«كان عليك أن تعيش، بحكم العادة التي تحولت إلى غريزة، مفترضا أن كل صوت يصدر عنك مسموع وأن كل حركة مرصودة»، الوصف الذي عبر في رائعة جورج أورويل رواية «1984» عن شاشات الرصد، التي تتجسس من جانب، وتقوم بالدعاية وتساهم في عملية إلغاء الفكر، باعتبار أن الولاء يعني إلغاء التفكير وعدم الوعي من جانب آخر، لم يكن هو أسوأ ما يمكن أن يتعرض له المواطن في عالم الرواية، التي نشرت عام 1949 مقارنة بكل من «شرطة الفكر» و»اتحاد الجواسيس».
وصف لا يكتسب أهميته من الارتباط برواية ديستوبية الطابع، تحاول أن تعمق الواقع المرير الذي يمر به المجتمع في اللحظة أو المستقبل، عبر تصور عالم خيالي يتشابه ويختلف عن اللحظة التي كتبت فيها الرواية فقط، ولكن من حقيقة أن الرواية مستمرة في التجدد عبر الواقع المعاش، وأن الأوضاع التي تناولها أورويل بوصفها خيالا أو إفراطا في تصور كابوسية العالم، تكشف عن نفسها بصور متعددة، بداية من مقابر الذاكرة وإعادة كتابة الحاضر، بشكل يغير من الماضي والمستقبل بوصف أن «من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي»، وبالتالي من يسيطر على اللحظة يسيطر على الماضي ويتحكم في المستقبل، إلى دقائق الكراهية، والأخ الكبير، مقابل العدو الواحد الممثل لكل الشرور والجاهز دوما للاستخدام من قبل السلطة المسيطرة في اللحظة، لتبرير الفشل أو تضخيم الإنجازات، مع إمكانية تغيير التفاصيل من التحالفات والعداءات إلى الحروب ونتائجها.
تنقل رواية أورويل، التي تم الاحتفاء بمرور 70 عاما على صدورها في الثامن من يونيو العام الجاري، الكثير عن اللحظة. ورغم محاولة البعض ربطها بالاتحاد السوفييتي السابق والتأكيد أنها كانت صالحة في التعامل مع تلك الحالة، أو ما يشابها من دول غير ديمقراطية، وفقا للتعريف الغربي، إلا أن تلك الرؤية تتعامل مع الرواية بشكل ضيق، وتتجاوز حقيقة أن الرواية أثبتت وتثبت يوميا قدرتها على قراءة الواقع والإسقاط على ما يحدث فيه، وليس هتاف عدد من مؤيدي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد النائبة إلهان عمر، «أعيدوها إلى بلادها» إلا جزءا من تلك الكراهية الممتدة. وما تغيير صورة العدو/ الحليف التي يمارسها ترامب بشكل مستمر، وكأنها جزء من سياسة العصا والجزرة مع كوريا الشمالية وإيران والعالم بتنويعات إلا جانب آخر من تلك الصورة.
مشاهد لا تختلف بدورها عن عداء يتعاظم ضد الأجانب والمهاجرين والأقليات مقابل تعظيم فئة أو جماعة أو طبقة في تنويعات على الطبقية والعنصرية، التي تعيد إلى الواجهة مظاهر الاحتفال بمسيرات الأسرى واحتفالات الإعدام التي غضب الإطفال لعدم المشاركة فيها، وسط ترديد «نريد مشاهدة الشنق» في الرواية، وأصوات الهتاف الحماسية والفرح الذي عبر عنه المشاهدون في السينما عند غرق سفينة محملة باللاجئين، وقارب نجاه محملا بالأطفال بعد القصف بالقنابل في البحر الأبيض المتوسط، لأنهم في النهاية مجرد أعداء أو فقراء لا يأبه أحد بهم، أو آخر مختلف لا تشمله راية «النصر» المعبرة عن شعار المرحلة في الرواية، والمتواجدة في كل المؤسسات والمنتجات، والممتدة بدورها للواقع باسماء مختلفة.
في عالمنا الذي نعرفه، تتنوع الكراهية وصور تغذيتها أيضا عبر شاشات الرصد وطائرات التجسس عبر النوافذ وغيرها من الصور التي تحولت إلى أدوات أكثر حداثة وأسماء براقة، تمتد من ساعات بث ممتد عبر الشاشات، واحتفالات تخصص من أجل تعظيم الأخ الأكبر، ورقابة ممتدة تتهم كل من يفكر، وتحديدا يفكر خارج إطار السلطة وضمن نطاق شاشة الرصد التي يجب «رسم علامات التفاؤل التام» عند مواجهتها، وفقا لبطل أورويل في الرواية «ونستون سميث»، بأنه من الأعداء أو أهل الشر، وتنظيم نشر التشاؤم الذي لا يبتسم في وجه المعاناة تحسبا لشاشات الرصد الحديثة.
تتواصل الكراهية ومعها عمليات الإقصاء بوصفها أعلى مراحل الكراهية، ولكنها لا تتوقف في الواقع على حدود الدولة المعنية ومواطنيها، ويطالب الآخر بالتعامل مع تلك الشعارات والكراهية بوصفها جزءا من خصوصية المجتمعات، التي يجب الالتزام بها من الجميع. خصوصية لم تعد حكرا على تبرير تقييد الديمقراطية والحقوق والحريات باسم الدين والعادات والتقاليد حسب المستهدف، ولكن تقييد تعبير الآخر بداية من الاعتراض على الهتاف باسم اللاعب المصري محمد أبو تريكة خلال مباريات البطولة الافريقية من قبل الجماهير العربية، بوصفها تضر بالدولة المضيفة، وتثير مشاعر الغضب لدى الجماهير المصرية، التي يصعب التعميم في وصف علاقتها باللاعب، الذي يتمتع بقدر خاص من الشعبية، وصولا إلى تقديم بلاغ إلى النائب العام ضد المعلق الرياضي الجزائري حفيظ دراجي، بسبب زيارته لأسرة أبوتريكة، واعتبار المحامي مقدم البلاغ أن الزيارة تروج لأفكار الإخوان، وتخلق فتنة بين الشعبين، مطالبا بالقبض على دراجي والتحقيق معه، وتقديم بلاغ آخر للنائب العام أيضا ضد اللاعب الجزائري رياض محرز، والمطالبة بوضعه على قائمة الممنوعين من دخول مصر، بتهمة ازدراء رئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، أثناء تسليم كأس بطولة الأمم الافريقية في الحفل الختامي، لأنه لم يصافح مدبولي.
يخلق التعامل عبر بوابة الكراهية والقمع والمنع حالة حرب حقيقية تجعل الآخر متهما والتصعيد سيد الأحوال
تعبر تلك الأحداث التي تم تضخيمها عن تداخل واضح بين ما هو شعبي وما هو قانوني، وما هو دبلوماسي وسياسي. القضايا التي تم تضخيمها على حساب قضايا أخرى مهمة تعبر في جزء كبير منها عن أجواء الرصد والكراهية، هناك من يرصد كل ما يحدث، ويحوله إلى جزء من حالة العداء أقرب إلى لجان الجواسيس، حيث كل من يعبر عن رأي مختلف يرتكب أكبر الجرائم وهي «جريمة الفكر»، وبمجرد ارتكاب تلك الجريمة يصبح الباب مفتوحا لكل الجرائم الأخرى بما فيها الإعلان عن مواقف تخالف السلطة، وتهدد حالة السيطرة الكاملة وتعيق عمل مقابر الذاكرة. يتم تجاوز مساحة ما هو تعبير عن الرأي أو أخطاء يتم تناولها عبر الإعلام والحوار الموضوعي، وعبر السياسة والقنوات الدبلوماسية إلى حروب صغرى تستنفد الوقت والجهد وتجعل المجتمع في حالة مواجهة مع الآخر، تستوجب الحشد تحت راية النصر أو تحيا مصر باسم المبادئ والقيم والأخلاق. يتحول التعبير عن الحدث بطريقة ساخرة لمجتمع يتعامل مع السخرية بوصفها أسلوب حديث مواز، وطريقة من طرق ممارسة السياسة، إلى مبرر لشن هجوم ممتد وحاد لا يتوافر مثله في حالات تستوجب الجهد والوقت والمحاسبة الحقيقية. يخلق التعامل عبر بوابة الكراهية والقمع والمنع حالة حرب حقيقية تجعل الآخر متهما والتصعيد سيد الأحوال، وتتوارى هزيمة مصر المبكرة في البطولة وكل ما يحيط بها من نقاش ومحاسبة مفترضة للسياسات والأفراد، إلى حروب مع الجزائر ولاعب ومعلق حتى تحدث كارثة أخرى وتبدأ حرب صغرى جديدة.
من جانبها ساهمت الأحداث في إبراز الفجوة بين ترديد هتافات الكراهية ضد أبوتريكة، من أجل الصعود مثل دقائق الكراهية، وبين الهتاف باسم أبوتريكة خارج تلك المساحات. ولكن تصعيد خطاب الكرامة عبر ازدراء شخصية ما أو دعم الإرهاب، عبر زيارة أسرة ما من شأنه تصعيد حالة العداء بدرجة أكبر، وإعادة الكراهية إلى الواجهة باسم حب الوطن تماما، كما حملت مبادئ الحزب أن «الحرب هي السلام» و»الحرية هي العبودية». وكما كانت دقائق الكراهية المخطط لها وسيلة للحشد والفرز مثلها مثل شاشات الرصد ولجان الجواسيس والتهديد المستمر بممارسة التفكير، بوصفها في النهاية وسيلة لضمان الولاء، والتأكد من أن هناك مساحة للنسيان الذي يمثل آفة للشعوب ووسيلة للبقاء وعناصر قوة السلطة. يتم بناء الإنجازات وإخفاء العيوب في صورة شديدة الوضوح في الرواية عبر تغيير القواعد والوثائق والتاريخ والأعمال الفنية وكل ما يحمل ذاكرة الماضي القريب والبعيد، ويتم الإلقاء بكل ما يخالف اللحظة في مقابر الذاكرة، وعلى طريقة رواية أورويل «مزرعة الحيوان» 1945، يتم تغيير مبادئ الثورة تدريجيا والرهان على النسيان، من أجل تثبيت الواقع بوصفه الحلم الذي كان مستهدفا في الماضي القريب، وبدلا من أن تكون ثورة 25 يناير صرخة في وجه الظلم والمعاناة والمطالب بالعدالة الاجتماعية، تتحول إلى «أصعب وقت» وبدلا من أن تكون فرصة لميلاد وإحياء أحلام، تتحول إلى لحظة مالت فيها الأحلام «للغروب» كما تقول كلمات أغنية ختام البطولة الافريقية في إعادة كتابة للتاريخ، أو مجرد تصحيح وتعديل للأخطاء كما تري السلطة في «1984».
لا يتوقف الأمر عند يناير ولكنه يمارس بشكل مستمر ضمن إنجاز الغياب. يبدو الأمر واضحا من خلال الرواية في تخفيض الحصص المخصصة لكل مواطن من الشوكولاتة، وهي الخطوة التي قدمت رسميا عندما حدثت بوصفها إنجاز رفع الحصص بعد تغيير وعود وزارة الوفرة (التي ترعى الشؤون الاقتصادية) القاطعة بعدم تقليص الحصص في الوثائق والصحف إلي توقعات مؤكدة، بضرورة خفض الحصص بمعدل أكثر مما تم الإعلان عنه تاليا. يتحول الخفض الفعلي من 30 إلى 20 غراما إلى إنجاز تخرج معه الجموع وفقا للبيانات الرسمية للتأييد والشكر، ويتحول الكذب والتزييف إلى واقع لا يتذكره إلا القلة التي لا تثق في ما تتذكره وسط عملية التغيير المستمرة للتاريخ. يعيدنا الواقع إلى «1984» وتعيدنا الرواية إلى الواقع، وفي المنتصف نتذكر أن تلك الإسقاطات مهمة، لأنها تكشف بطريقتها الخاصة عن ظلامية الواقع، عندما تستمر الأحداث في خط التطور القائم بدون مراجعة ومواجهة، وبدون استحضار الحقائق من أجل دحض الكذب والتزييف. يتصور ونستون ان هناك لحظة للقاء مع شخصيات تشبهه «في مكان يغمره النور، حيث لا ظلام»، ورغم أن النور الذي يراه في النهاية لا يحمل بداية حقيقية، إلا أن مساحة النور تظل هدفا في لحظات الظلام مثل الحرية في أوقات القمع، والراحة وسط المعاناة، لحظات تظل منتظرة ويحتاج الوصول إليها ذاكرة حية تجدد الماضي ودروسه، وتكشف الوعود وتناقضاتها وترفض مقابر الذاكرة والكراهية بكل صورها وآليات الترويج لها.
كاتبة مصرية
اسمحي لي يا سيدتي أن أشكرك على تحليلك، وأضيف أن الأخ الأكبر 1984 كان ينطلق من مفهوم سياسي استبدادي على كل حال، أما العسكري الغبي الفاشل الذي يحكم في 2019 ، فهو يتحرك بمنطق اللص والعصابة، يسرق الحرية الكرامة والأمل، وأنصاره يسرقون الشعب والمال والمناصب والنفوذ والقوة، يعيثون في الأرض فسادا،ويفرضون بالبلطجة والكذب والمطاوي المشهرة الاستسلام على الجموع التي جوّعوها وقهروها، وحرموها التموين واعتصروها حتى العظام، ورفعوا الأسعار حتى وصل الليمون في عهدهم إلى 100 جنيه، ولا غالب إلا الله!