ما الذي يجعلنا نتفاعل مع نص مكتوب بلغة غير لغتنا حين نقرؤه في لغته، أو مترجما إلى العربية؟ وما الذي يتيح لنا إمكانية فهم حبكة قصة فيلم سينمائي ناطق بغير لغتنا، ونتفاعل معه بالكيفية التي نتفاعل بها مع فيلم يقدم إلينا باللغة التي نمتلكها؟ نجد الجواب عن هذه الأسئلة في ما يمكن تسميته بالنص الجامع، أو البنيات النصية الكبرى، المركوزة في الذهن البشري. ولما كان السرد موجودا في كل شيء، كان النص السردي الجامع يتضمن كل البنيات النصية السردية المشتركة بين الناس جميعا.
تقدم لنا الدراسات المعرفية والعلوم العصبية ونظريات الذهن وغيرها من العلوم التي تعنى بالسرد اليوم، خصوصية السرد في علاقته بأنماط التفكير واشتغال الذاكرة وإنتاج السرد وتلقيه. ومن بين ما تؤكده وجود بنيات سردية مشتركة بين الناس جميعا. وهي سابقة حتى عن البنيات اللغوية التي تجعلنا ندركها ونتفاعل بواسطتها. تبلور لديّ مفهوم النص الجامع من خلال اشتغالي بعدد كبير من المصنفات العربية الجامعة القديمة، حيث عثرت فيها على تواتر العديد من النصوص في كل تلك المصنفات، بحيث يمكننا حين التعامل معها في تعددها واختلاف مصنفيها النظر إليها بصفتها تتضمن جميعا نصا واحدا يتردد في كل المصنفات، ما دفعنا إلى اعتبارها، ليس فقط مبنية على الاشتراك، ولكن أيضا مؤسسة على الجمع لما يمكن أن تتضمنه النصوص الأخرى، التي ليست سوى تنويع عليه بصفة أو بأخرى.
إن هذا النص الجامع، وهو مفهوم ما يزال عندي قيد التشكل، وبغض النظر عن الأجناس والأنواع، موجود أبدا، لدى الإنسان منتجا ومتلقيا. ولما كان كل نص تناصا، كما تثبت ذلك نظرية التفاعل النصي، كانت كل النصوص التي أنتجت وستنتج متصلة بهذا النص الجامع، الذي يمكن اعتباره وليد برنامج مشترك بين الناس جميعا، لكن العلاقات الإنتاجية النصية كانت تدفع المتلقين في كل زمان ومكان في اتجاه البحث عما تتميز به الإنتاجات النصية المختلفة بهدف تقييمها وإبراز خصوصيتها. وكان البحث في الاختلاف أساس عدم الانتباه إلى الجامع النصي، بل يمكننا الذهاب إلى اعتبار هذا الجامع الضمني، وغير المنتبه إليه، هو ما كان يحفز على ضرورة البحث عن المختلف.
النص الجامع هو الذي يمكن أن يدفعنا إلى البحث عن المختلف، لكن هذا البحث سيظل ناقصا ما لم نتعرف على الجامع والمشترك، والمؤتلف والمختلف.
أرى أن مفهوم الجامع النصي، أو النص الجامع هو الذي يمكن أن يدفعنا إلى البحث عن المختلف، لكن هذا البحث سيظل ناقصا ما لم نتعرف على الجامع والمشترك، والمؤتلف والمختلف. قال الفرزدق حين اعتُرض عليه عروضيا لما أقوى في إحدى قصائده: «عليّ أن أقول، وعليكم أن تحتجوا». أما أبو العتاهية فكان يرى نفسه أكبر من العروض، وذهب المذهب نفسه أبو تمام حين لوحظ عليه خروجه على المعتاد: لم لا تفهمون ما يقال؟ نستنتج من هذه الأمثلة أن الاختلاف في الإنتاج والتلقي وليد التباين في تقدير النص الجامع الضمني، بالتركيز على جوانب تؤكد الاختلاف في ما صار يبدو مشتركا بسبب الثقافة، التي ترمي إلى خلق تقاليد مشتركة، والدعوة إلى عدم الخروج عما صار مشتركا مباشرا. وفي هذه العملية كان يتم الانشغال عما هو جامع ومشترك.
كان الأمر مختلفا مع المتنبي الذي شغل الناس، فجعلهم يأتلفون حوله ويختلفون إلى اليوم، لكنه كان يقول: «ابن جني أعلم بشعري مني». هذه القولة تعكس بجلاء ما نقصده بالقارئ الأحد، على وزن يوم الأحد المختلف عن كل الأيام، لأنه أحد، وإن كان يلتقي معها في كونه يوما كسائر الأيام؟ فهل أمسك ابن جني ببعض جوانب النص الجامع التي لم يلتفت إليها غيره؟
كان مسعى فلاديمير بروب البحث عن النص الجامع من خلال الاشتغال بمتن هائل من الحكايات الشعبية الخرافية، فعمل على الكشف عن جامعها النصي في إحدى وثلاثين وظيفة، عمل غريماس، انطلاقا من الهاجس العلمي نفسه على اختزالها، وتقليصها إلى ستة عوامل. ويمكننا تعداد الأمثلة من خلال أعمال غولدمان حول نصوص القرن السابع عشر، وقراءات باختين فرانسوا رابلي خصوصا، وروايات دوستويفسكي عموما. ولا ننسى في الإطار نفسه تحليلات جيرار جينيت للبحث عن «الزمن الضائع» لبروست.
إن النص الجامع الذي نتحدث عنه لا علاقة له بالترجمة العربية لكتاب «معمارية النص» لجينيت. إنه الكلي المشترك في الثقافة الإنسانية، وهو المتعالي على الزمان والمكان. يأخذ هذا الجامع النصي تجليات متعددة تتحكم فيها عوامل ثقافية واجتماعية وتاريخية وغيرها مما يجري في الحقب المتعاقبة. وهذه التجليات عرضة للاختلاف والتعدد، لكنها ترتد جميعا إليه. ولا يمكن أن يمسك بها إلا من اهتم بها من المتلقين الآحاد، وهم ندرة في الأزمنة المختلفة.
النص الجامع استكشاف من أجل الكشف عن البنية النصية الكبرى الكامنة في الذهن البشري. وبدون الانتباه إليها سنظل نبحث عن تحققات بدون أرضية تنبني عليها. ليس السرد ممارسة أدبية فقط، أو حكايات نتداولها. إنه فعل إنساني شامل يجتمع فيها ما اختلف، ويتفرق فيه ما ائتلف من أنماط وعي، وسلوكات، وعلاقات. النص الجامع بحث في الفعل الإنساني.
٭ كاتب مغربي
ذكّرني مقالك الجميل بملاحظة أثارت انتباهي قبل سنين خلت…إذْ زرت أكاديمية للفنون الجميلة فكان أحد دروس مادة الفنّ التشكيليّ للطلبة ؛ دراسة تشريح الأعضاء البشريّة ؛ كدراسة كليات الطبّ تمامًا…فسألت صاحبي عن السبب ؟ فأجابني : لا يمكن للفنان أنْ يتقن رسم أجزاء الجسم البشـــريّ إذا لم يــكُ ملمًا بأساسيّات التكوّين العضويّ له ؛ وممنْ يتكون ؛ وهذا لا يتمّ من دون تشريحها والوقوف على تفاصيلها الدقيقة.فمثل هذه الدراسة أظنّها نوع من النصّ الجامع للمعرفة. ولقد رأيت مصداق ذلك في لوحة لفنان كبيرراحل ؛ إذْ رسم كتف امرأة كأنّه لوحة حيّة يدبّ فيها نبض الدم ؛ باختياراللون والتموج المتناغم التضاريس بإتقان منسوج.وأرى أنّ الموازي لمفهوم النصّ الجامع لـلأذواق ؛ ما يمكن تسمّيته ( الرؤية ).أي أنّ هناك حاسة صامتة وعميقة ؛ لكنها جامعة لوعي ومشتركات البشرتقوم عليها الآداب والفنون ؛ كالعدسة المحدّبة الوجهين لتجميع الضوء في بؤرة.فهي بمثابة بصيرة رؤية ذات إطارمفتوح اللغة…وشكرًا للمقال الجامع للمحبّة.
عنوان جميل (نظرة على أخلاقيات القراءة) وأحب أن أضيف له (الفتوى وإصدار أحكام محكمة بدون إحاطة بالموضوع، والحجة عبالي، أو تنفيذ لأوامر المسؤول عن صرف الراتب في الدولة/الشركة/الأسرة)
ومن هذه الزاوية نفهم أسلوب دلوعة أمه (دونالد ترامب) في المفاوضات مع أي دولة كالصين وإيران بل وحتى الكيان الصهيوني وليس فقط السلطة الفلسطينية وأخيراً مع أفغانستان والهند والباكستان على أرض الواقع،
فهل هذا منطقي أو موضوعي أو مقبول قانونياً، أم هو التطبيق العملي للفوضى الخلاقة، ديمقراطية استفتاء البريكست، للخروج من الإتحاد الأوروبي ونتائجه في عام 2016؟!??
??????