عندما يستيقظ التونسي أو الجزائري أو المغربي عادة من نومه، وينظر كل صباح في المرآة فإنه لا يسأل نفسه بالضرورة أن كان عربيا أم أمازيغيا؟ أم كان خليطا بين هذا وذاك؟ ولا يسألها ايضا أن كان مسلما أم لا؟ فالامور بالنسبة له محسومة ولا يليق أن يعاد الجدل حولها أو يفتح البحث فيها من جديد.
ولكن مع كل ما يحصل ويستجد من حوله، وداخل مغربه الكبير من أحداث وتطورات، قد لا يصب معظمها في صالحه وصالح هويته تلك، كيف سيكون حال الأجيال التي ستأتي من بعده؟ وهل ستجد في المستقبل شيئا يميز شعوب الشمال الافريقي ويسمى هوية مغاربية؟ ربما سيقول كثيرون هنا أليس الاولى بذلك المغاربي أن يدرك بداية مدلولات هويته، ويقتنع بوجودها قبل أن يحمل هم التفكير في بقائها أو زوالها بعد عمر طويل؟ ولا ريب في أن الخمول الفكري والتسليم الأعمى بأنها محفوظة إلى يوم الدين، وأنها لن تحتاج من أحد أن يفكر فيها أو يحميها من مخاطر التآكل والاضمحلال، هي العقبة الأكبر التي تحول دونه ودون ذلك، وتجعل من تأبيد ما يشوبها الان من تشوش، وربما حتى تجاهل وتنكر من قبل طيف واسع من أبنائها أمرا مستمرا وربما مستساغا لا يثير الحفيظة والقلق والحيرة. ولعل عالم الاجتماع التونسي الدكتور محمود الذاودي، وفق في وصف تلك الوضعية، حين تحدث عن جانب منها وهو،علاقة التونسي باللغة العربية، عبر ما وصفها بالازدواجية اللغوية الأمارة واللوامة، والتي شرحها على أنها تتمثل في وضعيتين اثنتين، ففي الأولى، أي في حالة الازدواجية اللغوية الأمارة يتآمر الفرد على لغته فيتجرد من كل علاقة نفسية معها، حيث لا تكون فيها للغة الوطنية المكانة الاولى في القلوب والعقول.
وفي الثانية يشعر بالغيرة على اللغة والحماس للدفاع عنها واستخدامها، رغم إنه يجيد أكثر من لغة أجنبية، ويحس مع ذلك بالذنب والتقصير إن لم يستخدم لغته الأم، أي العربية، ولكن ألا يعيش معظم التونسيين والمغاربيين الآن في ظل تلك الازدواجية اللغوية التي وصفها الدكتور الذوادي بالأمارة؟ ألا يحتقرون لغتهم ويقللون من شأنها، رغم كل ما يرددونه من أنها تبقى دوما لغتهم الرسمية الاولى، وما يكيلونه لها في المناسبات من إطراء ومدح ووصف بأنها لغة القرآن الكريم؟ ثم ألا يعيشون بدورهم وبالمقابل نوعا آخر من الازداوجية يمكن وصفه بالازدواجية الدينية الأمارة حين يحاولون التحلل من إسلامهم وتحويله لطقوس كرنفالية، وإبعاده عن جوهر حياتهم ومعاملاتهم، ويكتفون بالترديد أنهم عارفون بأحكامه ومتمسكون به، وليسوا بحاجة لمن يعلمهم قواعده، ويرشدهم لها ويدلهم عليها؟
لدينا مثالان حديثان من المغرب وتونس. فقبل أن يصادق البرلمان المغربي على قانون يجيز ما وصف بالتناوب اللغوي في تدريس المواد العلمية بالمدارس الثانوية، حارب المناصرون للفرنسة قبل شهور وبضراوة من أجل إقصاء العربية من برامج التعليم الثانوي في المغرب، وانتقلوا في الوقت نفسه من منبر إلى آخر ليؤكدوا أنه ليس هناك داع للجزع أو الخوف، ولا حاجة أبدا لإطلاق صافرات الإنذار، ولا مبرر للانشغال أو القلق على مصير اللغة العربية، لأنها مصانة الجانب ومحفوظة المقام، ولن يستطيع أحد، مهما فعل وأراد أن يمسها أو يشكك فيها أو ينازع في مكانتها كلغة وطنية ورسمية للمغرب.
لكن ألم تكن أقوالهم تلك تتطابق إلى حد كبير مع ما سبق وردده من نادوا من قبلهم بالمساواة في الإرث في تونس، حين كرروا أكثر من مرة أنهم لم يكونوا يوما معادين أو رافضين للاسلام، بقدر ما إنهم كانوا ومازالوا حامين له ومتمسكين به، على اعتباره دين الشعب والدولة، وإنهم لن يغيروا منه أو من وضعه في تونس شيئا؟
لاشك أن المعضلة الأساسية التي تواجه الهوية في المغرب الكبير ليست تكالب أعدائها الخارجيين عليها، بل غمط وتجاهل أبنائها وتنكرهم
على اختلاف الظرف تلاقت الطروحات والتبريرات نفسها في تونس والمغرب في مسألتين كانتا تبدوان منفصلتين تماما عن بعضهما بعضا، ولا صلة لواحدة منهما بالاخرى. ففيما قال المتحمسون للمشروع، الذي صار الآن قانونا في المغرب، إن همهم وغايتهم، تحسين مستوى التعليم، وعرضوا أرقاما وإحصائيات تثبت تدهوره وتراجعه في مقاييس الجودة العالمية المطلوبة، ورفضوا توجيه أي إشارة مباشرة تدل على أنهم يرون أن اللغة العربية التي تدرس بها المواد العلمية في المدارس الثانوية منذ أكثر من عشرين عاما، كانت هي السبب الأول والمباشر في ذلك، رفع أنصار المساواة في الإرث، وقد بقيت مشروعا على رف البرلمان في تونس، أصواتهم قبل ذلك لينددوا بالظلم والحيف الكبير الذي يقع على المرأة جراء تطبيق أحكام الشريعة عليها في مادة المواريث بالذات، من دون أن يمضوا أبعد ليقولوا بشكل صريح، إن العلة كانت في النص القرآني، أو في الدين الإسلامي الذي كانوا يلمحون إلى أنه كرس مثل ذلك الظلم. لقد كان الالتفاف على اللغة هنا وعلى الدين، دليلا اضافيا لوجود تلك الازدواجية المقيتة التي تميز طيفا واسعا من النخب المغاربية. فهي لا تستطيع أن تجاهر صراحة برفضها وعدائها للعربية والاسلام، ولكنها لا تتوانى بالمقابل عن العمل على اقصائهما وإبعادهما لا من الحياة العامة فحسب، بل حتى من الوجدان الشعبي. ولاشك أن المعضلة الاساسية التي تواجه الهوية في المغرب الكبير ليست في تكالب اعدائها الخارجيين عليها، بل في غمط وتجاهل ابنائها وتنكرهم لها، وفي تعاملهم معها، لا كعنصر أصيل من شخصيتهم بل إرث ثقيل لا يشعرون فعلا بالاعتزاز به ولا يقدرونه حق قدره. وقد يكون المدخل الجانبي لذلك، ما يعرف بالتعدد اللغوي والديني، فتحت ذلك الشعار الخلاب الذي يتقاطع مع شعارات براقة اخرى كالتسامح والانفتاح، بات انتهاك اللغة الوطنية والدين مشروعا ومباحا. ولأجل ذلك لم يكن غريبا أن لا يغفل الرئيس الفرنسي عند تهنئته لملك المغرب في الذكرى العشرين لجلوسه على العرش، عن التنويه «بالتزامه بالتعددية اللغوية، التي تتيح للشعبين تحقيق تقارب لا مثيل له» على حد ما جاء في نص البرقية التي وجهها له، أو أن يقول قبل أكثر من عام في مؤتمر صحافي عقده مع الرئيس الراحل قائد السبسي، خلال زيارته إلى تونس «إنني الاحظ أن الشباب في تونس ينتشر وسط عالمين لغويين العربية والفرنسية، وهذا مصدر ثراء في المتوسط. ومن المهم أن تبقى اللغتان متصلتين ولذا أشجع على تطوير الفرنكفونية، وأن يكون لابناء تونس مصدر للثروة» . فتكريس تلك الثنائية وجعل الازدواجية اللغوية وحتى الدينية أمرا طبيعيا هما المفتاح الذي سيقود التونسي والجزائري والمغربي، لان يفقد معالم خصوصيته بالتدريج، ولا يجد داعيا بعدها لأن يستفسر عمن يكون؟ ولكن هل أن غياب ذلك السؤال عن ذهنه يعني استقرار الحال؟ سيكون على الاجيال المغاربية اللاحقة أن تحسم يوما ما في الجواب!
كاتب وصحافي من تونس
للعلم ايضا… فنشيد المغرب الوطني ألفه الشاعر علي الصقلي الحسني…وأما العلم الأحمر فيعود إلى سنة 1666م.. ومن أدخل النجمة الخماسية الخضراء هو الملك محمد الخامس لتمييزه عن أعلام الدول الشيوعية. ..وليرمز إلى أركان الإسلام الخمسة. …