أوبريت العشرة الطيبة: عبقرية سيد درويش الموسيقية وغنائية المصريين الطيبين

بين الحاكم المملوكي «سنجق مماليك البندر حجي بابا حمص أخضر» والوالي التركي «فخر الدين باشا أبو زعيزع» وكل منهما على درجة مذهلة من الغباء، يعيش الشعب المصري مع حظه السيئ العاثر، وبخته المائل وقلة حيلته، في أوبريت «العشرة الطيبة» الذي تم إنتاجه وعرضه عام 1920 على مسرح نجيب الريحاني، وكتبه محمد تيمور وألف أغنياته بديع خيري ووضع موسيقاه سيد درويش، لكن أجواء هذا الأوبريت ليست أجواء قصور الباشوات التي ينتمي إليها محمد تيمور، أو قاهرة بديع خيري، أو إسكندرية سيد درويش، وإنما أجواء الريف المصري، حيث تقع أحداثه في كفر الحاج محمود، وأغلب أبطاله من الفلاحين، أما عنوانه فهو يشير إلى عشرة من المصريين خمس نساء وخمسة رجال تطول حكايتهم، يتعالى الوالي التركي على الحاكم المملوكي ويراه رغم قوته العسكرية «حتة مملوك»، ويجتهد كل منهما في قتل المزيد من المصريين، بعد أن قتل المملوك خمس نساء، وقتل التركي خمسة رجال، ولكل منهما أيضاً يد مصرية يقتل بها، فالتركي لديه الحاجب ابن عرنوس، والمملوك لديه أمين السر معلم حزنبل الكيميائي، وهما كذلك على درجة لا بأس بها من الغباء، تثير تعجب البعض من وصولهما لمثل هذه المناصب الرفيعة «سبحان العاطي من غير مناسبة» وسوف تزيل العجب وتكشف السبب أشهر أغنيات الأوبريت «عشان ما نعلى ونعلى ونعلى لازم نطاطي نطاطي نطاطي» في أحد مقاطعها العبقرية تلحيناً للمجموعة التي تقول: «الرك على حبة بولوتيكا وذمة كاوتشوك خربانة، ما دام الأمير ملته أنتيكة لازم الرعية تكون وحلانة».


يعد هذا الأوبريت من أعظم مؤلفات سيد درويش الموسيقية، وتعكس بعض الجمال الذي نثرته في الكون موهبته العبقرية، وهي ملهمة إلى أعلى درجة ومفعمة بالروح المصرية، تتميز بابتكارية شديدة في زمنها، ورغم قدمها وكلاسيكيتها اليوم إلا أنها قريبة جداً من نفوسنا، وتعرف تماماً ما تخاطبه في دواخلنا، كما أنها تهدر بأستاذية سيد درويش ومعرفته الموسيقية الجبارة، وبراعته الفنية الخلاقة، والتزامه بقواعد وأصول الأوبريت الفنية، والأوبريت ما هو إلا أوبرا مصغرة لا تمتلئ بالمشاعر العميقة والحزن الشديد، كما في الأوبرا، وإن كان سيقترب منها أحياناً ويحمل بعض ملامحها، وهو ليس «أوبرا كوميك» وإن كان فيه بعض المرح والخفة والمبالغات الفنية البسيطة، والخفة هنا لا تعني أننا لا نستطيع أن نأخذه على محمل الجد، فهو موسيقى شديدة الجدية، مصممة هارمونياً بشكل صارم، وفي ما يخص الغناء، لا نستمع إلى نوتات عالية جداً، كما في الأوبرا ولا يتحرر الغناء بالكامل ليخرج من إطار الغناء الدرامي المسرحي، كما لا توجد مبالغة قوية أو تطرف شديد في التعبير عن المشاعر بفرح صاخب أو حزن بالغ الإيلام، وهناك دائماً ذلك الهدوء والاطمئنان حتى في أقسى التحولات النفسية، ونرى أشد المشاهد قتامة يغلفها الإيمان، ونلحظ هذا الهدوء أيضاً في المشاجرات والمبارزات كمشاجرة «نزهة» و«ست الدار» على «سيف الدين»، وهي مشاجرة موسيقية قبل أن تكون مشاجرة كلامية، والمبارزة بين «حمص أخضر» و«سيف الدين» على «نزهة»، وهي أيضاً مبارزة موسيقية في المقام الأول، لكن الموسيقي الشاب الموهوب سيد درويش، يعبر عن كل ذلك ويمنحك الإحساس الملائم تماماً من دون صخب أو عنف، وبالطبع عندما نستمع إلى المقاطع الخاصة بالمجموعات، نجدها على درجة هائلة من التميز والجمال، لامعة مضيئة خالدة، فهي أغنيات يغنيها الشعب، والبراعة في التعبير عن مشاعر الشعب هو ما يجيده سيد درويش، ويظهر ذلك في هذا العمل الموسيقي العظيم، بما فيه من روح عجيبة هي روح القوة والحرية، قوة الفن وحرية الإبداع، روح النفوس المضيئة التي لا تعرف الظلام، روح الشباب الذي كان يبدع بحرية مطلقة بدون خوف من أي عواقب، وبلا تفكير في أي شيء آخر سوى الفن، فكاتب هذا العمل محمد تيمور الأرستقراطي الوسيم قد توفي في التاسعة والعشرين من عمره، وتوفي سيد درويش في الحادية والثلاثين من عمره، ولم يبق سوى بديع خيري ليكمل الرحلة مع شريكه المثالي ورفيق عمره نجيب الريحاني.

الحب في هذا الأوبريت حر جريء طليق من كل قيد، لا ممنوع ولا رقيب ولا تراجيديا تحيط به، والتعبير عن الغزل الحسي الصريح لا يقوم به الرجل وحده، وإنما تشاركه المرأة في وصف الجسد والعناق والقبلات.

الحب في هذا الأوبريت حر جريء طليق من كل قيد، لا ممنوع ولا رقيب ولا تراجيديا تحيط به، والتعبير عن الغزل الحسي الصريح لا يقوم به الرجل وحده، وإنما تشاركه المرأة في وصف الجسد والعناق والقبلات، فلا مجال للتمنع والمناورات النسائية، وتدافع المرأة عن حبها بقوة، سواء كانت «ست الدار» أو «نزهة» فتحاول ست الدار الحصول على سيف الدين، الذي لا يحبها وإنما يحب نزهة، ولا تتخلى نزهة عن سيف الدين بعد أن يأخذها الوالي التركي إبنة له، وتصر على أن يلحق بها، وبداية حبهما في هذا الأوبريت تذكر المستمع بعض الشيء بأوبرا «روميو وجولييت»، عندما يقف روميو أسفل شرفة محبوبته جولييت ويغني «أشرقي أيتها الشمس»، فيقف سيف الدين كذلك أمام عشة (بيت) حبيبته نزهة لأنه اشتاق إليها، رغم إنها كانت معه بالأمس، وقبل أن تشرق الشمس يعزف على الناي ليوقظ حبيبته التي لا تزال نائمة، ثم يغني «أنا م النجمة في استنظارك» فما أن تستيقظ وتستمع إليه حتى تجيبه على الفور «أديني نازلة» وبخروجها إليه يبتعد الأمر كثيراً عن روميو وجولييت، ويتحول إلى حب حسي وغزل صريح مباشر فيتبادلان الحب وسط طبيعة الريف ويتحدثان عن ليلة أمس وأوقات أخرى سابقة، لا يستطيعان نسيان جمالها ورقتها، وما أجمل الحب حتى في أحلك الأوقات وأقسى الظروف.
أما ثيمة الزفاف فهي الثيمة الموسيقية المتكررة في الأوبريت، حتى إن أتت في مواضع غير مواضع الزواج، كما في زفة نزهة إلى بيت والدها الجديد، بعد أن صارت الأميرة جلبهار ابنة صاحب الأبهة والكمال فخر الدين باشا أبو زعيزع الوالي التركي، حين يغني سيف الدين حزيناً، على الرغم من أنه سيلحق بها، لكنه يخشى هذا التغير الهائل، ويخاف أن تضيع منه محبوبته فيردد بقلق وأسى: «اتمختري واتغندري واتجعصي في التختروان (الهودج)» ، وفي جملة لحنية أخرى على الإيقاع نفسه، لكنها بالغة العذوبة يقول: «مهما أسوح ولا أنوح ده أنا أروح وراكي كردفان»، ثم تأتي ثيمة الزفاف في حركة موسيقية بطيئة بإيقاع جنائزي بعض الشيء، في زفاف نزهة الذي لم يكتمل على «حمص أخضر» حيث تغني المجموعة «اتمختري يا عروسة واتهني بعريسك زينة العرسان» وفي نهاية الأوبريت تعود ثيمة الزفاف بفرحها المعهود في «الحب يحلى في نص الليل».
وعن مصادر الضحك في هذا الأوبريت، فهي بالطبع ليست سوى الحاكم المملوكي والوالي التركي فهما مسخرة يتمسخر عليها الشعب، وكم هي عظيمة ودقيقة وعميقة تلك المقاطع كتابة وتلحيناً وروحاً نابضة بمشاعر المصريين، كما في ذلك اللحن الساخر من الوالي التركي وأحاديثه البلهاء حيث تغني المجموعة: «وغرامه تملي إيه نترصص دايماً حواليه، واللي قاله زمان هيعيده ويدش قديمه في جديده» ولا يكتفي بديع خيري بذلك ويزيد من دهشتنا بقوله: «مهما تسمعوا تهجيص إعملوا روحكم بلاليص» والتهجيص هو الكلام الفارغ، أما البلاليص فهي نوع من الأواني الفخارية، ويبدو أن هذا المقطع قد أعجب سيد درويش كثيراً، وأثار طاقاته الإبداعية فنراه تفوق كثيراً في تعبيريته الموسيقية، وبتكراره السريع المتلاحق لكلمة بلاليص يجعل المستمع يتخيل بالفعل البلاليص الكثيرة المتراصة المتراكمة، ويتميز لحن «أحنا الغجر وانتوا الحكام» بتنويع موسيقي كبير وتلوين هارموني وغناء المجموعة والإلقاء الملحن الذي هو غناء أقرب إلى الكلام لكنه منغم.
ويبدو سيد درويش كموسيقار عالمي بكل معنى الكلمة في لحن «يا مرحبا بك» الذي تغنيه نساء القبور الخمسة ترحيباً بصاحبة القبر السادس «ست الدار»، حيث أناقة الأسلوب وتعددية الأصوات وهذا الحزن المهيب الآسر المغلف بالإيمان وتبادل الشكوى والمواجع، إذ تغني المجموعة: «إيش جار علينا ياما خدعنا» فترد ست الدار قائلة: «ما ضاقت إلا وفرجها سيدك يا رب نجينا م المهالك، دي العبودية خلص زمانها وآدي الحرية هيؤون أوانها»، في هذا اللحن الجنائزي تظهر جماليات الموسيقى الأكثر اكتمالاً وتطوراً، كما أن فيها بعض ملامح الموسيقى الإيمائية في فن الباليه فيتخيل السامع رقصهن البطيء وسط القبور على ارتعاشات الأنغام.
وما أجمل نهاية هذه الأوبريت عندما نكتشف أن المصري لا يقتل المصري، وأن حاجب الوالي التركي وأمين سر الحاكم المملوكي مخلصين للشعب، وأن القبور خاوية فارغة ممن يظن الحكام أنهم في داخلها، وأن السم لم يكن سماً وإنما كان أبو النوم (منوم) وأن الجميع أحياء على أرضهم ينعمون بالحب والحياة.

٭ كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول [email protected]:

    الدليل الصارخ على اهمية الموسيقار سيد
    .
    درويش في تاريخ الموسيقى العربية هو غناء
    .
    اشهر المطربين ﻻغانيه مثل فيروز مارسيل
    .
    خليفة وحتى الموسيقار محمد عبد الوهاب
    .
    يقال ان مقدمة رائعة كليوباترا من توقيع
    .
    سيد درويش و قد وافته المنية قبل اﻻنتهاء
    .
    من تلحينها
    .
    تحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية