بعد أن عالج شتاته ضد شعبوية نتنياهو.. هل يبرأ “المعسكر الديمقراطي” من “برص” اليسار الإسرائيلي؟

حجم الخط
0

 تورط بنيامين نتنياهو في قضايا الفساد ثلاثي الأصفار، والسعي الجامح خلف حياة الملذات ومؤهلاته المدهشة من أجل بقائه السياسي تجعل معارضيه يرون فيه شخصاً يفتقد لأي رؤية فكرية. ولكن الحقيقة هي أن نتنياهو أيديولوجي بكل معنى الكلمة، لديه رؤية قومية متطرفة، إثنية مركزية وثابتة، وفي ذلك يكمن سر قوته السياسية في عهد الشعبوية العنصري ما بعد الحداثة في أيامنا.

الأسس الفكرية الراسخة لرؤية نتنياهو الإثنية–القومية المتطرفة يُعبّر عنها بالصورة الساخرة والبدائية التي توجد في المقولات التي أسمعها خلال حياته السياسية الطويلة. مثلاً، همسه المشهور في العام 1997 في أذن الحاخام إسحق كدوري “رجال اليسار نسوا ماذا يعني أن يكونوا يهوداً”. يبدو أن الحديث يدور عن تحريض واضح من دون أي بعد فكري يستحق النقاش الجدي. بنظرة عميقة، من الواضح أن هذا القول يعكس موقفاً أيديولوجياً مبدئياً، ويعمل نتنياهو على ضوئه بحزم متشدد منذ بداية حياته السياسية، ويقول إن القومية اليهودية والقيم الإنسانية والعالمية لليسار لا تستطيع أن تسير معاً.

 هذا الموقف رضعه نتنياهو من بيت والده: في نظر بنتسيون نتنياهو، فإن تأثير أفكار اليسار على الصهيونية كان خطأ تاريخياً مؤسفاً، شوش بصورة خطيرة التطور السليم للقومية اليهودية الحديثة. بناء على ذلك، كما شرح ذلك في مقدمة الترجمة الإنجليزية لكتاب “التحرر الذاتي” الذي ألفه يهودا لييف بنسكر (1944)، وبعد ذلك في كتابه “الآباء الخمسة للصهيونية” (2004) – بين القومية واليسار يسود تناقض عميق وقطبي لا يمكن تسويته. ليس هنا مجال لمناقشة الدحض التاريخي والسياسي للتشخيص الذي عبر عنه والد نتنياهو. الأهم هو التأكيد على أن نتنياهو الأب حين رأى في الربط بين الأفكار القومية الخصوصية والرؤية اليسارية العالمية، اضطراباً يخلق السخافات، فإن نتنياهو الابن يعمل فعلياً من أجل إصلاح هذا التشويه وإزالة أي تعبير ممأسس للرؤية اليسارية من المجتمع اليهودي في إسرائيل.

من هنا تأتي حملة نزع الشرعية المجنونة لمجرد مفهوم “يسار” في السياق السياسي والاجتماعي اليهودي – الإسرائيلي، الذي يقف في مركز الخطاب القومي المتطرف لنتنياهو منذ عقدين. لا شك في أن نزع الشرعية هذا الذي يقضي بأن تكون إسرائيلياً، ومعناه –معيارياً- أن تعارض كل القيم الأساسية لليسار، مثل المساواة المدنية والسياسية بين أبناء المجموعات القومية المختلفة، وحرية الفرد الليبرالية وحقوق الإنسان، ثم يعطي هذا في كل سنة ثماره المشبوهة.

على سبيل المثال، إذا وافقنا على السياسة العملية لحزب العمل خلال سنين، وكان هناك القليل مما هو مشترك مع قيم اليسار، فمن الواضح أن العمل بدأ -في عهد نتنياهو وإزاء التناقض الديماغوجي الذي يتخذه بين اليهودية واليسارية- في التخلي عن كل تماه مع تصنيف اليسار. هذه الظاهرة التي وصلت إلى الذروة الجديدة على شكل الاندماج بين عمير بيرتس واورلي ابكاسيس تحت شعار “لا يمين ولا يسار”، يمكن أن تؤدي إلى اختفاء العمل إذا لم يستطع اجتياز نسبة الحسم، أو أن يثبت مكانته كحزب صغير وهامشي. وبذلك يشكل لبنة مهمة في تجسيد حلم نتنياهو بتطهير الجسم السياسي الإسرائيلي من كل ما يطلق رائحة كيسار.

أما ميرتس ففي الطريق إلى الاختفاء من السياسة، ومن دائرة المصابين بـ”برص” اليسار. أجل، مع عودة إيهود باراك إلى الحلبة السياسية كرئيس حزب جديد مناهض لبيبي، وبعد الاتحاد بين العمل وغيشر، يبدو أن ميرتس بقي له خيار بين بديلين كارثيين، أحدهما أسوأ من الآخر: التنافس بشكل منفصل عن إسرائيل الديمقراطية لباراك والمخاطرة بأن لا ينجح في اجتياز نسبة الحسم، أو الانضمام لإسرائيل الديمقراطية والتنافس بقائمة واحدة بقيادة شخص ليس هناك شيء بينه وبين اليسار الأيديولوجي. شخص كان حليفاً خفياً لنتنياهو، وسبق له ودمر اليسار من الداخل قبل عقدين تقريباً، ثم يفقد مرة واحدة هويته القيمية كحامل لراية اليسار الإسرائيلي.

ولكن على خلفية قضية العلاقات التجارية لباراك مع المجرم المتهم بالتحرش الجنسي جفري افشتاين التي مست بشكل كبير بمكانته، وبفضل صمود رئيس ميرتس، نيتسان هوروفيتس، وتأكيده على الطابع الأيديولوجي الجذري لحزبه أمام حزب باراك، وجد ميرتس الطريق الثالث الأفضل – الاندماج مع إسرائيل الديمقراطية مع الحفاظ على مكانته السياسية والأيديولوجية المهيمنة في إطار هذا الاتحاد. التعبير الرمزي إلى حد ما لهذه المقاربة كان وضع باراك في مكان منخفض نسبياً في قائمة المعسكر الديمقراطي.

 يمكن أن نتفهم كل المشككين في أوساط اليسار الذين يمتعضون من هذا الاندماج بين ميرتس وإسرائيل الديمقراطية، لكن يصعب التوافق معهم. أجل، إن الشيطنة الكاذبة للطرف الفلسطيني التي أخفى باراك بواسطتها دوره في فشل محادثات كامب ديفيد، تسببت بضرر كبير لمعسكر السلام. لا يمكن معرفة ما إذا كان قد غير موقفه من الخطاب الكاذب وأحادي البعد الذي يناقض الشهادات المركبة والصادقة لمستشاريه المقربين – الخطاب الذي نشره بتشجيع من بني موريس ويحظى الآن بالتصفيق المتحمس من قبل اورن موريس (“هآرتس”، 26/7)، وعلى الأغلب من قبل كثيرين في أوساط رعايا دين “لا يوجد شريك”.

مع ذلك، من الموصى به النظر إلى نصف الكأس المليء الذي أمامه، مهما كانت مواقف باراك الحالية فيما يتعلق بأسطورة “لا يوجد شريك” التي اخترعها، من الواضح أن ميرتس الذي هو القوة الأيديولوجية المحركة للمعسكر الديمقراطي، يرفض هذه الأسطورة تماماً. حتى لو أن باراك ما زال يتمسك بأعماقه بموقفه الاستشراقي والعنصري الذي عبر عنه في المقابلة التي أجراها مع بني موريس قبل 17 سنة، والتي اقتبسها هنا في الصحيفة في الأسبوع الماضي تسفي برئيل (مثلاً: “هم” (العرب أو الفلسطينيون) نتاج لثقافة قول الكذب فيها لا يخلق تناقضاً”. “هآرتس”، 31/7). ففي الإطار السياسي الجديد الذي يعدّ حزب ميرتس فيه هو أوكسجين الحزب، وعيساوي فريج هو من مؤسسيه الأوائل، سيكون عليه أن يخزنها إلى الأبد، أو أن يترك المعسكر الديمقراطي بعد وقت ما من الانتخابات.

ومن أجل التغيير، مسموح لمؤيدي اليسار أن يظهروا الآن درجة من التفاؤل الثابت: الحزب الديمقراطي الليبرالي الوحيد في إسرائيل الذي وقف أمام خطر الفناء السياسي أصبح العامل المنظم الرئيسي لمعسكر اليسار. حيث يقف في قمة قائمته المحاربون المصممون ضد الميزانيات الضخمة للمستوطنات (ستاف شبير) والمنذر الوطني ضد عمليات الفاشية القومية – العرقية في المجتمع الإسرائيلي (مئير غولان)، ومن شأن المعسكر الديمقراطي بقيادة ميرتس أن يقود إلى بعث حقيقي لليسار الإسرائيلي، وبهذا ينهي مشروع الحياة الخاسر لبنيامين نتنياهو، وهو فصل الواقع السياسي الحديث للشعب اليهودي عن القيم الإنسانية العالمية.

بقلم: دمتري شومسكي

هآرتس 7/8/2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية