تونس-“القدس العربي”: تزامنت وفاة الرئيس التونسي محمد الباجي قايد السبسي مع استعداد البلاد للانتخابات التشريعية والرئاسية التي كان من المقرر أن تجرى بداية من تشرين الأول/اكتوبر المقبل. وصادف أن تزامنت الوفاة مع فتح باب الترشح للانتخابات التشريعية ومع عيد الجمهورية أي ذكرى الإطاحة بالنظام الملكي وإعلان الجمهورية سنة 1957 من قبل الحبيب بورقيبة ورفاقه.
وبالتالي فإن وفاة الباجي قايد السبسي لن تؤثر كثيرا في المشهد السياسي الحالي خاصة وأن الرجل كان يستعد ليسلم السلطة بعد أسابيع للرئيس المنتخب الجديد ولم تكن لديه نية الترشح للاستحقاق الرئاسي المقبل. كما أن الهيئة المستقلة للانتخابات مستعدة ماديا ولوجستيا وهي التي تفرغت لتوها من تسجيل الناخبين الجدد من الفئة الشبابية على وجه الخصوص.
انتقال سلس
لقد تسلم رئيس مجلس النواب محمد الناصر مهام رئيس الجمهورية حسب الدستور التونسي الجديد وأدى اليمين الدستورية كسادس حاكم يتربع على عرش قرطاج، وسارت الأمور بدون مشاكل وبدون اعتراض من أي كان. ورحب التونسيون بهذا الانتقال للسلطة والذي تم سريعا حتى لا تفتح الأبواب للجدل الدستوري في غياب انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية العليا المخول لها النظر في مسألة شغور منصب الرئاسة.
وبالتالي فإن ما هو طاغ على المشهد هو أن التونسيين بصدد مراكمة النجاحات الديمقراطية والتأسيس لتجربة سياسية فريدة من نوعها في محيطهم المغاربي والعربي وربما الافريقي. تجربة غير مسقطة من الخارج على الواقع التونسي بل تستمد جذورها من حضارة جمهورية قرطاج التي عرفت دستورا متطورا ونظاما ديمقراطيا أشاد به كثيرا الفيلسوف الإغريقي أرسطو كان يضم، قرونا قبل ميلاد المسيح، مجلسا منتخبا يختار حاكمين أو سبطين من بين أعضائه ينفذان سياساته ويراقب بعضهما البعض وتدوم ولاية رأسي السلطة التنفيذية سنة واحدة.
نهاية النداء
إن غياب قايد السبسي على الساحة السياسية التونسية سيكون له تأثير كبير على حزبه الذي أسسه حركة نداء تونس إذ يتوقع جل العارفين بخبايا وكواليس المشهد السياسي التونسي أن ينتهي هذا الحزب برحيل مؤسسه. وبالتالي ستشهد الخريطة السياسية تغييرات كبرى بغياب الحزب الذي حل في المركز الأول في انتخابات سنة ألفين واربعة عشر وانقسم لاحقا إلى عدة أحزاب قبل أن يرحل مؤسسه عن هذا العالم.
لقد انشق بداية الأمين العام السابق للحزب محسن مرزوق وأسس حركة مشروع تونس، ثم انشق يوسف الشاهد وأسس حزب تحيا تونس وأخذ من الكتلة النيابية للنداء شأنه شأن حزب مرزوق. وأخيرا انشقت سلمى اللومي عن النداء وأسست حزبا جديدا وذهب معها من ذهب فيما بقي جماعة حافظ قايد السبسي يتصارعون مع جماعة سفيال طوبال على مسألة من هو الأحق بتمثيل النداء. ومن المتوقع أن يسارع المتصارعون إلى الانضمام إلى أحزاب أخرى تلبي طموحات البعض بالبقاء في الحكم.
كما يخشى البعض من أن يؤثر غياب السبسي سلبا على التجربة التوافقية في النظام السياسي التونسي، إذ أن الساحة تعج اليوم بالصداميين غير الراغبين في التعاون مع الطرف الآخر. إذ لا يتصور أن تتحالف عبير موسى مثلا مع حركة النهضة ولا ان تتحالف سامية عبو مع حزب وسطي أو حزب دستوري، وحتى أبناء العائلة السياسية الواحدة هم اليوم في تنافر من بعضهم البعض.
بالتالي فإن التوافق الذي حرص عليه الراحل مع حركة النهضة يبدو أنه بات هشا رغم بروز يوسف الشاهد كشريك جديد لحركة النهضة ساعدته الحركة على التمرد على الباجي مقابل إقالة وزير الداخلية الأسبق لطفي براهم. وهو ما تم بالفعل حيث منح براهم مهلة تعجيزية لجلب وزير الداخلية الذي سبقه في تسييس شؤون الوزارة ناجم الغرسلى، وحين عجز أقيل مباشرة.
الوضع الاقتصادي
وأمام تهويل بعض وسائل الإعلام للحدث، يخشى أن يتضرر الاقتصاد التونسي الذي بدأ يتعافى، وذلك من خلال إلغاء السياح لحجوزاتهم خوفا من تدهور وضع أمني مستقر أو من خلال تراجع الأجانب عن الاستثمار في تونس باعتبارها من دون رئيس حتى وإن كان هناك رئيس مؤقت ومؤسسات دولة تسيطر على الوضع. وسيساهم هذا التراجع، عن اختيار الوجهة التونسية، في هبوط المدخرات من العملة الصعبة وبالتالي تراجع سعر صرف الدينار والركود مجددا للاقتصاد الذي بدأ في التعافي.
ويتوقع خبراء أن يستمر الوضع الاقتصادي على ما هو عليه إلى حين انتخاب رئيس جمهورية جديد يبعث برسائل الثقة والاطمئنان إلى الخارج للعودة إلى تونس من بوابة السياحة والاستثمارات الخارجية. وسيتم انتخاب هذا الرئيس مبدئيا في أيلول/سبتمبر المقبل وعلى دورتين رغم أن صلاحيته الدستورية ليست بحجم وزنه الانتخابي الذي يعادل البرلمان مجتمعا.
تونس في مأمن
ويقول المحلل السياسي هشام الحاجي لـ “القدس العربي” إن سجلات تاريخ تونس ستحتفظ بيوم الخميس 25 تموز/يوليو 2019 كعلامة هامة في تاريخ تونس وكيوم مشبع بالرموز والدلالات وبالعبر. ويتابع بالقول :”فقد شاء التاريخ ان يقترن احتفال التونسيين في هذا اليوم بالذكرى الثانية والستين برحيل رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي الذي لم يكن مجرد رئيس للجمهورية بل هو بكل المقاييس أحد أبرز رجالات السياسة التونسية في العقود الأخيرة، إذ ساهم في معركة الاستقلال وفي بناء الدولة الوطنية وفي النضال من أجل الديمقراطية علاوة على دوره البارز منذ 2011 إلى حد اليوم”. ويضيف: “مسيرة طويلة تقلد خلالها الباجي قايد السبسي مهام في صلب الحكومة وكانت له بصماته في العمل الدبلوماسي علاوة على العمل البرلماني وهي المسيرة التي توجها بتولي رئاسة الجمهورية كأول رئيس في تاريخ تونس يقع انتخابه انتخابا حرا مباشرا لا تشوبه شائبة التدليس والتزوير. وقد انبنى العمل السياسي للباجي قايد السبسي على رؤية أساسها الإيمان باستقلال تونس وسيادتها والانتصار للديمقراطية والسعي للتوافق ورفض الاقصاء والانتصار في المستوى الدولي للقضايا العادلة”. أما عن تونس بعد السبسي فأوضح بالقول: “إن الكيفية السلسة التي وقع بها سد الشغور في مستوى الرئاسة والإعلان عن موعد الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها واتزان مواقف جميع الأطراف الوازنة يمثل دليلا على نضج الشعب التونسي وعلى أن البلاد في مأمن من هزة سياسية غير متوقعة وهذا في حد ذاته مؤشر على مستقبل تونس السياسي التي تقطع خطوات لافتة على درب تكريس آليات انتقاله الديمقراطي. ولا شك ان رمزية الباجي قايد السبسي ستصبح ورقة من الورقات التي ستستخدم في الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة وقد تلعب دورا في تجميع العائلة الوسطية أو في مزيد تشتيتها وذلك حسب قدرة الأبناء على قراءة تداعيات غياب الأب وعلى قراءة إرثه القراءة الصحيحة وعلى النظر في كيفية استغلاله”.