عاصمة الأبرتهايد الإسرائيلي: الخليل.. بين تعاليم “التوراة” وقوانين نيوتن    

حجم الخط
0

في الطابق السابع بمبنى وزارة الدفاع في تل أبيب يجلس المستشار القانوني لجهاز الأمن هو ومساعدوه. قبل نحو سنة ونصف عمل المستشار القانوني ومساعدوه على كتابة رأي قانوني في موضوع وكأنه أخذ من اختبار في قوانين الملكية: أمسموح للإدارة المدنية بناء حي لمستوطنين (“مبان متعددة الطوابق للسكن والاستخدام الجماعي”)، فوق طابق المحلات الفلسطينية في سوق الجملة في الخليل، رغم أن أصحاب المحلات يعارضون ذلك؟ رأي المستشار القانوني ينص على أن ليس هناك ما يمنع البناء في هذا الموقع، بل ومسموح هدم المحلات وإعادة بنائها لهذه الغاية، من دون موافقة أصحابها الفلسطينيين.

خلال سنة ونصف، أخفت وزارة الدفاع هذا الإبداع القانوني الذي كتب في الكرياه، وكأن الأمر يتعلق بمخططات هندسية للمفاعل النووي في ديمونة، وفي الوقت الحالي تم تحرير المبادئ العامة لها بفضل تصميم حركة “السلام الآن” وحركة من أجل حرية المعلومات” اللتين قدمتا التماساً على هذا الأمر. لقد قرأت وثيقة مبادئ الرأي التي أخرجت من الظلام، واكتشفت مرة أخرى أن أشعة الشمس يمكن أن تعتم، لكنها تكشف أحياناً في أي مزبلة نعيش.

لقد كتبت مبادئ رأي الخبير بلغة قانونية جافة، التي تعتبر لإنسان عادي وصفة للتثاؤب والنوم العميق. ولكن بصفتي قارئاً خبيراً في المجال، فقد طورت مجسات تشخص العفن والرائحة الكريهة في فرع قانوني يختفي على الأغلب بشكل جيد بين الأحرف – قوانين ارتكاب الظلم – ومن السطور الأولى شممت رائحته النتنة. الاستمرار في قراءة النص خلق رائحة كريهة سيطرت على أنفي وأحرقت عيني وقلبي. وثيقة رأي الخبير التي عنوانها “البناء في سوق الجملة في الخليل” تناولت مسألة محددة ومقلصة، لكن أسلوبها ومقاربتها أمور تميز أحد أبرز الفنون القانونية التي تطورت هنا في العقود الأخيرة: قانون عام نقي من القيم.

في السنة الماضية، شاركت في مناظرة في إطار استكمال النيابة العامة مع المساعد في حينه لوزيرة العدل، المحامي غيل برينغر، الذي عُين من أجل ترويض النيابة العامة وإيجاد مرشحين محافظين ويمينيين للقضاء. في المناظرة أوضح برينغر أنه -حسب رؤيته (ورؤية الوزيرة)- فإن العلاقة بين الحكومة والمدعي العامين يجب أن تكون مثل علاقة المحامي مع الزبون في القطاع الخاص. رسالته التي صيغت بلغته هي “السياسيون يقررون وأنتم تنفذون”. هذه الرسالة أطلقها في قاعة مليئة بالمدعين العامين المهانين. وماذا عن مصالح الجمهور، من سيهتم بها؟ السياسيون هم الخبراء الأعلون في المصلحة العامة، قال. وبسبب ذلك تم انتخابنا. وماذا عن الدفاع عن الأقلية؟ سألت. لكنه أظهر نظرة زجاجية أمام من لا يعرف هذا المفهوم. المدعون العامون لم يرغبوا سماع أقواله، لكن من مسافة سنة يمكن القول إن غالبيتهم وافقوا على رأي برينغر.

ولكن كيف يسير ذلك بالفعل؟ كيف يقوم دفاع خاضع بمحو المبادئ القانونية للإنصاف والمساواة؟ كيف يقفز هذا عن سلطة القانون كمدافع عن القيم ويقدس بدلاً منها “الحكم”، أي سلطة الحاكم؟

وعودة إلى الخليل. هي عاصمة الأبرتهايد الإسرائيلي، المكان الذي توقفت فيه حياة ربع مليون فلسطيني من أجل بناء مستوطنة لـ 800 إسرائيلي – يهودي. المنشأة مدار الحديث ملاصقة للمستوطنة التي تسمى حي أبونا إبراهيم. بنيت المحلات فيها في عهد الحكم الأردني على أراض كانت بملكية اليهود حتى عام 1948، وتم تأجيرها حسب قوانين الإيجار المحمية لبلدية الخليل. قامت البلدية بتأجير هذه المحلات لفلسطينيين أداروا في المكان سوق جملة للخضار نابضة بالحياة للمزروعات.

بعد احتلال عام في 1967 استمرت الإدارة المدنية بتأجير المحلات لبلدية الخليل، ولكن بعد مذبحة باروخ غولدشتاين ضد المصلين المسلمين في الحرم الإبراهيمي تم إغلاق السوق بأمر عسكري، تحت ذريعة حماية المستوطنين. هذا أمر منطقي، أليس كذلك؟ ورغم أن هذا الأمر يجب أن يكون بشكل مؤقت، ورغم أن إسرائيل في اتفاق الخليل الذي وقع عليه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في 1997، وعدت بفتح السوق من جديد، إلا أن الأمر تم تمديده مرة تلو الأخرى حتى الآن. وقد حدث أنه إضافة إلى قتل الـ 29 مصلياً، فقد نجح غولدشتاين بمساعدة الجيش والمستشارين القانونيين في تدمير السوق، حيث إن أصحاب المحلات لا يسمح لهم بالعودة إليها منذ 25 سنة. خلال هذه السنين، اقتحم مستوطنو الخليل هذه المحلات مرات عدة، وتم إخلاؤهم بعد صراعات قانونية استمرت سنوات، بأمر من المحكمة العليا. وإن عقوداً من عدم الاستخدام واقتحامات المستوطنين وممارسات إخلاء السكان، تركت البصمات على المباني التي زاد وضعها سوءاً.

هذه هي الخلفية التي على أساسها يطالب المستوطنون بإقامة حي جديد في المكان. وهذه هي خلفية قرار المستوى السياسي الذي، وبدقة شريرة، أمر “بالسماح بالبناء فوق محلات السوق”. هل فهمتم؟ البناء لن يتم في المنشأة نفسها، بل “فوق منشأة السوق”. بالضبط مثل الكافتيريا في طبرية. ولكن تبين أن قوانين الطبيعة النيوتنية لا تسمح بالبناء من أعلى إلى أسفل، كما قال “قصاصو الأثر”، لذلك فإن البناء “فوق منشأة السوق” يحتاج إلى حفر الأساسات وهدم المحلات. هناك خط يربط بين الاحتلال والمذبحة في الحرم الإبراهيمي، وثمة أمر بإغلاق السوق وقرار هدم المحلات من أجل بناء حي استيطاني جديد فيه. هل هناك مثال أكثر وضوحاً على الحجة في التوراة “قتلت وتريد أن ترث”.

هذه هي الخلفية التي أعرفها لقرار المستوى السياسي، لكن من يقرأ مبادئ وثيقة الرأي الخبير للمستشار القانوني في جهاز الأمن، لن يجد هذه الخلفية. ذاك الرأي القانوني استهدف تطبيق المبدأ الأسمى لقانون الأساس: الحكم.. السياسيون يقررون وأنتم تنفذون. لذلك، اضطرت الوثيقة إلى التحول إلى سلالة مبادئها غريبة تهبط على مدينة الآباء من المريخ مباشرة، وتجتث الأسئلة القانونية من الواقع الذي ولدت فيه. لا يوجد أبرتهايد في مبادئ الرأي القانوني، وليس فيها سادة يتمتعون بجميع الحقوق، وليس فيها رعايا متجردون من الحقوق واضطروا إلى العيش تحت نظام فصل استغلالي وقمعي ومهين. في الواقع، لا يوجد في الوثيقة أي احتلال بتاتاً. ولا توجد مذبحة إلى معاقبة الضحايا. ولا يوجد ظلم متواصل لتخريب الحياة العامة بناء على طلب حفنة من رعايا أيديولوجية تفوق اليهودية، الذين تحركوا عبر السنين من الهامش السياسي الإسرائيلي إلى وسطه.

بهذه الطريقة، حول المستشارون القانونيون في جهاز الأمن مدينة الخليل إلى كوبنهاغن. ثمة سكان في هانس. فهل يسمح لـــ لارس البناء فوقها. حسناً، سيد غوستاف، السكن المحمي لا يسري على “عمق الأرض” ولا حتى على “السماء العالية”. بناء على ذلك، لا يوجد أي مانع قانوني للبناء فوق المحل والحفر تحته. إن إعطاء الحق لــ لارس لا يمس فقط السكن المحمي لهانس، بل يحافظ عليه أيضاً.

شكراً يا دكتور! سؤال آخر إذا سمحت لي: محل هانس، ولأسباب مختلفة، مهمل وآيل للسقوط. فهل مسموح لــ لارس أن يهدمه ويحفر أساسات ويعيد بناء مبنى كامل مع محل جديد، على فرض أن هانس يعارض ذلك؟ هذا سؤال مهم، سيد غوستاف. اعتقد أنه يمكن الهدم وبناء كل شيء من جديد. صحيح أن الأمر يقتضي عدم استخدام هانس لمحله لفترة معينة، لكنك قلت لي إنه أصلاً غائب عنه لأسباب مختلفة. صحيح؟

في حالة هانس ولارس قد يكون الرأي القانوني للمستشارين القانونيين في وزارة الدفاع غير هستيري تماماً، لكننا لسنا في كوبنهاغن. وتجاهل الفرق في القوة مفهوم، من تمييز ممأسس استمر سنوات ومن منحى استغلالي متواصل، هو وصفة للظلم والجريمة. إن تطبيق مبادئ “طبيعية” على وضع غير طبيعي تماماً، هو المقاربة التي أدت بالقانونيين في وزارة الدفاع إلى الاستنتاج أنه يمكن بناء حي للمستوطنين فوق محلات الفلسطينيين الممنوعين من الدخول إليها. الرأي القانوني القادم سيحدد بصورة مؤكدة أنه لا يمكن السماح للفلسطينيين بالعودة إلى محلاتهم لأن هذا الأمر يعرض أمن مستوطني الحي للخطر. وهذا ما أراد السياسيون أن يحققوه.

هكذا كف محامو وزارة الدفاع عن خدمة الفكرة السامية لسلطة القانون، وبدأوا في خدمة الفكرة القبيحة للسلطة بواسطة القانون. لم يعد القانون نظاماً للمعايير التي تستهدف خلق شروط مثالية للناس من أجل تطبيق الإمكانية الكامنة لديهم، بل هو وسيلة سيطرة وتحقيق إرادة النظام الحاكم. القانون مثل البندقية، هذا هو الجزيء الذي يبني القانونيون الجرائم بواسطته. الرأي القانوني للمستشار القانوني في وزارة الدفاع انتقل إلى القدس، وهو بانتظار مصادقة نائب المستشار القانوني للحكومة في شؤون القانون المدني، المحامي ايرز كامنتس. هل يستطيع شخص ما إعارة كامنتس كراسة تلخيصية لدرس في فقه القانون؟

بقلم: ميخائيل سفارد

هآرتس 25/8/2019

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية