الإبداع والثرثرة

من المبررات التي ساقها الكاتب الأمريكي القديم فيليب روث، صاحب الروايات الكثيرة، والشهرة العريضة، والخمسين عاما في سكة الكتابة، بغض النظر عن إن كنا نحب طريقته في الحكي، أم لا، في أسباب قراره اعتزال الكتابة مؤخرا، هو أنه تعب من الكتابة، ويريد أن يتفرغ للثرثرة.
من المؤكد أن فيليب روث، اتخذ قرارا صحيحا، برغم أنه جاء متأخرا بعض الشيء، فبعد أن يصل المرء إلى سن الثمانين، التي أنجز خلالها أكثر من ثلاثين عملا روائيا ناضجا، تكاد تؤرخ للحياة والتحولات الاجتماعية، والاقتصادية والنفسية لبلاده، لا يتبقى لديه شيء ليقوله. لن يصبح الجار الغامض، الذي يخرج من بيته باكرا بلباس البحر، مثلا، ويعود إليه بعد منتصف الليل، يرتدي سترة غالية، لغزا كتابيا، ينبغي صناعة حكاية كبيرة من أجله. لن تصبح المرأة الجميلة، التي تعمل نادلة في بار رخيص بسبب الفقر، جديرة باختراع حكاية عن الهجرة غير الشرعية، ورضوخ المهاجرات الجميلات لظروف لا إنسانية أبدا، ولن تكون حتى الذكريات الشخصية الحميمة، التي كانت تصنع فيما مضى، أطباقا شهية من الحكايات، محلاة بعبقرية الكاتب، وبهاره الخاص، سوى مواد استهلاكية، انتهت صلاحيتها، ولن يتذوقها أحد بعد الآن.
ولأن الكتابة في النهاية، هي نتاج تفاعل كبير وواع، بين الكاتب ومجتمعه، الكاتب والسلطة التي تحكمه، الكاتب وظروفه الأسرية والحياتية، فلا شيء بعد الثمانين يصلح وسطا ستجري فيه التفاعلات. كل الحبال بالضرورة ممتلئة بالغسيل الذي نشف، الأسرة المكونة من الأبناء، تعيش في عالمها الخاص، والسلطة مهما ازدادت قوتها، لا تلهم أحدا ربما هو أكبر وأعمق منها.
كنت كتبت من قبل عن ضرورة تقاعد الكتاب والشعراء، في سن معينة، هي تقريبا السن التي يتقاعد فيها موظف الحكومة الرسمي، عن العطاء الوظيفي. قلت إن الكتابة بعادة الكتابة فقط، بعد تلك السن، لن تضيف كثيرا لتاريخ المبدع وغالبا ما تشوه ذلك التاريخ، بإنتاج نصوص إما غير لائقة فنيا، وإما تمس المقدسات، بعد إحساس المبدع أنه تحرر من كل شيء.
هذا الكلام بالطبع نظري، ويصعب تطبيقه عمليا، لأن الوظيفة الرسمية، يمكن سحبها، وإرسال شاغلها إلى بيته بلا أي جدال، فكيف تُسحب الرواية أو القصة من كاتب؟ وكيف يُمنع شاعر من صياغة قصيدة تراقصت في مخيلته، حتى لو كانت تلك القصيدة بشعة، ولا تمت للحسن والجمال بصلة؟
كل ما في الموضوع أنني أعبر عن رأيي، وربما أكون أول من يطبق قانون حظر الكتابة على نفسي، إن بلغت سن التقاعد.
أعود لموضوع العم فيليب روث وأقول، إن ثلاثين عملا روائيا، كانت كافية جدا لتحقيق الغرض الذي انطلقت من أجله الكتابة في الأصل، وهو رقم أكثر من رائع، يتمنى الكثيرون تحقيق نصفه، قبل التقاعد. فقطعا توجد داخل هذا الرقم أعمال عظيمة، مثلما قد توجد أعمال أخرى، ليست جيدة، وهناك كتاب حققوا وجودا ملحوظا، واستولوا على تذوق القراء، بعدد أقل كثيرا من هذا، ومنهم التركي أورهان باموق، وحتى ماركيز العظيم، لم تبلغ عدد رواياته الثلاثين كما أذكر.
الشق الآخر، في عملية اعتزال فيليب روث، هو موضوع التفرغ للثرثرة، هذه الكلمة وأعني الثرثرة، بدت لي غريبة فعلا، فما عسى الذي كتب آلاف الصفحات، أن يفعل ليحصل على ثرثرة؟ وحقيقة فإن الأدب نفسه ضرب من ضروب الثرثرة، فقط ثرثرة ترتدي ملابس فنية، وتملك انضباطا نوعيا ما، وحتى هاتين الصفتين، هناك من لا يهتم بهما من الكتاب، ويترك ثرثرته عارية كما هي. لقد نفى فيليب روث عن الأدب صفة الثرثرة حين قال بأنه سيعتزل ليثرثر، وما دام الأمر كذلك، فغالبا لن تمر تلك الثرثرة مرورا عابرا، وربما تظهر في كتاب أو كتب جديدة، يعود بها الثمانيني مجددا للكتابة.
الذي يعتزل في رأيي أي نشاط إبداعي أو فني، ينبغي أن يعتزل تماما، فلا تصلح الرجل التي نصفها في الداخل ونصفها في الخارج، وأعرف أدباء وفنانين عديدين، خرجوا من باب أنشطتهم القديمة، ولم يعودوا إليها أبدا بعد ذلك، وأعرف آخرين، عادوا لأن أرجلهم كانت في المنتصف.
وشيء مهم آخر، وهو ما أسميه: ديكتاتورية الإبداع، وهو سيطرة جيل معين على الشهرة، والجوائز، تاركا الأجيال الجديدة، تائهة بلا حظ. فما دامت الحياة متجددة، فالإبداع متجدد أيضا، وينبغي أن يتذكر المبدع وقد بلغ حدا بعيدا من النصر والنشوة بالنصر، أن ثمة من ينهزم يوميا بالإحباط، وعدم العثور على حظ ينطلق به.
روائي سوداني

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صالح الرزوق - سوريا:

    نعم غالبا ما تظهر مذكرات أو حوارات بعد التقاعد. و بين هؤلاء السياسي المخضرم محمد حسنين هيكل و برنامجه في الجزيرة مع أنه متقاعد. كان هذا البرنامج هدفا لكل المهتمين بالرجل و بعالم السياسة و الأفكار.
    فيليب روث له وضعية وجودية في أمريكا. لقد تحول إلى غيتو لليهود ممن يؤمن بضرورة التعايش مع فكرة الأزمة و الأقلية ليكون متميزا.
    لا أجد فرقا بين يهودي إنساني و رقيق و عاطفي و مسلم أو بوذي بنفس الصفات. مع الاحتفاظ بحق الىختلاف في المفردات و الأسماء.
    الفكرة.
    الجوهر.
    الروح.
    هو ما نعتمد عليه..

إشترك في قائمتنا البريدية