الحكومة اللبنانية معلّقة في الفضاء منذ حوالي الشهر بسبب الانقسام داخلها على إحالة المتورّطين في حادثة قبرشمون التي ذهب ضحيتها اثنان من مرافقي الوزير صالح الغريب إلى المجلس العدلي، تلك المحكمة التي تمتاز عن سواها بأنّ أحكامها مبرمة غير قابلة للمراجعة والاستئناف.
طيلة هذا الشهر استمرّ مطلب الإحالة إلى «العدلي» يضعف ويقوى من طرف رافعيه، أي بالدرجة الأولى جماعة النائب طلال أرسلان الموالية لنظام دمشق، ومن ورائها كل من «حزب الله» من جهة، وتيار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من جهة أخرى، الذي يقوده صهره وزير الخارجية و«وليّ العهد» جبران باسيل. وكانت حادثة قبرشمون حصلت في سياق احتجاجي لأنصار «الحزب التقدمي الاشتراكي» على زيارة باسيل لمنطقة عاليه ـ الشحار الغربي، في إثر تصريحات منه اعتبرت استفزازية ولا تتماشى مع منطق المصالحة المسيحية ـ الدرزية.
إلى حينه، لم تحلّ أحجية عدم التئام شمل الحكومة على خلفية الخلاف حول «المجلس العدلي»، في ظلّ التحسّس بأنّ وراء مطلب إحالة القضية إليه هناك نيّة لتطال دائرة المساءلة وزير التربية «الاشتراكي» أكرم الشهيب، وليس وضع القضية في كنف عدالة بطيئة مؤجلة كما هي الحال وقت أحيلت قضية اغتيال صالح العريضي في أيلول 2008، أيضاً إلى المجلس العدلي.
اجتمعت في حادثة قبرشمون تناقضات عديدة. اصطدم فيها مشروع تعبيد الطريق أمام «توريث» الرئاسة لجبران باسيل، ولو بعد حين، مع أزمة «التوريث» من الزعيم الدرزي «الاشتراكي» وليد جنبلاط إلى نجله تيمور، وهذه أزمة مزدوجة: فالتوريث يحتاج إلى إعداد سياسي ثم نقلة شاملة من جيل إلى جيل لا رجعة فيها، وليس مساراً تجهيزياً متواصلاً، ووسط أضواء الحلبة السياسية في الوقت نفسه. هذا من جهة الأب، أما من جهة الابن فيفترض أن تكون هناك أصلاً قابلية للوراثة السياسية… إلا إذا تحوّلت «الوراثة بالاضطرار ومن دون استمتاع بها» إلى أسلوب سياسي قائم بذاته.
اختلط في هذه الحادثة شعور الجزء الأكثري من المسيحيين بالاقتدار السياسي، واقعياً كان أو وهمياً، في ظلّ «عهد» عون و«سلطان» باسيل، مع شعور الأقلية السياسية الموالية لدمشق و«حزب الله» ضمن الدروز، بأنّ جنبلاط متجه إلى تسديد ثمن خيارات خاسرة، أضف إلى مشكلة التوريث، يأتي في طليعتها ذهابه بعيداً في الرهان على الإطاحة بالنظام البعثي ذي النكهة العلوية في سوريا، والجفاء الحاصل منذ شهور بينه وبين «حزب الله» على خلفية مشكل معمل ترابة لآل فتوش في عين داره، وهو مشكل يصرّ الحزب على أنّه بسبب من حسابات محض مالية لدى جنبلاط، فيما يروّج أنصار جنبلاط بأنّ هذا المعمل هو كناية عن قاعدة أمنية لـ«حزب الله» للهيمنة على أعالي الجبل.
«المجلس العدلي» مؤسسة «ما بعد كولونيالية». ليست جذوره التاريخية فقط راجعة إلى زمن الانتداب الفرنسي، بل اختلال شروط الاحتكام إليه في ظلّ دولة لا يمكنها أن تعدل بين الطوائف نظراً لكونها في الوقت نفسه دولة الطوائف
ثمّة تداخل بين تناقض مسيحي ـ درزي هنا وتناقض درزي داخلي. وثمّة، بالمحصّلة العامة، ضمور لـ«لبنان القديم»، لبنان الثنائية الجبلية المارونية ـ الدرزية، لصالح كيان من نوع آخر، ظهر مع توسعة حدوده إلى نطاق «لبنان الكبير» في أيلول 1920 أنّه بلد متمحور حول نواة مارونية ثم حول ثنائية مارونية سنية ثم حول مثالثة مارونية سنية شيعية، إنما يتراجع فيه بمجرّد قيامه وزن ودور الموحدين الدروز، الذين كانوا في مطلع العصر العثماني في بلاد الشام نواة الكيانية الجبلية (جبل الدروز أساساً قبل أن تروج تسمية جبل لبنان بنتيجة إحياء الرهبانية الحلبية المارونية لهذه التسمية التوراتية).
وبعد أن صعب على الدروز في القرن التاسع عشر تقبّل الندّية الثنائية مع الموارنة ثم رجحان كفتهم، فقد جاء تشكل لبنان الكبير ليضعهم في المرتبة الخامسة بين الطوائف، وهو أمر قاومه الدروز بأشكال مختلفة في بداية الانتداب الفرنسي، هذا الانتداب الذي كانت مشكلته عويصة مع الدروز سواء في لبنان أو في سوريا.
ونجاح الدروز في العودة إلى صلب المعادلة اللبنانية، إلى متن السياسة، ارتبط بالزعامة الاستثنائية لكل من كمال ثم وليد جنبلاط في النصف الثاني من القرن العشرين. ومع الاختلاف الشاسع بين الشخصين، إلا أنّهما أرسيا، كل من زاويته وفي مرحلته، معادلة نصف واقعية نصف أسطورية، تقوم على أن يظهر الدروز عند المنعطفات، بأنّهم الأكثر «تقدمية» في الطوائف، في الوقت نفسه الذين يحافظون فيه على المجتمع التقليدي الأكثر انطوائية بين هذه الطوائف، والذي من المغري وصفه بـ«العلماني القروسطي» كونه يستند إلى ثنائية راسخة بين المشايخ من جهة، وجمهور الدنيويين من جهة أخرى.
المفارقة أنّ أوّل عهد الدروز مع هذا اللبنان «الموسّع» والغافل لجذوره التكوينية الدرزية كان مع «المجلس العدليّ» إيّاه.
ففي مواجهة استقواء الموارنة بالفرنسيين، وتحت تأثير تدهور الأوضاع بين دروز الجنوب السوري والفرنسيين أيضاً، اختلطت العمليات العسكرية للمجموعات الدرزية ضدّ الفرنسيين مع التنكيل المتبادل بين الدروز والموارنة في الجبل، فاشتعلت المنطقة نهاية العام 1922، مطلع العام 1923، جراء قتل مجموعة من الدروز بقيادة محمود الرفاعي لسبعة مسيحيين في عين اللجة بجبل الباروك ثم قيام الدركي المسيحي عبدو نخلة بقتل أربعة دروز، فكان قرار المفوض السامي الكاثوليكي المحافظ ماكسيم ويغان بتشكيل محكمة مبرمة الأحكام هي «المجلس العدلي». يومها، انتفضت الطوائف الإسلامية كلّها في وجه هذا المجلس العدلي، إذ اعتبرت أحكامه استنسابية، تدين الدروز وتعفي الموارنة.
ومن وقتها إلى اليوم، لا يزال كل استحضار للمجلس العدلي في التجربة اللبنانية يترافق مع إحياء هذه المفارقة، مفارقة تمييزه بأنّ «أحكامه مبرمة» من جهة، والتحسّس منه لأنه «استنسابي» من جهة أخرى. الذي تبدّل معه هو سرعة النظر في الدعاوى. في زمن ماكسيم ويغان ما كان الأمر ليتجاوز أسابيع قليلة. أما في العقود الماضية فإنّه كان لكلّ قضية «زمنيتها» المختلفة عن الأخرى، وكان من نصيب قضايا غير قليلة «الجمود في الزمن».
من جهته، لم يتأخر الانتداب الفرنسي في الخروج من ثنائية «المبرم والاستنسابي» هذه، وأخذ يتأثر بالعرائض السنية والشيعية والدرزية المطالبة بشكل أو بآخر بأن يكون «استعماراً عادلاً بين الطوائف»، وصولاً إلى تصاعد شكوى الإدارة الكولونيالية الفرنسية من الموارنة، وانتقادهم لأنّهم يعملون بعكس ما تقتضيه كل من مصلحة فرنسا الانتدابية ومصلحتهم هم كموارنة.
لم يكن الإستعمار الفرنسي عادلاً بين الطوائف، لكنه اضطر لتبديل سياسته تجاهها تباعاً، وبما خلق «خيبة مسيحية» من فرنسا عبّرت عن نفسها بأشكال ووتائر مختلفة. ومع أفول الاستعمار ثم جلاء جنوده، بقي السؤال عن الطرف الذي يمكنه أن «يعدل بين الطوائف» قائماً. كيف يمكن أن تعدل الدولة الوطنية بين الطوائف في ظل كونها دولة الطوائف؟ السؤال بحد ذاته عبثي، على إلحاحيّته. ومن عبثيته استبقيت تجربة «المجلس العدلي» من الفترة الفرنسية، أي المجلس المنتظر منه إنزال أحكام صارمة وقطعية ومبرمة بوجه مثيري الفتن الطائفية، والذي لا يمكن للسبب نفسه أن يخرج من دائرة الاشتباه بـ«استنسابية» سياقه، كون الداعي إلى الاستمرار بصيغته، وإحالة القضايا إليه، هو في كثير من الأوقات داع استنسابي… إلا حين يكون شبه مسلّم بأن الإحالة إليه أشبه ما تكون بتقييد «ضد مجهول».
«المجلس العدلي» بهذا المعنى مؤسسة «ما بعد كولونيالية». ليست جذوره التاريخية فقط راجعة إلى زمن الانتداب الفرنسي، بل اختلال شروط الاحتكام إليه في ظلّ دولة لا يمكنها أن تعدل بين الطوائف نظراً لكونها في الوقت نفسه دولة الطوائف. وتبعاً لتهافت الثنائية التي يقوم عليها المجلس العدلي، ثنائية «المبرم والاستنسابي»، فهذه تجعله بمثابة تمدّد الانتداب الفرنسي إلى يومنا هذا. الفارق يبقى شغور منصب المفوض السامي الفرنسي، شغور ما استطاع أن يملأه أحد، بمن فيهم المتزاحمون المحليون والحكام العسكريون السوريون على لبنان.
كاتب لبناني