تواجه قراءةَ النصوص صعوباتٌ جمة، بعضها يمكن تذليله، وبعضها نقف إزاءه مدفوعين مصدودين. ولعل أبرزها العلاقة التي تعقدها الكتابة الأدبية بالشـفهيـة؛ وقد تكون مبنيـة، في جانب منها، على «القصور اللغوي» أو «الوهن اللغوي»، كما ذكرنا في مقال سابق؛ الأمر الذي يمكن أن يتكشـف عن نزعتين تصرفان الذات الكاتبة إلى الكلمة الملفوظة أو إلى الكلمة المكتوبة. وعنذئذ يمكن أن يوسم الخطاب بـ»الذاتانيـة» كلـما كاشف قارئه بقصور الكتابة وجاهره بعدم كفايتها، ونزع إلى محاكاة خصائص الشـفهي، أو المشترك أو المبتذل اللغوي (الكليشيه).
ويوسم الخطاب بـ»الموضوعانيـة « كلـما جاهرنا بقصور الشفهي وعدم كفايته، ونزع إلى استثمار خصائص المكتوب استثمارا منظما. فنحن في كل نص تلقاء نمطين من الكتابة مختلفين، على أنـنا نشير إلى فرضية قديمة في التـراث البلاغي عند العرب تعلل الظاهرة التي نحن بصددها. فابن قيم الجوزية يفسر هذا التحرر من الضيق اللفظي، وهذا الاتساع في اللغة في ضوء ميل العرب إلى «الاتساع في الكلام وكثرة معاني الألفاظ، ليكثر الالتذاذ بها… وكلما دق المعنى رق مشروبه عندها، وراق في الكلام انخراطه ولذ للقلب ارتشافه وعظم اغتباطه… ولذلك كثر في كلامهم حتى صار أكثر استعمالا من الحقائق، وزينوا به خطبهم وأشعارهم حتى صارت الحقائق دثارهم وصار شعارهم».
ومن ثمة ميـزوا بين مجاز لغوي اضطراري يبرز السـمة الظاهرة في الشيء، وبين مجاز جمالي اختياري يخرج الشيء على غير مخرج العادة والألفة. على أن هذه الفرضيـة لا تصلح أن تكون علـة لتشريع حكم قاطع في مسألة التجاذب بين «الشـفهي» و»الكتابي» في الشـعرية العربية، خاصة القديمة، حيث النص محكوم في جانب كبير منه، بوظيفة الممتع المفيد أو الحسن النافع. والقديمة في السياق الذي نحن به تتسع لطورين كبيرين في تاريخ الشعر عند العرب: طور ما قبل الإسلام، وطور ما بعده حيث شاعت الكتابة وانتشرت بعد أن كانت وقفا على الخاصة. وكان الشاعر والكاتب عامة، قد وجد ضالته في الكتابة أو في التنظيم الكتابي المحكم الذي يكبح سطوة «الكلام الوحشي» الذي يمكن، ما لم يروض ولم يستحكم، أن يتصرف في النص وبه، وفق مشيئته، فيرسل النفس على سجيتها منقادة لميولها وأهوائها، ويفضي بالنص إلى مبذول القول ومطروق المعاني.
وهذا التنظيم الكتابي يتسع للأنواع أو الأجناس النثرية مثل الرسالة والخطبة. والرسالة «مستغنية عن جهارة الصوت وسلامة اللسان من العيوب، لأنها بالخط تنقل، فإن ذلك يزيد في بهائها ويقربها من قلب قارئها» بعبارة ابن وهب الكاتب، وهو الذي ميز بكثير من الدقة والتفصيل، إخراج الرسالة من إخراج الخطابة. فالأولى محكومة بقوانين الكتابة على حين أن الثانية محكومة بمراسم الشفهية، ولذا عد إخراجها أصعب، لأنه آني ملازم لطقس الإلقاء الذي هو أشبه بطقس الإنشاد: «إن الخطبة لما كانت مسموعة من قائلها، ومأخوذة من لفظ مؤلفها، وكان الناس جميعا يرمقونه ويتصفحون وجهه، كان الخطأ فيها غير مأمون، والحصر عند القيام بها مَخوفا محذورا. فأما الرسائل فلإنسان في فسحة من تمكينها وتكرر النظر فيها، وإصلاح الخلل إن وقع في شيء منها. ثم هي نافذة على يد الرسول، أو في طي الكتاب.. فلهذا صار الخطيب إذا ساوى المترسل في البلاغة كان له الفضل عليه».
وما نخال ارتباط المرئي (المكتوب) بالمسموع (الشفهي) إلا نابعا من استقرار التقليد الشفهي وثبوته في اللغة. والنص في ثقافة العرب يخاطب البصر على قدر ما يخاطب السمع، ويمتع هذا على قدر ما يمتع ذاك.
وينبغي أن نشير إلى أن الكتابة في هذا السياق، ليست الكتابة التوصيلية العادية المستفرغة من القيمة الجمالية، وإنما الكتابة الفنية أو الأدبية التي تجسد المنطوق وتزاوج بين البعدين: البصري واللغوي، وتعزز الإيقاع القائم على التناسب والتناسق بين الأداة والمادة، على قدر ما تعزز المعنى وتكثـف الإيحاء به. ولذلك اشترطوا المحافظة على الخط، وعالجوا أحكامه من ترتيب واستواء حروف، وعقدوا أكثر من صلة لطيفة بين الصوت والخط والتـصوير، فشبهوا «النـطق بالخط» و»الخط والنطق بالتصوير». ورأوا في هذه الأدوات الثـلاث، ما يحفظ للأشياء حركتها وإيقاعها، بل شبهوا الخط بالخيمة حينا (وهي الصورة التي استعاروها لبيت الشعر) وبالوجه حينا: «خير الخط ما تساوت أطنابه واستدارت أهدابه، وافترقت نواجذه، وانفتحت محاجره، وخيل إليك أنه متحرك وهو ساكن». وأحكموا الصلة بين الأذن حاسة الزمان، والعين حاسة المكان: «لا خفاء على من له أدنى فطنة وحس أن البيان في المخاطبة لم يوضع إلا لاستجلاب النفوس، واستمالة الخواطر. فإذا اختير لذلك الألفاظ العذبة المألوفة والمعاني المُونقة الموصوفة التي سلكوها إلى النفس على حاسة الأذن، فمن الحق أن يختار لتصويرها الآلات الرفيعة، ومنها الخط الذي لا يكون إلا بأقلام منتخبة وعلى رتب جميلة وفي صحائف مختارة وبمداد رائق، ليستجلب بذلك النفوس من جهة حاسة البصر كما استميلت باللفظ والمعنى من جهة حاسة السمع، فتكون الاستمالة من الجهتين أوكد والاستجلاب أشد».
ولا يتسع هذا المقال لمناقشة الفروق بين الحاستين: السمع والنظر، وإنما نشير إلى أن المعلومة التي تقدمها الأذن عن الشيء أو المكان، هي عادة أقل غنى ووفرة من تلك التي تقدمها العين، والنـظر يعرفنا بنوع الشـيء المرئي وبطبيعته، ويمنحنا انطباعا بحضوره وحضورنا معا. وهو يقيس المسافة ويقدر على إلغائها في الآن ذاته. على حين أن الأذن لا تمنحنا سوى معرفة بمسافة الشيء المسموع ومكانه، بدون أن تعرفنا بشكله أو بهيئته. والفضاء المسموع هو قبل كل شيء فضاء ذو بعد واحد. وإذا كان الشيء يتجلـى بواسطة المرئي، فإنه يمكن أن يعلن عن نفسه بواسطة الصـوتي. والشـيء الملون مثلا لا يصنع لونا، ولكن الشـيء المدوي يصنع صوتا.
وهؤلاء الذين وضعوا قواعد الخط وأصوله، وراعوا فيها أن تؤدي صور الحروف حسنا في النظر، على نحو ما تؤديه مخارج اللـفـظ في السمع، إنما صدروا عن انسيابية الحرف العربي وإيقاعه الحركي من جهة، وعن أثر القرآن في الخط، من جهة أخرى. ولم يفصل العرب، في أي طور من أطوار تاريخهم بين كتابة القرآن وقراءته (تلاوته) ولا جعلوا هذه تنوب مناب تلك. وإنما كانت الواحدة تعضد الأخرى، وتنهض لها. فالنص المكتوب عندهم، مرئي مسموع في آن، وهم الذين اعتبروا الخطوط خلفاء الألسنة وخطباء العقول، وشبهوا النطق بالخط، ثم شبهوا هذين بالتصوير، وقرنوا بين الخط والجسم، الوجه والخيمة، على ما أسلفنا؛ فللخط أطناب ينبغي أن تتساوى، وأهداب ينبغي أن تستدير، ونواجذ ينبغي أن تفترق، ومحاجر ينبغي أن تنفتح.
وما نخال ارتباط المرئي (المكتوب) بالمسموع (الشفهي) إلا نابعا من استقرار التقليد الشفهي وثبوته في اللغة. والنص في ثقافة العرب يخاطب البصر على قدر ما يخاطب السمع، ويمتع هذا على قدر ما يمتع ذاك. وخير مثال لما نحن فيه، النص القرآني، الذي يمكن أن تُصنف الكتابة القديمة في ضوئه، والتقليد الشفهي الذي لازمه قراءة وكتابة وتلاوة منذ الوحي، لم ينقطع قط. ذلك أن هذا النص حتى وهو مكتوب مثبت في الفراغ المرئي دائم الكلام، لا تحبسه الصحائف المتخيرة ولا الأقلام المنتخبة ولا الحروف المسطورة؛ شأنه شأن الشعر.
والكلمة شيء مثلما هي حدث وجزء من حاضر وجودي حقيقي، فهي لا تقوم أبدا بذاتها، وإنما تحتاج إلى مرسل ومرسل إليه وسياق. وفي هذا وغيره دلالة على قدرة الكتابة، على فصل العارف عن المعروف والمدرِك عن المدرَك. فثمة مسافة بينهما، وفي حيز هذه المسافة تنشأ الكتابة الموضوعاتية التي تذكي التحليل، وتعزل القول على سطح مكتوب، ولكن بدون أن تفصله عن أي محاور؛ ففي القول في هذا الفصل أو الاستقلال، قدر غير يسير من التعسف. فإذا كان الكاتب مستغنيا، في الكتابة الخالصة، عن الحوامل الإضافية مثل التـعبير بالوجه أو التنغيم بالصوت، بل عن أي مستمع حقيقي، فإن الأمر، في الكتابة الشعرية أو الأدبية عامة لا يجري على هذا النحو، إذ ينهض الإيقاع ، بحكم طابعه الشـفهي، بما هو غائب في أنماط الكتابة الأخرى عادة.
ولم تكن الكلمة، لتقوم بذاتها قط ، فهي تشتمل على تنغيم ما، وقد تكون ثائرة أو هادئة، وساخطة أو مذعنة، ولذلك يصعب القول إن الكتابة مهما علا شأنها صورة للاكتمال العقلي أو للقول المعزول على سطح مكتوب عزلا تاما، أو هي تنقل الصوت إلى عالم المكان الساكن، وتقدمه خالصا مبرأ من أي شيء آخر؛ والكلمة المكتوبة فنيا، إنما هي كلمة منغمة موقعة. وهي من ثمة، «شيء» على قدر ما هي «حدث»، واستقرار منطو على حركة، على قدر ما هي حركة منطوية على استقرار. ولعل في هذا ما يفسر العلاقة بين الكتابة والشفهية، ويسوق إلى إعادة تصنيف الأجناس الأدبية القديمة.
٭ كاتب من تونس
قبل سنين ناقش طالب دكتوراه أطروحته في إحدى الجامعات العربيّة عن الأديب مصطفى صادق الرافعيّ ؛ المتوفّى في سنة 1937 ميلاديّة.وهوأطرش لا يسمع ( الوقر).وعقد الطالب فصلًا عن الفرق بين الأديب الأطرش السمع والأديب الأعمى البصر؛ وتأثير ذلك على النتاج الأدبيّ لكليهما.وقارن بين أدب الرافعيّ ( الأطرش ) وأدب طه حسين ( الأعمى المتوفّى في سنة 1973ميلاديّة ).وتوّصل إلى أنّ أدب الأطرش أكثرنضجًا من أدب الأعمى ؛ لأنّ عمى النظريقلق صاحبه ويشتت التركيزعن الدماغ ؛ فيما الطرش يضيف لصاحبه السكون لا نقطاعه عن مؤثرات العالم الخارجيّ الصوتيّة ؛ فيكون الدماغ أكثرطاقة وخصبًا واستقرارًا…ربمـا ؟؟؟