بكل الغربة والقهر التاريخي، والآلام، تقدم «هدى بركات» روايتها «بريد الليل»، المؤلفة من ثلاثة فصول: «خلف النافذة» و«في المطار» و«موت البوسطجي». وتتضمن خلف النافذة رسائل الشقاء والحرمان، وهم في بلاد الهجرة.
في الرسالة الأولى من رجل إلى حبيبته. يصف لها كيف أن والدته قذفت به إلى قطار الأرياف «ككيس قمامة»، وأنه مفلس للنهاية؛ حيث «عملت مع ذلك الانقلابي العسكري، الذي هرب أو تواطأ مع الزعيم «التاريخي» للابتعاد قليلاً، لعل الناس تنسى مجازره التاريخية، وكان عاشقاً للديمقراطية، حيث فتح جريدة ليّعلم الخلق الديمقراطية، و«كان في كل مداهمة لمفتش وزارة الأشغال يفرغ المكان من الموظفين». إلى أن تم رفضنا جميعاً. ولكننا لم ننتقم منه، وهو سارق ثروات البلد، ومهرب للمخدرات، حيث أصبحت معارضاً لمقال قمت بترجمته إلى العربية، لكن المعارضة رفضتني بحجة أنني مشبوه، وعدائي وعنيف ومدمن. ورفضوا إعطائي جواز سفر، وأنا بدون أوراق وليست لديّ إقامة، ومهاجر غير شرعي، وبدون عمل أيضاً.
والرسالة الثالثة من ابن إلى والدته الحبيبة، يكتب إليها، كيف أخذه الأمن من البيت في قضية «الحشيش». وفي الفرع كسّروني، يبولون ويتغوطون عليّ، واغتصبوني بالقنينة وغيرها؛ إلى أن استسلمت لهم، وأصبحت خادمهم. أقوم بتعذيب السجناء لأنهم يكذبون دائماً وأقتلهم. وحين ذهبت إلى أبي وطردني، «بصقت في وجهه، ولم تأخذني شفقة عليه». ورؤسائي وأسيادي ليسوا جميعهم حرامية وساديين، ونحن لا نعمل في السياسة، ولا نثق بمن يكره قائدنا، لأنه يكرهنا. إلى أن جاء «الربيع العربي»، «حيث اختفى الرؤساء فجأة، وتحولت مظاهرات الملحدين الفاسقين والأوباش إلى أنهار من البشر، وهربت من بين أيديهم؛ الذين نزلوا عليّ بالضرب بالأيدي والعصي والحجارة». وواجهتني المحققة بأنني من مخابرات النظام، حسب وشاية أحد السجناء، فأنكرت، ولم أعد إلى المخيم أبداً. ووجدت نفسي في المعارضة؛ والإسلاميون طردوني بسبب الكحول. إلى أن عثرت على امرأة ستينية، أحببتها، وأحبتني، إلى أن أعلنت أن الحب يُشفي كل الأمراض كعجائب القديسين، إلا أنني خنقتها ذات صباح، وتركت حول رقبتها دورات زرقاء، وهربت مشرداً، بلا عمل، بلا أوراق ومطارد من قبل البوليس.
والرسالة الثانية من سيدة إلى حبيبها، حيث لم تعد تقتنع بالحب «إلى الأبد». والرابعة من سيدة إلى أخيها؛ والتي تمارس الدعارة من أجل المال، تلبية لطلب من أمها وابنتها، والخامسة من ابن خنثى يعمل كمومس ويرغب في العودة إلى البيت. وكل هؤلاء لم يسافروا بسبب الحرب، إنما لأغراض شخصية.
أما الفصول الأخرى، في المطار، أي اللامكان، لا توجد مواعيد للقاء. وموت «البوسطجي» لأنه لا يستطيع توزيع الرسائل، حيث لم تبقَ أرقام للشوارع، أو أن المنتصرين قاموا بتغيير الأرقام والأسماء على طريقتهم الخاصة.
حازت الرواية جائزة البوكر لعام 2019، بعد ترشيحها بناءً على طلب لجنة التحكيم! وبالاتفاق مع دار النشر. وكما قيل، «إن فوز الرواية كان مقرراً سلفاً»، بعد خوض نقاشات كثيرة داخل اللجنة، للتفريق بينها وبين رواية «النبيذة». وقد قال رئيس لجنة التحكيم شرف الدين ماجدولين مبرراً خياره للرواية، إن الرواية» شديدة الخصوصية بتكثيفها واقتصادها اللغوي، وبنائها السردي، وقدرتها على تصوير العمق الإنساني، وأفلحت في أن تبدع داخلها وأن تقنع القارئ». وقال رئيس مجلس الأمناء ياسر سليمان، إنها ذات «اقتصاد لغوي بالغ، يجعل كل كلمة من كلماتها لبنةً محكمةً». وهذا التوصيف دائماً مهمته تبرير الاختيار. وتسابق المهتمون بإعلاء شأن الرواية بكلمات وصيغ تفوح منها رائحة المديح. مثل القول، «إنها رواية مونولوجية بامتياز»، و«إنها تحتاج إلى قارئ خاص يعيد إنتاجها»، و«المطلوب القارئ العضوي حتى يشارك الروائية في كتابتها»، واستخدمت «السرد المبعثر حتى ينعكس لدى القارئ التيه والغربة»، و«إنها سيريالية في مضمونها»، و«أسلوبها هو أكثر حيوية»… إلخ. وتقول هدى إنها تكتب بأسلوب غير سهل، وهي بحاجة إلى «قارئ نخبوي» حتى يستطيع أن «يستمتع بالكتاب». وهذا المديح نابع من البيت الأدبي الواحد. فهي شديدة الخصوصية أولاً، لأنها مرتبطة بشخصية الروائية، حيث تقول هدى عن نفسها، «إنني بطبيعتي وحيدة ومستوحشة، وإنني لست كائناً اجتماعياً، وأحب وحدتي»، و«لست منفية أو مهاجرة، أنا عالقة»؛ «إن ابتعادي عن بيروت سمح لي بتفريغ مرارتي وحقدي وحزني في الكتابة بدون أي تشويش». وهذا بالضبط السبب في مخيال سوداوية الرواية. وهذا الذي دفعها لاختيار شخصيات ضعيفة البنية، بين عميل للأمن، أو من يتعاطى معهم في المهجر، ونهايتهم القتل والملاحقة الأمنية، أو امرأة مومس، أو رجل مومس يبحثان عن المال، وهذا كله لا يعبر عن العمق الإنساني للمهاجرين، الذين أبدعوا في كافة المجالات.
القصص ليست كثيفة اللغة، إنما لغتها بسيطة وواضحة حسب لغة أبطال القصص، وليست كل كلمة محكمة البناء، حتى أنها تفتقر للصورة الشعرية الجميلة أو السيئة.
وثانياً، القصص ليست كثيفة اللغة، إنما لغتها بسيطة وواضحة حسب لغة أبطال القصص، وليست كل كلمة محكمة البناء، حتى أنها تفتقر للصورة الشعرية الجميلة أو السيئة. والسرد التراسلي يجعلها نوعاً من «المراسلات الأهلية» التي تعبر عن مونولوج، أو حديث للنفس داخلي؛ بحيث لا ساعي البريد يمكن له إيصال الرسائل، بعد تحطم الجدران وأرقام المنازل بفعل الحرب الأهلية. واستخدام السرد المبعثر الموحد، مرتبط بالثيمة الرئيسة في القصص، وهي الضياع والقهر والغربة. وبالتالي الرواية ليست «سيريالية»، وليست بحاجة للقارئ «العضوي»، إذ بإمكان الإنسان العادي قراءتها، واستنتاج معناها خلال ساعتين. ويبقى العنوان، بريد الليل، وهو مغرٍ للمونولوج الداخلي «ليل سميك من القطران اللزج يلتصق بالجفون وباليدين»، أو «لا شيء خلفه أو تحته»، لكن يمكن لهذا الليل أن نجعله أجمل ببعض الشوق والفرح العشقي، إضافة لحالة الاسوداد الجهنمي، طالما الرسائل تبوح بكل الأسرار.
إنها باختصار، مجموعة من القصص القصيرة جداً، وهي أقرب إلى النوفيلا «Novella»، وهي «القصة القصيرة التي لا تصنع رواية» بتعبير الشاعر السعودي محمد العباس. والشاعر عمران عز الدين يرفـــض النوفيلا لافتقارها لأبسط الشروط في العمل الروائي مثل، «الإثارة والتشويق والفائدة والمتعة»، واقترح على لجنة التحكيم القبول بالنوفيلا للحصول على الجائزة. وكذلك الكاتب شريف صالح يرى أن «بريد الليل ليست رواية، وهي أقرب إلى جنس النوفيلا».
وتقول هدى إن الذي دفعها لكتابة الرواية هو «مشاهد المهجرين الهاربين من بلدانهم في قوارب الموت، ونظرة العالم إليهم ككتلة غير مرغوب فيها، أو كفيروس يهدد الحضارة»؛ ثم تُضيف أنها «مانفستو عاطفي وقطعاً ليس سياسياً». ولماذا هذا القطع!
المكان هو ثورات الربيع العربي، وهي للحرية والديمقراطية، وتم قتل مئات الألوف منهم في تظاهراتهم السلمية. وفي الرواية هو المطار، أي اللامكان، حيث لا يوجد موعد للقاء وذلك حتى تُقدم الشخصيات أحراراً في الفلاة بدون أي مكان، وبدون أي أسماء.
أولاً، ما هو سبب الهجرة ورحيل البشر؟ أليست هي السياسة، والصراع السياسي بين قوى الظلم والطغمة الاستبدادية الحاكمة، وقوى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ وهذا كان واضحاً في كل بلدان الربيع العربي، من تونس حتى السودان. أليست السياسة هي سبب كتابة الرواية، ورؤيتك للمهجرين في البحر وبدون أن توضحي أي دور، أو أي مشهد من مشاهد الصراع، والقتل والاستبداد الذي مُورس ضد المظاهرات السلمية وقتل أصحابها. ولا يكفي وصف المشهد السياسي بوجود زعيم «تاريخي»، مثل حافظ وابنه بشار، أو غيرهم، ورفعت الموجود في فرنسا، العاشق للديمقراطية، بعد المجازر التي عملها بالسوريين، و«داعش» كذلك.
كما أنه ثانياً، لا يجوز إطلاقاً وصف المعارضة بتحول «مظاهرات الملحدين والفاسقين والأوباش إلى أنهار من البشر»، فهذا مخالف للواقع نهائياً، لأنهم لم يكونوا كذلك، إنهم ليسوا فاسقين وأوباش! بل إنهم كانوا أصحاب الحرية والديمقراطية المنشودة. وهؤلاء لم نجد لهم أثراً في النوفيلا.
وثالثاً، ثم لذلك لا يجوز الاقتصار على شخصيات مشبوهة مثل عميل الأمن، الذي وصف أسياده بأنهم «ليسوا حرامية وساديين» أو يتعامل مع الأخ الشبيه. ثم كيف ينتقل حشّاش وعميل مخابراتي، ومن «يبصق في وجه أبيه»، من معارضة، إلى أخرى؟ وهل أصبحت المعارضة وكراً للأوباش، أعضاء الأمن والمخابرات.
عنوان «بريد الليل»، يمثل الحرية التي تبحث فيها الشخصيات عن أحد يفهمهما ويبرر سلوكها. والحرية هي الهدف لثـــورات الربيع العربي المنتكس حتى الآن. والرواية فن تخيلي يرتبط بمؤشرات واقعية تدل على معرفته بالواقع وإمكانية تغييره، والنوفيلا لم تقدم أي حلول ولو رمزية لواقع مستبد وطغياني، يصطدم به الشعب العربي عموماً. والرواية ليست مانفستو نفسي، إنها بناء يهدف إلى طرح الفائدة والحلول، ضمن شعرية جميلة وهذا ما تفتقر إليه النوفيلا، أو الرواية.
٭ كاتب وباحث سوري