“التلصص” رواية المصري صنع الله إبراهيم: عودة إلى رائحة المكان ومرابع الطفولة

هاشم شفيق
حجم الخط
0

الروائي المصري صنع الله إبراهيم أحد أبرز روائيي مرحلة الستينيات في مصر، تفرد باكراً بصوته السردي الخاص، وعرفناه باكراً أيضاً عبر روايته القصيرة التي نشرتها له مجلة شعر “تلك الرائحة” وأحدثت يومها ضجيجاً إعلامياً كرسته كاسم مهم في خريطة الرواية العربية الحديثة وقصتها كذلك. فصنع الله إبراهيم روائي وقاص وكاتب أيضاً، و”تلك الرائحة” هي أقرب إلى عالم القص، ويمكن تسميتها بالرواية القصيرة، أي النوفيلا، ذلك العمل القصير الذي يحدث بكثافته وسطوره المختزلة ورؤاه المكثفة، هِزّة جمالية لدى قارئها، وهذا فعلا ما صنعه صنع الله في “تلك الرائحة”. رواية جمعت فنون السجون العربية كلها، وقدّمتها في طبق لغوي لذيذ، شهي ومكثف، في طبخته الإبداعية، وفي تصوير المشاعر الإنسانية، حين تقع تحت طائلة الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية التي تدعي الدفاع عن الفقراء والناس المحرومين، كما كان يصوّرهم حكم جمال عبد الناصر، ذلك الحاكم الذي زجّ بالشيوعيين والإخوان المسلمين والقوميين غير الناصريين في السجون والمعتقلات، وأذاقهم علقم الحياة المرة إبّان عهده المتقلب بين الشدّة واللين، بين القسوة ومظاهر العطف، على الموالين والأطفال ورجال المخابرات، لقد صوّر لنا صنع الله إبراهيم ذلك العالم الدامي، والعنيف من قبل حفنة من الجلادين الذين تركوا آثارهم واضحة، على جلود وحياة الأسرى المعتقلين، باسم الاشتراكية والتناغم القومي .

من هنا سخَّر الروائي المصري جلّ أعماله لكشف النوايا البطرياركية للحكام، وكشف العامل الميكافيلي لديهم، فصوّر ذلك لنا في أعماله اللاحقة مثل “اللجنة” و”نجمة أغسطس” و”بيروت … بيروت” و “شرف” وغيرها من الأعمال اللافتة في مشواره الطويل، وهي أعمال قليلة قياساً بتجربته الطويلة في الكتابة، ولكنها أعمال تخضع للحذف والمساءلة الإبداعية الشخصية، قبل طبعها، ولهذا نجد جلّ أعماله يعاد طبعها، لمتانتها، وحسن صنيعها، وبلورتها لدرجة النقاء، مما يؤهلها لإعادة الطباعة، طمَعاً بقراءتها على مدى أوسع، ومن أجل أن ينتفع قطاع واسع من القراء بجمال صياغتها .

من هنا نرى العمل الجديد لصنع الله إبراهيم رواية “التلصص” يخضع للمقاييس ذاتها، تلك التي سبق ذكرها، فهي تنتمي بعد هذه الخبرة الطويلة في الفن الروائي إلى مسار الأعمال النقية أدبياً وفنياً، لا بل تعد عملاً يساعد الروائيين الجدد ممن يبدأون خطواتهم الأولى في هذا المضمار، على تلقّي عملية التهذيب اللغوي في عملهم، وترشدهم أيضاً إلى فن الاختصار، وهمل السطور والصفحات الزائدة، للأخذ بلباب قلمهم إلى السداد الساعي إلى التطوير في الأدوات الإبداعية، وقد تساعد أصحاب الورشات على تحفيز طلابهم على فن المحو، والتركيز، والاختزال، في حال الهذيان، والهذر، والانسياب الذي قد يحدث بدافع الانبهار بالسياق المكتوب، لدى الروائي الشاب والمُحدث .

في رواية “التلصّص” نجد الكثير من هذه البراعات الفنية، تطفو واضحة بين السطور الملمومة على نفسها، دون اتخام الرواية بالمشاهد الزائدة، والصور المستهلكة، والحوار الطويل والممل، والسرد غير المقنع، في بعض المواقع من الرواية، بيد أننا نعثر على هذه التقانة المعرفية والفنية بسهولة، في أعمال صنع الله ابراهيم، وبالأخص في “التلصص”، حيث تراكمت الخبرة، وفاضت على النص، وبان المحذوف وانكشف الزائد المتواري داخل النسيج الروائي.

يعود بنا الروائي في روايته هذه، إلى أيام طفولته وهو في الخامسة من العمر، مترصداً، ومقتنصاً، ومختطفاً المَشاهد، والتفاصيل الدقيقة، ليخزّنها في لا وعيه، وبمرور الزمن ستتحول هذه المقتطفات من الرؤية، إلى عالم كبير من الوعي، وعي بالزمان والمكان، زمان الملكية الذي يدلّ عليه الروائي من خلال الاستعارات، والعناصر الزمنية القديمة، من مفردات ذلك الزمان، الطربوش، والترام، والزي السائد حينذاك، وعلى ذكر نوع من عادات وتقاليد تلك الأزمنة كالشارب الطويل المرفوع إلى الأعلى، وكذلك عادات الشارع، والسوق، والساحات العامة، والميادين والمساجد، وبعض التعازيم التي ترافق تلك التقاليد في الأعياد، أيام المولد والزيارات للأماكن الدينية، من قبل العامة، وعبر كل هذه العناصر مجتمعة، سنتحسّس الزمن، ونتوقع من هو حاكمه، وكذلك من خلال إيقاع الرواية، وهي تجوس في الشوارع والأماكن والمحطات، نتوصل إلى رائحة المكان، بكل تفاصيله، وذلك أيضاً يأتي من خلال الوصف الجذاب، وعبر السرد العارف، بخفايا المكان، وزواياه، وتفاصيله المرئية والدقيقة هنا وهناك .

يرصد الطفل وهو الراوي العليم بكل ما يدور حوله، دراسته في المرحلة الابتدائية، صفوف المدرسة، الطلاب يوم ذاك، إنه عين مراقبة، وكشّافة، وثاقبة لكل شيء، تسجّله، فترى إلى العلاقات الاجتماعية كيف تسود، وكيف تمضي بين الناس، راسمة عالمها الصغير، بعينها هي، عالم سيكون كبيراً، وواسعاً حين يكبر الطفل المراقب، والمُسجِّل للتفاصيل اليومية، خبايا وخفايا المجتمع البسيط، الحارة والسوق ودكان الحارة، اللحام، والعطار، وبائع الألبان والخباز، والمقهى الموازي للحارة، سينما فاليري وغيرها من دور السينما الموجودة وسط البلد، كلها سيمرّ بها الطفل، وهو يتحرك في عالم الكبار، فضلاً عن الأولاد في مثل سنّه، إن كانوا في المدرسة، أو في الحارة، تلك الحارة متداخلة الشرفات والأبواب والبيوت الملاصقة لبعضها، بحيث تُسمع وتُرى أصغر نأمة من شقوق أبوابها وشبابيكها “نتمهل في مدخل الحارة المظلمة، نخطو في بطء، ضوء خفيف، من خصاص الأبواب الخشبية للبلكونات، شيش بلكونة المنزل المقابل لنا مفتوح، لكن المصاع الزجاجي مغلق والستائر مسدلة خلفه، نتعثر في مدخل المنزل، نصعد الدرجات القليلة المتآكلة، باب شقتنا المظلمة يمين السلم المؤدي إلى الطوابق العليا، إلى اليسار فجوة غامضة تؤدي إلى مخزن البقالة أتجنب النظر نحوها”.

أما عنوان الرواية “التلصّص” فهو يضيف إلى عالم الرواية الكثير من عناصر التشويق، فالتلصّص بحد ذاته، يبدو عملاً مثيراً، بالرغم من كونه يحمل طابع غزو حرية الآخرين دون علمهم، حين يقومون بأعمال خفية، مثل ممارسة الجنس، أو حركة وحياة النساء في حمام عمومي، أو التلصص على ابنة الجيران، أو مراقبة امرأة ماذا تعمل في خلوتها، مثل نزع شعر السيقان، أو وضع الماكياج، أو الاستحمام بمفردها، أو النظر إلى الجيران من الشرفات والشبابيك واختلاس النظر إليهم ماذا يفعلون، وماذا يدور بينهم، من تفاصيل حياتية يومية، تجعل المتلصّص يغدوَ فضولياً، لرؤية المزيد، وخصوصاً إذا كان المقابل لا يعلم بذلك “أقف خلف الزجاج، ألصق وجنتي بسطحها، لأتمكن من رؤية المنزل، الواقع على الناصية، نافذة صبري أفندي مفتوحة، تظهر زوجته لحظة، ثم تختفي، قصيرة سمينة، يمتلئ وجهها بحبوب الحمونيل، أولادها أيضاً، البنت الكبيرة سهام، والوسطى سها، والصغيرة سلمى وسمير الأصغر منها”.

تكشف الرواية حين تتوغل في متونها، عن حكاية الابن الصغير الذي يروي كل شيء حوله، ووالده الذي يرعاه، وتظهر فيما بعد مدبرتان للمنزل، ويظهر صديق للوالد يتردّد عليه، وهناك زيارات للوالد، يقوم بها إلى شقة ابنته المتزوجة أيام الأعياد، وهناك أسماء أخرى لشخصيات ثانوية ومهمَّشة كاللحام وبائع الجبن والخضار، وأسماء أخرى يتردد صداها في الحارة، من جيران وأقارب، وشخصيات تعمل في وظائف الدولة، كانوا أصدقاء للوالد المتقاعد، الذي كانت له زوجة أصيبت بالجنون، يذكرها الصبي، وهو الراوي العارف بكل ما يدور في الحارة، وفي حياة والده الذي يسعى للزواج بأخرى، وما يحدث لأمّه الراقدة في مستشفى للأمراض العقلية، يذكرها هنا حسب التكنيك الروائي المعروف بتيار الشعور، حين يقترب من ذكرى ما ترتبط بها، فتأتي الذكرى أو الاستذكار، بصيغة كتابية مختلفة، في صفحات الرواية، لتكون مرقونة بالحرف الأسود، وتكون مختلفة أيضاً، عما هو سائد في الصفحات المرقونة بالأبيض.

كذلك نسق السرد أخذ شكلاً مغايراً، حسب ما تطلّبه الموقف والمشهد من تقنيات إجرائية، فتحوّل الحوار إلى اللهجة المحكية، وهي تقنية يلجأ إليها بعض الروائيين، من أجل إيصال العامل الفني، والجوهري إلى مبتغاه الأمثل في تضاعيف الرواية ونسيجها اللغوي.

تنطوي رواية “التلصّص” على موضوعات كثيرة، ولعل أهمها، الموضوعة السياسية، والسياسة هنا تضيف إلى العمل الروائي بعداً آخر، يوضح مسار ذلك الزمن القديم المتمثل بالملكية، فالناس في تلك الفترة حسب الرواية، كانوا يدينون النظام الملكي ورجاله، وكانوا يتظاهرون ويحكون في السر والعلن عن النظام الحاكم، وكانوا يتفكهون على الملك، المتيّم بالنساء، والجنس والعشيقات، بينما الشعب كان يجوع، وفلسطين أضحت منذ تلك الفترة تضيع، في أزمنة الهيمنة البريطانية والفرنسية على مقاليد الأمور في البلدان العربية.

صنع الله إبراهيم: “التلصّص”

الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة روائع الأدب العربي، القاهرة 2019

300 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية