«خرائط التيه» للكويتية بثينة العيسى.. تواطؤ الأنظمة في المتاجرة بالبشر

أن تعاد طباعة هذه الرواية «خرائط التيه» للكويتية بثينة العيسى الدار العربية للعلوم- بيروت أربع طبعات في سنة واحدة، فذلك لا يعني إلا شيئا واحدا، وهو كثرة الإقبال على قراءتها، ورواجها بين المهتمين بالرواية بوصفها الفن الأدبي السردي الأكثر شعبية بين فنون الأدب. فهي رواية تبدو من النظرة الأولى، رواية مشوقة، وقديما قيل إن التشويق هو أحد العناصر الأساسية التي تميز الرواية الجيدة عن غيرها من الروايات الزائفة والرديئة.
في مستهل الحكاية تمسك الكاتبة بتلابيب القارئ وأنفاسه، وهي تروي بالتفصيل ذلك المشهد الكوني للحجيج – نحو 3 ملايين وهم يطوفون بالكعبة المشرفة، في ذلك الطوفان البشري الهائج من الناس يجري التركيز على نحو يشبه تركيز الفيلم على أحد الأشخاص، على سيدة كويتية (سمية) تطوف كغيرها من الطائفين ممسكة بيد ولدها (مشاري 7 سنوات) الذي جاءت به متعمدة لأداء الفريضة، على الرغم من أنها ليست واجبة على من هم دون سن البلوغ، وعلى أمتار منها (فيصل) زوجها يواصل هو الآخر الطواف مع الطائفين. وفجأة يندفع سيل من الأفارقة الممسكين بعضهم بأيدي بعض ويخترقون المسافة القصيرة بين سمية ومشاري فأفلتوا يده من يدها وافترق الابن عن الأم، وصاحت به أن يواصل المشي كي لا يداس تحت الأرجل. وتلك كانت الفاصلة التي شطرت المشهد إلى شطرين، أحدهما مأساوي، يأخذ بتلابيب القارئ، وهو يتابع متلهفا حكاية الطفل الذي تاه عن أبويه، ومصيره بين 7 ذي الحجة و 29 منه.
يتنقل بنا الراوي بٌعيد هذه الحادثة التي امتدت آثارها وتشعبت من مكة إلى عسير، فجازان، فساحل البحر الأحمر، فعبور القوارب باتجاه سيناء في مسارات بحرية محظورة، فإلى صحراء سيناء بما فيها من قفار ممتدة حتى حدود العريش شمالا، ولا يفوت الراوي – أيضا – أن يصلنا بالحدود الجغرافية لفلسطين المحتلة، مسلطا الضوء على ما تداولته وسائل الإعلام الغربية من تجارةٍ الأعضاء البشرية، والصفقات السرية التي تؤكد ضلوع مسؤولين إسرائيليين، ومصريين، كبار في هذه التجارة.

الشخصيات

بيد أن هذا الهيكل الذي بنيت عليه الرواية، بما فيها من تفاصيل، ليس كل شيء، فالكاتبة حشدت شخوصا لهذا الغرض، فعلاوة على سمية وفيصل، والدي مشاري الذي تاه، وأصبح كالكرة بين أقدام اللاعبين، ثمة شخصيات أخرى بعضها من الكويت، وفي مقدمتها سعود شقيق فيصل، وهو شخص يختلف عن شقيقه في طباعه ومزاجه، وهذا شيء يلاحظه القارئ كلما تلاشت الآمال بالعثور على الصبي، وثمة شخص آخر جيء به من الكويت هو مازن، ومن الشخصيات النسائية روينا التي تسهم في نقل الصبي من مكة إلى الجنوب، بعد أن أوهمته أنها تساعده على العودة لأمه، بيد أنها مثلما ظهرت في الفيديو قبضت على مشاري وخدرته وغطته، وحملته بين ذراعيها، واختفت معه. وكشفت الأحداث عن علاقتها بجرجس، وهو شخصية أخرى تتزعم عصابة تقوم بخطف الأطفال التائهين عن ذويهم، وبيعهم لعصابة أخرى، وكانت روَيْنا قبل أن تتعرض للطعن من جرجس، قد اتصلت بفيصل مستخدمة رقم هاتفه المدون على قصاصة يحتفظ بها الصبي، وطلبت منه فدية لإعادة ابنه إليه، ولهذا الاتصال فعلُ الحافز المحرّك لكثير من المُجْريات في الرواية.

بسبب هذه المواقف التي تحْفلُ بها «خرائط التيه» لبثينة العيسى، وتتوافر فيها كثيرا، فقد تعَدُّ قراءتها تجربة لا تتكرر في غير هذه الرواية إلا نادرًا.

ومن الشخصيات التي عنيت بها بثينة العيسى شخصية جرجس نفسه، الذي اختفى في نهاية الرواية، وربما كان لاختفائه الغامض علاقة بالمشادة التي دارت بينه وبين عثمان، سائق سيارة الدفع الرباعي، أو المسؤول عنه. وثمة شخصيّاتٌ أخرى منها نظام شجاع الدين الباكستاني- الذي يدير مزرعة لرجل أعمال سعودي (إبراهيم حجاب) وكان قد توفي مؤخرًا, فهذا المزارع يعيش وحيدًا، وقد عثر بالصدفة على الطفل مشاري، الذي كان قد هرب أثناء المشاجرة التي اشتدت بين جرجس وعثمان وروينا على الشاطئ، وانطلق راكضا على غير هدىً، فقادته قدماه إلى أبواب تلك المزرعة، وارتمى متعبًا ليعثر عليه الباكستاني، ثم يأويه في المزرعة، لكنه بعد ذلك أساءَ معاملته، إذ قام باغتصابه مرارًا، وتحولت العلاقة بينهما إلى علاقة عداء. وحاول الصبي الاتصال بأهله مستخدمًا هاتف خلوي، لكن أحدًا لم يرد على ذلك الاتصال المتكرِّر، ولا يتضح السبب إلا من باب التأويل، وهو أن يكون هاتف نظام الباكستاني يخلو من مفتاح الاتصال الدولي.
ومهما يكُن منْ أمر، فإن نظام الباكستاني- لم يطق بقاء الطفل على تلك الحال الصحية المتدهورة، فقرَّر التخلص منه مرتين، ولكنه عدل في كل منهما عن تنفيذ قراره هذا. وبعد أن أيقن مشاري أن نظام يود التخلص منه، هرب من المزرعة، لتقوده قدماه كما في المرة الأولى- إلى مزرعة أخرى، للشيخ عيسى مفتاح، الذي أخبر الأمن فورًا، كونه كان قد تابع حكاية الطـــفل الكويتي المختفي في الصحف. فما كان من الأمن إلا أن اتصل بعــــائلة الطفل .. «بعد يومين من البحث، واثنين وعشرين يومًا من الاختفاء.. وفيم الجميع يشاركون في تمشيط الشواطئ للمرَّة الثانية، اقترب أحد الضباط من فيصل- والد مشاري- وهمس: بو مشاري، لدينا أخبار».

مقبرة النفايات

ولم تكن تلك الأخبار إلا البشارة بالعثور على الصبي، على أنَّ هذه الحبكة، وتلك الشخصيات، تنفتح لتستوعب مجريات أخرى، نجدها- غالبًا – في الفصل الحادي عشر. فعندما غلبت الشكوك على العُصابة عصابة جرجس وعبورها البحر الأحمر باتجاه سيناء، اضطرت العائلة لمتابعة البحث، لذا نجدهم يحلون في مطار شرم الشيخ الدولي. ويتصلون بفريق من المحققين، ويأمُّون بعد ذلك العريش. ويحلون ضيوفا على القسم الأول في مديرية أمن العريش، ويقضون بضعة أيام متنقلين بين فندق «سويس إنْ» ومديرية أمن العريش والمستشفى، حيث الجثث المتحللة والمتعفنة في ثلاجة الموتى. ومن خلال هذه الجولات مع فرق التحقيق، والبحث الجنائي، تسلط العيسى الضوء على مآلات كامب ديفيد، والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، متخذة من شخصية (هويشل) المُهرِّب الذي تاب عن التهريب، وقُبلتْ توبته على رأي المصريين، مفتاحًا يفضي إلى الكشف عن الكثير من الأسرار التي تكتنف العلاقة بين الاحتلال وبعض المسؤولين الكبار في الداخلية المصرية، ممن سهَّلوا، بوصفهم شركاء للإسرائيليين في تجارة الأعضاء البشرية، عمليات التهريب. وكان بعضهم وزيرًا في الداخلية في حكومة محمد حسني مبارك قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني. وعاد الراوي للكشف عن هذه الحقائق في الفصل الثالث عشر. يقول هويشل «إنهم يقبضون مبالغ هائلة لقاء تسلُّمِهمْ الجثث من إسرائيل، ويقومون برَمْيها في الصحراء. الجريمة لم تقعْ ها هنا. هذا المكانُ مجرد مقبرة، يعني مكبّ نفايات بشرية لشبكاتِ الجريمة. وهذا هو الأمر المثالي لهم، لأن أحدا لا يستطيع التصدّي له، هل فهمت؟».

الحكايات

وعلى الرغم من أنَّ الزمن الذي يفصل بين فقدان مشاري، والعثور عليه، لا يتعدى ثلاثة أسابيع، إلا أن المؤلفة استطاعت أن تطيل في المرويات حتى لكأنها تروي أحداثا ووقائع تجري في سنوات، ولهذا يستمتع القارئ بتلك التفاصيل، كما لو أنه يتابع فيلما بوليسيًّا، فيأمل معرفة النهاية، سعيدةً كانت بالعثور على الصبي، أم غير سعيدة. وتوْقُ القارئ لمعرفة المزيد يشتد كلما انصبَّ الساردُ بالحديث عن الجرائم التي ترتكب ضدَّ الأطفال التائهين، ويزداد الطين بلَّة كلما طُلبَ من الأب (فيصل) التعرف على ابنه من بين الجثث المتحللة في ثلاجة الموتى. وهذا الموقف يتكرَّرُ مرارًا بما فيه من قسوة استثنائية. وبسبب هذه المواقف التي تحْفلُ بها «خرائط التيه» لبثينة العيسى، وتتوافر فيها كثيرا، فقد تعَدُّ قراءتها تجربة لا تتكرر في غير هذه الرواية إلا نادرًا.

٭ أكاديمي وناقد من الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية