديد المنتوجات الزراعية ذات الجودة العالية وشهد هذه السنة صعودا استثنائيا من الحبوب حاولت الأيادي إتلافها قبل حصدها.
إصلاحات مالية
كما يبدو أن الإصلاحات التي قامت بها الدولة في المجال المالي في السنوات الأخيرة لعبت دورا بارزا في هذا النمو الاقتصادي إضافة إلى توفر عائدات مالية موسمية متأتية من التونسيين المقيمين في الخارج العائدين إلى الوطن. ويبدو أن هذه الإصلاحات هي التي شجعت صندوق النقد الدولي على المضي قدما في إقراض الدولة التونسية وفي تشجيع مؤسسات مالية أخرى على منح تونس ما تحتاجه.
وأرجعت وكالات التصنيف الائتماني مثل موديز هذه الانتعاشة الاقتصادية إلى ارتفاع عائدات السياحة والفلاحة وأيضا الصناعة التي عادت إلى لعب دورها في الاقتصاد المحلي بعد ما قلت الاضرابات وانصرف العمال إلى الكد والعمل. ونتيجة لكل ذلك انخفض التضخم خلال الأشهر الأخيرة إلى 6.8 في المئة مقابل 7.7 في المئة خلال الفترة نفسها من السنة الماضية ويتوقع أن يتقلص عجز الميزانية إلى حدود 3.9 في المئة من إجمالي الناتج المحلي ما سينعكس أيضا على نسبة النمو التي يتوقع ان تصل إلى ثلاثة في المئة خلال السنة المقبلة خاصة مع تسلم حكومة جديدة لمقاليد الأمور في البلد بعد انتخابات تجرى خريف هذا العام. وهو ما يعني أن الاقتصاد التونسي بدأ يتحسس خطواته الأولى نحو التعافي.
سياسة التداين
في المقابل يرى البعض أن السبب في هذا الارتفاع في احتياطي البلاد من العملة الصعبة والذي بلغ 16,3 مليار دينار أي ما يعادل تغطية 91 يوما من التوريد، وذلك وفق بيانات البنك المركزي التونسي، هو فقط حصول البلد على قروض خارجية في الآونة الأخيرة مثل قسط صندوق النقد الدولي يقدر بـ700 مليون يورو، وهي مبالغ سرعان ما سيتم إنفاقها ولا يمكن أن تعمر طويلا في مدخرات البلاد. وبالتالي فإن الدينار سرعان ما سيتراجع سعر صرفه من جديد بمجرد أن ينفد المخزون من العملة الصعبة خاصة وأن نسق التصدير لم يرتفع وازداد الاستيراد بشكل لافت.
يشار إلى أن تونس حصلت مؤخرا على الموافقة على قروض تقدر قيمتها بقرابة 1.2 مليار دولار، أحدها من البنك الافريقي للتصدير والاستيراد ويقدر بـ 800 مليون دولار، والآخر من البنك الدولي وقيمته 151 مليون دولار لدعم جهود البلاد في تنويع مواردها الطاقية وإنتاج الكهرباء بتكلفة أقل والثالث الاتحاد الأوروبي يقدر بـ 150 مليون يورو. وساهمت هذه القروض جميعا في دعم مدخرات البلاد من العملة الصعبة الأجنبية وحققت بعض التوازن المالي.
دعاية انتخابية
ويرجح البعض أن يكون للبنك المركزي دور في تعديل سعر الصرف بالنسبة للدينار بتوجيه من الحكومة قبيل الانتخابات التي ستجرى بداية من شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل، حتى يجد الفريق الحاكم ما يستند عليه في حملته في إطار التعريف بمنجزاته “الوهمية”. فإن صح ذلك جاز التساؤل حول مدى استقلالية البنك المركزي التونسي خاصة وأنه خضع في السابق لأهواء حكام البلاد سواء قبل الثورة أو بعدها وتمت إقالة أحد محافظيه بعد أن رفض الاستجابة لإملاءات رئاسية مضرة بالاقتصاد الوطني وخادمة للأجندات الحزبية.
يشار إلى أن الدينار التونسي ارتفع بنسبة 2.16 في المئة مقابل اليورو منذ بداية السنة و3.4 في المئة مقابل الدولار لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال، ووفق أغلب خبراء الاقتصاد، أن الدينار قد تعافى. إذ يبدو أن سياسة الدولة الخاضعة لإملاءات صندوق النقد الدولي ذاهبة إلى مزيد التخفيض في سعر الدينار دعما للصادرات التونسية وقدرتها التنافسية في الأسواق العالمية.
مؤشرات إيجابية ولكن!
ويقول الباحث والمحلل في الشأن الاقتصادي محسن الرزقي لـ”القدس العربي” إن “لا اختلاف في تونس اليوم حول القطاع السياحي ودوره البارز في رفد المالية التونسية بحاجياتها من العملة الأجنبية. ذلك أن النتائج المسجلة إلى غاية منتصف هذا الشهر تؤكد تجاوز عائدات سنتي 2014 و2016 بنحو 10 في المئة وبـ5.42 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، حيث بلغ عائد القطاع إلى نهاية الأسبوع الماضي مليارين و380 مليون دينار. هذا طبعا من دون الحديث عن تحويلات التونسيين في الخارج وعائدات الصادرات وإن عرفت تراخيا محدودا خلال السدس الأول من السنة”.
ويأتي تأكيد محافظ البنك المركزي، مروان العباسي لهذا، قبل أيام في ختام مهمة بعثة الصندوق إلى تونس خلال ندوة صحافية، بروز مؤشرات إيجابية، في السياسة النقدية التونسية وأرجع هذا النجاح إلى جملة من العوامل قال إنها بدأت تعطي أكلها من استقرار مؤشر تبادل الدينار والتحكم في عجز الميزانية بالإضافة إلى تحسن مستوى الاحتياطي من النقد الأجنبي.
وأشار العباسي الذي كان مرفوقا برئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى تونس، يورن روذر إلى ارتفاع مداخيل القطاع السياحي (زيادة بأكثر من 20 في المئة من النقد الأجنبي مع نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2019) وكذلك تحويلات التونسيين في الخارج والتحكم في عجز الميزان التجاري.
ولم يخف ابتهاجه أيضا بالنتائج المسجلة اليوم في مجال السياسة النقدية وتحسن المؤشرات الاقتصادية وخاصة المتعلقة بالتحكم في عجز الميزانية وهو ما مكن حسب تعبيره من خروج ناجح لتونس إلى الأسواق المالية الدولية
ويعتبر الرزقي أن ابتهاج محافظ البنك المركزي له ما يبرره ذلك أن عائدات تونس من العملة الأجنبية استطاعت بعد عدة شهور أن تقفز إلى أكثر من 16 مليار دينار أي ما يعادل 90 يوما من التوريد، وهذا التحسن كان له الأثر الإيجابي على السوق النقدية التونسية التي تراجعت بعد أن كر اللغط في الأشهر القليلة الماضية عن إفلاس المالية العمومية بعد أن تدحرج مخزون العملة الأجنبية إلى ما دون 70 يوما.
يشار إلى ان مروان العباسي تطرق أيضا لموضوع تمويل ميزانية الدولة في نهاية العام الحالي باعتباره الشوكة في خاصرة الحكومة، حيث شدد على عدم الحاجة إلى قروض جديدة عدا تلك التي تمت برمجتها ضمن قانون المالية مثل قرض البنك الافريقي للتنمية والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير. وأشار إلى أن المفاوضات بين تونس وصندوق النقد الدولي لمراجعة الآلية الموسعة للقرض ستنطلق خلال شهر أيلول/سبتمبر المقبل.
كما أعلن ان تونس تعمل اليوم على وضع سياسة فعالة للدفع عبر الهاتف المحمول وذلك للتصدي للاقتصاد الموازي الذي يمثل حسب تأكيده ما بين 10 إلى 15 في المئة من الناتج الداخلي الخام.
ويرى الرزقي أن رضى تونس بالتقدم المحرز خاصة في توازنات الاقتصاد الكلي لم يمنع صندوق النقد الدولي من التحذير من المخاطر المحدقة بالاقتصاد التونسي ذي وتيرة النمو البطيئة كما أكد ذلك رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى تونس الذي لم تفته في المناسبة دعوة القطاع الخاص للعب دوره كاملا ودعم الاستفاقة الاقتصادية لتونس التي لا تزال في مواجهة مشكل ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية وانخفاض قيمة الدينار المؤثر في حجم الصادرات الوطنية.