ثلاث وثائقيات عالمية عن غزة تنال جوائز في «غويا» و«دبلن»

حجم الخط
0

قال جان لوك غودار المخرج الفرنسي وصديق الفلسطينيين، في أحد أفلامه، إن إسرائيل دخلت عام 1948 الخيال (الفيلم الروائي) وفلسطين دخلت التوثيق (الفيلم الوثائقي)، ما يمكن أن يُفسَّر بأن الإسرائيليين دخلوا إثر إعلانهم عن تأسيس دولتهم على أرض الفلسطينيين، عالم التأليف والخيال والتبرير بالأساطير لمشروعية دولتهم، وأنّ الفلسطينيين، كمهزومين في حرب احتُلَّت فيها أرضهم، هُجّر نصفهم وأُجبر النصف الآخر على العيش تحت الاحتلال، دخلوا إثر نكبتهم هذه عالم توثيق الجرائم الممتد من حينها، لخلخلة الأسس الخيالية التي بُنيت عليها دولة إسرائيل، وهو توثيق استمرّ إلى اليوم، باستمرار الجرائم التي مايزال الاحتلال يرتكبها على أشكالها، هذا ما يجعلنا، في 2019 مثلاً، نقع على ثلاثة وثائقيات (ولعلّ هنالك غيرها ما لم نقع عليه) تزامن عرضها خلال الأيام القليلة الماضية، كانت غزّة موضوعاً لها، وجميعها أوروبية: أولها فيلم «غزة» للإسباني خوليو بيريز، الذي نال جائزة أفضل وثائقي قصير في حفل «غويا» الإسباني لتوزيع الجوائز، ألقى فيه المخرج خطاب تسلّمه الجائزة وكان كلمة حقّ قويّة. ثانيها فيلم آخر بالعنوان ذاته، «غزة»، وهو ألماني للمخرجين غاري كيان وأندرو ماكونيل، ونال في «مهرجان دبلن الدولي للأفلام» جائزة أفضل وثائقي وكذلك التنويه الخاص بأفضل وثائقي. ثالثها هو تحقيق تلفزيوني لا يقل أهمية من حيث موضوعه، أنتجه وكتبه وأخرجه الإنكليزي هاري فير، بعنوان «غزة: ما تزال حيّة».


لا يجمع الوثائقيات الثلاثة حقيقة أنّها أُنتجت وأُخرجت من قبل أجانب وحسب، هم من خلال نتاجهم هذا، متضامنون مع القضية الفلسطينية، وكانت هذه الوثائقيات تعبيراً عن ذلك، وهو – وذلك الأهم- تعبير عالٍ فنياً، مُنجز بتقنية وجمالية (بما تتيحه طبيعة الوثائقي) أهّلها لنقل الجانب الذي نقلته من حياة أهل قطاع غزة.
وهي، إضافة إلى ذلك، وثائقيات تكمل بعضها بشكل أو بآخر، فأحدها تناول الحالة الإنسانية الصعبة التي يعيشها أهالي القطاع مع كل عدوان، وما بين الحروب الإسرائيلية على غزة. الثاني يتناول «التروما» وتحديداً لدى الأطفال، الذين ترافقهم إثر كل حرب، والثالث يتناول الإرادة في الحياة لدى الناس هناك، من خلال الفنون التي يمارسونها، والإصرار على العيش بما في الحياة من جماليات ممكنة.فيلم «غزة» الذي عُرض مؤخراً ضمن حلقة «للقصة بقية» على قناة «الجزيرة»، والذي نال جائزة أفضل وثائقي قصــــير في حـــفل «غويا» هذا العام، ينقل صرخات الناس وأحزانهم، في ربع ساعة مكثّفة، باستخدام لافت للموســـيقى، بنهايةٍ استطاعت، رغـــم قصـــر الوثائقي، أن تصل لأن تكـــون مأساويّة بعد نقل واقعي لحياة الناس هناك، لإصرارهم على المقاومة بشتى الأشكال، وهم واقفون أمام ركام بــيوتهم أو أشلاء أحبائهم. الكلمة التي ألقاها المخرج الإسباني إثر نيل الجائزة، والتصفيق الذي تلاها، أضافا إلى المضمون الإنساني للفيلم تأويلاً سياسياً يحتاجه المشاهد – الأجنبي تحديداً – كي لا يكون الوثائقي، بمضمونه، حالات إنسانية تحتاج إما الرعاية الطبية وإما – في أسوأ الأحوال- الشفقة.


في التحقيق الصحافي «غزة: ماتزال حيّة» الذي عرضته مؤخراً قناة RT الروسية بنسختها الإنكليزية، وهو من إنتاجها، تناول الحالة النفسية لدى أهالي القطاع بعد عقد من الحصار وحروب متتالية، وتأثير تلك الحالة، و«التروما» التي يعيشونها، على تفاصيل حياتهم اليومية، مع عرض أساليب العلاج المتّبعة هناك، ضمن الممكن، وقد ذكر التحقيق أن «ثقافة الصمود لدى الفلسطينيين قد ساعد أطفالهم على مواجهة تلك التروما، بشكل أفضل من محاولات أطفال صقلية للخروج من التروما التي أحدثتها المافيات الإيطالية».
بعد المأساة، دماراً وقتلاً، وبعد تأثير ذلك نفسياً على أهالي القطاع، جاء الوثائقي الثالث ليؤكّد إصرار الفلسطينيين في غزة على ممارسة فنون الحياة بأشكالها، على العيش وإن بالحدود الأدنى، مع جماليات ضرورية لتكون الحياة محتملة، هذا مسرحي وتلك موسيقية وذاك صيّاد. فالفيلم الذي عُرض مؤخراً على قناة ARTE الفرنسية الألمانية الثقافية، واسعة الانتشار، شارك في مهرجانات كسندانس الأمريكي وميونخ الألماني، ونال في مهرجان دبلن الإيرلندي جائزتين كأفضل وثائقي. هو – لنقل- خاتمة لا بد منها بعد فيلمين صوّرا المأساة بأوجهها وانعكاساتها. هنا، في هذا الفيلم الممتاز شكلاً وموضوعاً، كانت غزّة كما يحتاج أحدنا أن يراها، إثر كل ما يشاهده في وثائقيات وتقارير تلفزيونية، غزّة حيث الأمل المُلاحَق بعد محاولات «حربية» لاغتياله.
مادام هنالك احتلال لفلسطين، على طولها، ستكون هنالك حاجة دائمة إلى التوثيق، فلا احتلال بدون ظلم كحالة مستقرة ودائمة فيه، وبدون ممارسات يومية يحتاجها هذا الاحتلال كي يترسّخ أكثر، حتى انتقال الفلسطينيين من أولوية الوثائقي إلى أولوية الخيالي، كموضوع مُؤلَّف، ويخرجون أكثر من الأفلام الوثائقية داخلين أكثر إلى الأفلام الروائية.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية