تشارلي تشابلن… الأسطورة القديمة الجديدة أبدا

كان الزواج يوم الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1943 صعبا على العريس بسبب الانتقادات الشديدة التي شنتها الصحافة ضده بسبب هذا الزواج. ولذلك لم يحضره سوى اثنين من موظفيه وكاتبة مقالات عن النجوم التي اختارها العريس بعناية، وأعطاها احتكار كتابة تفاصيل الزفاف، ونشر صور عنه. وكانت الصحافة قد ركزت على سن العريس والعروس بشكل خاص، فقد كانت العروس أونا أونيل قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها قبل شهر واحد فحسب، أما العريس فلم يكن سوى تشارلي تشابلن الذي كان يكبرها بستة وثلاثين عاما، والذي كان يحاول جاهدا إنهاء هذه الأزمة بأسرع وقت ممكن، خاصة أن العروس كانت أكبر من ابنه الثاني بستة أشهر فقط، بينما يصغر العريس والد العروس بالفرق نفسه. ولكن الأمر لم يقتصر على فرق السن بين الاثنين، بل تعداه ليكون ذا اهمية عالمية نظرا لمكانة العريس، ولكن لماذا كان العريس بهذه الأهمية؟

تشارلي تشابلن

إنه النجم السينمائي الذي أثار ضحك الملايين، واعتبر أشهر شخصية في تاريخ السينما العالمية بسبب بروزه الفريد في جميع فروع صناعة السينما. كان تشارلي تشابلن بطل الطبقات الفقيرة في العالم، حيث ركزت أفلامه على معاناتهم بشكل كوميدي ومعبر يخترق عقول المشاهدين ويترسخ فيها. كان تشارلي تشابلن إنكليزيا من لندن ولد عام 1889، وعاشت عائلته في فقر مدقع، حيث كان والداه يعملان في الملاهي المحلية كراقصين وممثلين. وفي الرابعة من عمره، انفصل الوالدان بدون طلاق، وواجهت والدته صعوبات جمة في تأمين مستوى الكفاف لأولادها، ما اضطرها إلى إرساله إلى دار للأيتام عدة مرات، وعندما أصبح في التاسعة من عمره أدخِلَت أمه مستشفى للأمراض العقلية، لتعرضها لاضطرابات عقلية بسبب سوء التغذية وأمراض خطيرة، حيث مكثت هناك شهرين. في تلك الأثناء انتقل تشارلي تشابلن إلى مسكن والده الذي كان يعاني من الإدمان على الكحول وتوفي بسبب تشمع الكبد في سن الثامنة والثلاثين. وبعد عودة تشارلي تشابلن إلى والدته عادت مشاكل الوالدة العقلية، واضطر ابنها الصغير وكان في الرابعة عشرة من عمره، إلى أن يأخذها بنفسه إلى مستشفى الأمراض العقلية.
بدا تشارلي العمل في فرقة عروض مسرحية، وكانت هذه بداية حياته الفنية، حيث كافح جاهدا أن يتقن عمله ويتعلم من الآخرين، وظهر في مسرحية لإحدى قصص شرلوك هولمز. وبسبب نجاحه انتقل من فرقة إلى أخرى أفضل منها، حتى انتهى به المطاف في فرقة كوميدية شهيرة قامت بسلسلة عروض ناجحة في الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك تغيرت حياته إلى الأبد حيث كانت إحدى شركات إنتاج الأفلام قد فقدت ممثلها الرئيسي فاستعانت به لإنقاذ الموقف، مقابل مئة وخمسين دولارا في الأسبوع (وهو مبلغ كبير في مقاييس ذلك الوقت) عام 1913. وكان العمل هو إنتاج أفلام قصيرة بمعدل فيلم واحد كل أسبوع من بطولة تشارلي تشابلن، وشاهده الجمهور لأول مرة يوم الثاني من فبراير/شباط عام 1914 في فيلم سينمائي. ومن هنا انطلق نجم تشارلي تشابلن بالصعود كالصاروخ، وحقق أفلاما تعد من علامات السينما الأمريكية مثل، «المتشرد» (1915) و «البنك» (1915) و»حياة كلب» (1918) و»الطفل» (1921) و»الباحث عن الذهب»(1925) و»أضواء المدينة» (1931) و»الأزمنة الحديثة» (1936) و»أضواء المسرح» (1952) وغيرها من التي لا تزال أجيال متعاقبة من الجمهور تشاهدها، وكأنها أفلام جديدة، وأصبحت لغة عالمية حيث استمتعت بها الجماهير في مختلف أنحاء العالم، وبغض النظر عن خلفيتها. وكان تشارلي تشابلن المؤلف والممثل والمخرج والمنتج والملحن، وحتى الذي يقوم بمونتاج الفيلم، وكان الافضل دائما في هذه المجالات، وكان يركز دائما على معاناة الرجل الفقير المسكين الذي يكافح من أجل قوت عيشه، وتعامل الناس معه، والضغط الذي يتعرض له باستمرار، بدون ان يجعله هذا يفقد كرامته أو رباطة جأشه، فمهما بلغت قسوة الحياة، فإن الأمل يبقى موجودا. واعتمد على اعتقاده المستمر بمعرفته بمشاعر المشاهدين اليومية.

لم تكن زوجة تشارلي تشابلن الشابة سوى ابنة الكاتب الأمريكي يوجين أونيل الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1936. وتطلّق والداها عندما كانت في سن الرابعة، ومع ذلك كانت حياتها مرفهة، حيث أدخلتها والدتها أفضل المدارس في الولايات المتحدة.

ولذلك فقد كان يغامر في أفلامه عن طريق الدخول في مواضيع جديدة، ففي فيلم «حياة كلب» كان يتوقع أن يكون الجمهور متعاطفا مع الحيوانات، وعندما صدق حدسه أنتج فيلم «الطفل» الذي حقق نجاحا باهرا، نظرا لتعاطف الجمهور مع الأطفال، ورفضه للمعاملة السيئة التي يتلقونها. وأعاد تشارلي تشابلن الكرة في فيلم «أضواء المدينة» الذي كان عن شابة جميلة تقع في حب شخص لا تستطيع أن تراه، لأنها كانت عمياء. وكان تشارلي تشابلن يمزج الكوميديا بالدراما المأساوية، وطالما حاول أن يركز على الدراما أكثر من الكوميديا.
ومن الممكن القول إن كل ما عرضه من دراما كان مأخوذا من حياته الخاصة عندما كان طفلا بائسا في العاصمة البريطانية لندن، أو من أشخاص عاصرهم قبل أن يصبح نجما سينمائيا، وصاحب أعلى أجر في الولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك اختلق شخصية «المتشرد» الذي كان يرتدي ملابس رثة ومضحكة ويقوم بأعمال ساخرة في مواقف بائسة. ولازمته هذه الشخصية طوال حياته المهنية، وجعلته أول شخصية سينمائية في العالم قاطبة، وألفت عنه أغان، وبيعت دمى كثيرة على شكل المتشرد في الأسواق، وكثر مقلدوه الذين لم يسلموا من ملاحقته لهم في المحاكم. ويجب الأخذ في نظر الاعتبار طبيعة المجتمع الغربي آنذاك، أي في بداية القرن العشرين، خاصة المجتمع الأمريكي، حيث كانت الطبقات الفقيرة تمثل أجزاء كبيرة منه، وعرف الناس آنذاك معنى الفقر الشديد. واعتبر تشارلي تشابلن رمزا للثقافة العالمية، وهو الذي ترك المدرسة في سن الثالثة عشرة.
كان تشارلي تشابلن دقيقا جدا في عمله، ولم يتساهل مع أي هفوة، لذلك كان يشترط دائما أن تكون لديه السيطرة الكاملة على كل جوانب الفيلم، وعدم التقيد بأي جدول زمني، فبالنسبة له كان ينتهي الفيلم عندما يقتنع هو أن جودة الفيلم تتوافق مع معاييره، لذلك كانت ميزانية أفلامه موضع جدال متواصل بينه وبين الممولين. وكان له اهتمام خاص بالموسيقى، حيث افتتن بها في سنوات مراهقته، وعلّم نفسه العزف على بعض الآلات الموسيقية، ولكنه لم يتعلمها بشكل متقن، ولذلك فإنه لم يستطع قراءة الموسيقى المكتوبة، أو قيادة فرقة موسيقية، فقام بالاستعانة بموسيقيين محترفين لتقديم النسخة النهائية للموسيقى التصويرية، ولحن جميع موسيقى أفلامه، وقد يكون أشهرها موسيقى فيلم «أضواء المسرح» التي تعد من أشهر القطع الموسيقية في تاريخ السينما الأمريكية، وكذلك أغنية «ابتسم» الشهيرة للمغني الأمريكي نات كنغ كول واغنية «هذه أغنيتي» للمغنية الإنكليزية بتولا كلارك، التي كانت الأكثر مبيعا في بريطانيا. وما زالت الأجيال المتعاقبة تشاهد أفلامه وكأنها أنتجت بالأمس.

أوونا أونيل (1925 ـ 1991)

لم تكن زوجة تشارلي تشابلن الشابة سوى ابنة الكاتب الأمريكي يوجين أونيل الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1936. وتطلّق والداها عندما كانت في سن الرابعة، ومع ذلك كانت حياتها مرفهة، حيث أدخلتها والدتها أفضل المدارس في الولايات المتحدة. وكانت أونا (اسم أونا أيرلندي قديم ويعني الحَمل أي الخروف الصغير) تحب الحياة الصاخبة، حيث أصبحت من رواد الملاهي الليلية الشهيرة مع صديقاتها وهي في سن السادسة عشرة، ما أثار انتباه الصحافيين، وأخذت صورتها تظهر في الصحف الشهيرة، ما أثار غضب والدها، وهو ما لم تأبه به اونا، وأقامت علاقات غرامية مع الممثل أرسن ويلز والكاتب د. ج. سلنجر. وبعد ذلك أرادت أن تصبح ممثلة سينمائية، ما زاد من غضب والدها، ولذلك ذهبت إلى عاصمة السينما الأمريكية هوليوود، وهناك التقت بأشهر نجم سينمائي في العالم، ألا وهو تشارلي تشابلن. يقول تشارلي تشابلن في مذكراته أن حبهما بدأ منذ النظرة الأولى، وسرعان ما تزوجا، فقرر والدها التبرؤ منها.

الحياة بعد الزواج

أنجبت اونا أونيل أربعة أولاد في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن انتقل الاثنان إلى سويسرا عام 1952 أنجبت أربعة آخرين، مع العلم أن تشارلي تشابلن كان لديه اطفال من زيجات سابقة. وفي سويسرا فقد تشارلي تشابلن الكثير من الإمكانيات السينمائية التي كانت متاحة له في الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك لم تنجح أفلامه بالشكل المعتاد مثل «ملك في نيويورك» و»كونتيسة من هونغ كونغ». ولكنه قام بنشر مذكراته عام 1964 وكانت من أكثر الكتب مبيعا في العالم الغربي، وقام أيضا بتغيير موسيقى بعض أفلامه وإطلاقها مرة أخرى. وتوفي تشارلي تشابلن عام 1977 في منزله في سويسرا. وكان قد حصل على ثلاث جوائز أوسكار، ومنحته ملكة بريطانيا لقب فارس الامبراطورية البريطانية، وبذلك أصبحت زوجته تلقب «لَيدي تشابلن».

السرقة

بعد وفاة تشارلي تشابلن بثلاثة أشهر رن جرس الهاتف في منزل أرملته أونا وكان المتصل هو الشرطة السويسرية، حيث أبلغتها أن أحدهم قد سرق التابوت الذي حوى جثمان تشارلي تشابلن من قبره. وبعد ذلك تلقت أونا اتصالا من الخاطفين وطلبوا منها ستمئة ألف دولار أمريكي مقابل إعادة التابوت، وأنهم سوف يؤذون أصغر أولادها في حالة رفضها الدفع. ورفضت أونا الدفع، ولكنها خشت على سلامة أطفالها، فأبلغت الشرطة السويسرية التي وضعت خط هاتفها تحت المراقبة، وراقبت مئتي هاتف عمومي في المنطقة. وكان واضحا أن اللصوص كانوا هواة وسذجا وفي حاجة ملحة للمال، حيث اتصلوا بها هاتفيا مرة أخرى، فألقت الشرطة القبض عليهم فورا. واكتشفت الشرطة أن اللصوص كانوا عصابة متكونة من اثنين من اللاجئين السياسيين في سويسرا بزعامة رجل بولنديا، أما الآخر فقد كان بلغاريا. واعترف البلغاري بسرعة بكل شيء وقاد الشرطة إلى مكان التابوت الذي لم يكن قد تم فتحه من قبل اللصوص. وقامت زوجة البلغاري بإرسال رسالة إلى أونا طالبة الصفح، وردت عليها تلك برسالة مؤكدة أن الموضوع قد انتهى بالنسبة لها. وحكم على البولندي بأربع سنوات سجن مع الأشغال الشاقة، بينما حكم على البلغاري بسنة ونصف السنة مع إيقاف التنفيذ. وفي نهاية هذه المحنة قامت أونا بإعادة دفن التابوت تحت طبقة من الإسمنت المسلح كي لا تحدث سرقة جديدة له.

٭ باحث ومؤرخ من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صوت من مراكش:

    شخصية فنية يصعب حصر انجازاتها في مقال قد يكون تشابلن

    الشخصية السنمائية التي اوجدت قبول الفن السابع لدى الجماهير

    العالمية في ظرف قياسي بأفلامه الخالدة نجاح تشابلن لم يكن في السينما

    وحدها فكما جاء في المقال القيم فالموسيقى كانت احدى مواقع عبقريته

    و لعل اغنية Petula Clark ‘ This Is My Song’ شاهد على ذلك شكرا للكاتب

    تحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية