مجموعة الشاعرة السورية مناهل السهوي “ثلاثون دقيقة في حافلة مفخخة”: شوكة الزهرة بأقدام الرجال المسرعين إلى الحرب

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
1

لأكثرِ من ثلاثين دقيقة في الحقيقة بكثيرٍ، رغم ما تصنعُ الثلاثون من دوّامات المنتصف فنياً، تطيلُ الشاعرة السورية مناهل السهوي وضْع قارئها في حافلتها المفخّخة بالحب والموت والحرب، والنزوح، والغرق، والحشر، وحماقات الرجال أولاً، لتفتح أمامه صفحةً من كتاب الفاجعة السورية، كي يقرأ باسم وجوده مشاهداً أو كلمةً وربما سطراً فيها، بعضَ ما خلّفته وتخلّفه هذه الفاجعة من كوارث. ليس هذا على صعيد الواقع المباشر الذي تُذهِب فيه البراميل المتفجّرة وصواريخ الطائرات الروسية عقلَ المشاهدِ لها، وهروبه من سؤال ماذا حدث لمن أصيب بها، وإنما على صعيد التشققات والانكسارات والجروحات الداخلية للنفس التي تعيش أو تقرأ أو تشاهد من على شاشةٍ باردةٍ للتلفزة هول هذه الفاجعة.

وكما لو أنّها “انفراط الجسد إلى كائناتٍ يصعُب جمعُها من جديد وقت الحب”، بتعبيرها، تنثرُ مناهل السهوي كلماتِها وجملها في قصائد مجموعتها الشعرية الأولى “ثلاثون دقيقة في حافلة مفخّخة”، مثلما تنثرُ قصائدَ المجموعة شظايا حرّةً دون بنيةٍ ناظمة لها، لكنها تشكل في ذات الوقت جسداً واحداً وإنْ كان مثخناً بالطعنات، ويشير إلى نفسه بوضوح أنه الجسد السوري الذي مزّقت لحمه وروحه المأساة السورية، باغتصابات بناتها ودفْن أطفالها تحت أنقاض بيوتهم بالتفجير، وغرق قوارب مطاط ناسها اللائذين برحمة لا تسمع صراخهم، وثكل نسائها بأبنائهن، وصرخات حرب رجالها، وانكسارات أحلام هجرة شبابها، ودمار كيانها الذي تصعب لملمة شظاياه.

مِزَقُ الجسد السوري الذي يعكس نفسه في مجموعة السهوي الشعرية تتوزع خمساً وسبعين قصيدة نثر قصيرة، لا يتجاوز طول واحدتها الصفحة ونصف، تحت عناوين موحية، بمزايا قصيدة نثر ما بعد الحداثة وحساسياتها الصادمة، مع غموض السخرية التي يحجبها ثقل ظلال الموت المخيمة على أجواء المحيط. وهي بمواصفات لغة الحياة اليومية التي يمكن نسجُها قصصاً، دون إيلاء كبير اهتمام لتداخلات الكتابة مع المعاني، أو لإدخال الثقافة الجمعية والثقافة العالمية كجزء من نسيج القصيدة كما يفعل الكثير من شعراء وشاعرات قصيدة النثر المحترفين، مع صياغتها للقصائد بمواصفات الكتابة الآلية وتداخلات التركيب التي تأتي بين سطور القصيدة، وخارج السطر البسيط نفسه على الأغلب. لكنها وفي جميع الأحوال تشكّلُ عالماً مميّزاً له مفاتيحه التي تشير إلى تميّز الشاعرة الشابة، وتضعُ مجموعتَها ضمن الأعمال الفنية التي تناولت المأساة السورية، وتجنبتْ الوقوع في فخاخ إسقاطها بردود الفعل السطحية التي تنصبها المآسي المهولة عادةً للكتابة عنها:

“ما منحتني إيّاه الحرب بأمانة

مقعداً في حافلة،

أراقب المدينة منه

أسمّي أماكن جمعتْني بكَ

وأبتسمُ للمشردّين،

للعجائز تحت شجر الحدائق

لتبدوَ الأيّام أشدّ قرباً

كقطرة عرقٍ حميمية تنزلقُ على صدري

كلّ الذكريات حقيقية للغاية

خلف شبّاك الحافلة

حياتي العالقة في زحمة الحرب

لم تأخذْ أكثرَ من ثلاثين دقيقة

ثلاثين دقيقة أروي لنفسي فيها كلّ ما حدث

كامرأةٍ طيّبةٍ تسترجعُ ذكرياتها بعَجلٍ

قبل أن يُفتحَ الباب،

وتُرمى بالرصاص…”.

مفاتيح قصائد مجموعة السهوي واضحةٌ كما يبدو في القراءة، وتكشفُ عن نفسها ببساطة، لليد التي لا تريد إرهاق شغفها بالألغاز، ويأتي في مقدمة هذه المفاتيح: الحب، بأشكاله المتداخلة مع:

ـــ إكمال النقص في آخر لا يكمل النقص، كما في قصيدة “رهانات الرحيل”.

ـــ الشغف المعلّق على صراط حبسه وإطلاقه، قطيعَ ذئابٍ متوحشةٍ في توق الجسد للاشتعال، كما في قصيدة “كتلة من الخدوش”.

ـــ التغيّر الذي يَفرط الكائنَ وقتَ الحب إلى كائنات يصعب جمعها من جديد، كما في قصيدة “أشياء تأتي على مهل”.

ـــ القلق والخوف اللذان تولّدهما الحرب، ويعطّلانك عن أن تحبّ “امرأةً تتعرّى لكَ/ دون أن تتخيّل ثقلَ جسدك سقفاً ينهار فوقها/ دون أن تشمّ رائحة الردم كلما قبّلتَها…”، كما في قصيدة “فتاة من بلادٍ هادئةٍ”.

ـــ ومع الموت الذي يتداخل مع كل أشكال الحب والحياة في القصائد، ويشكّل المفتاحَ الثاني لها، بما هو: مقبرةٌ جماعيّة، جثّة، سرير من رصاص فارغ، امرأة بأذن واحدة، رصاصة، رائحة بارود، كلاب بوليسية، أقدام رجال، أعقاب سجائر، امرأة جافة، طلقة معطوبة… وجميع عناوين القصائد الأخرى التي تصور حلول الموت رفيقاً للسوريين في طعامهم وشرابهم وأنشطتهم التي لا تسْلَم منها ممارسة حبهم. ويصل تداخل تفاصيل الموت في حياة السوريين إلى ذراه في تمنّي شكله الذي لا شكل له:

“أيّها الموت الذي أتمنّاه

لا شكل لك

لا يدين قاسيتين

ولا عضواً يخترق لحمي الطري

أيّها الموتُ الوديع

في سريرٍ دافئ

بين يدي رجلٍ عطوف

أيّها الموتُ الصباحيّ الطويل

امنحني اشتهاءكَ

لأمنحكَ أقدامًا حيّة

قل لي أحبُّكِ

لنبدأ بقبلة مثلًا

ربما يكون هذا الرحيل أقلَّ قسوة”.

وفي تمنّي الموت هذا لا يغيب الإفصاح عن رغبة الانتحار خلاصاً من ثقل معاناة قسوة هذا الموت. ويفصح الموت عن المفتاح الثالث الذي تظهره قصائد مناهل السهوي، بصيغة “الحرب”، التي تجتاح بشاعتُها البشر لتكونَ صورتَهم، ولـ”تلج رائحة بارودها ما بين سيقان نسائهم بذرّات لا متناهية من الألم”؛ بدلاً من الحب، إضافة إلى فعلها المهول في تحويل الأصابع بعد القصف إلى “أنوفٍ لا تشم/ ولا تسمع شيئاً/ لكنهّا تنبش وتنبش/ ليخرج الدم والركام/ ورضيعٌ لم يتعلّم الصراخ قبل موته”.

وتفتح منال السهوي في لوثة الحرب والموت باباً سرياً مستفزاً لخواء الرجولة، بمفتاح رابعٍ هو مفتاح الرجال الذين “يتحوّلون لآلة ضخمة/ بعضهم يسمّيها دبابة/ وآخرون طائرة/ وقليلون مثلي/ يعرفون أنّهم الرجالُ وحسب…”. الرجال الذين لا تكاد تخلو مفاتيح الحب والحرب والموت منهم، بواقعية علاقة النساء بهم، حبّاً لهم، وخذلاناً منهم، ونكراناً لأفعالهم المشينة التي تصل ذروةَ بشاعتها في قصيدة أقدام الرجال: “الفتاة التي اغتُصِبت/ في ساعة مبكّرةٍ من الحزن/ سال جسدُها على فراشٍ قاسٍ/ الأرضُ وحدها/ تحت الجسد النحيل/ سمعت صوت تمزّق قلبِها/ قلبِها الذي دهَستْه أقدامُ الرجال/ المسرعين إلى الحرب”.

بعودتنا إلى “المنتصف” الذي أخذ مكانه كثلاثين دقيقة في جريان الزمن، بحافلة مفخّخة، والذي يأخذ مكانه كمفتاح أو برزخٍ للتداخل المبدع بين متضادين يشكّلان وحدتهما في التداخل، تتجلّى موهبة هذه الشاعرة، في فتح عالمٍ وإقامة عالمٍ موازٍ له، مع فتح قنوات تداخلٍ بين العالمين، لعيش لحظة المنتصف، “لحظة انقلاب القارب” كما تسمّيها، حيث:

“في منتصف القُبلة

لا مكان أعمق

يذوب لساني كمركبٍ وحيدٍ في فم البحر

في منتصف كل الأفعال

نملك حقّ التروّي

في اللحظة العظيمة لانقلاب القارب،

لتشتّت الحمولة

ولفقدان أمتعتنا..

تستشعر الأسماك حركةً على السطح

أمدّ لساني،

أحرّك الأجساد المقلوبة

وأخرج في شهيق طويل

لعابكَ موجٌ مالح،

لا مكان أعمق للساني

أما في البحر:

هناك قاعٌ،

لا يكلّفنا الوصول إليه سوى قارب مقلوب…”.

ولا تنقص هذه العودة ما تتميز به قصائد المجموعة من غنىً في تجسيد الكثير من بواطن الجروح التي فتحتها الرماح المنهالة من كلّ صوبٍ على الجسد السوري، وفي محاولاتها أن تكون هذا الجسدَ الذي يصرخ من انفتاحات هذه الجروح.

كمجموعة أولى لشاعرة شابة، تفصح “ثلاثون دقيقة في حافلة مفخخة”، عن موهبة شعرية مميزة بالعمق والغنى، وتفتح الباب واسعاً لنهر شعرٍ، من المتوقّعِ له أن يتدفق بجنونٍ دونما ضفاف.

مناهل السهوي: “ثلاثون دقيقة في حافلة مفخخة”

منشورات المتوسط، ميلانو 2019

108 صفحات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول nizar:

    «البناء»، التقت الشاعرة السورية الشابة منال السهوي، وكان هذا الحوار.

    مَن هي مناهل السهوي؟ وكيف بدأت تجربة الكتابة؟

    ـ أنا من مواليد مدينة السويداء في سورية، درست الأدب الفرنسي في جامعة دمشق، وقد صدرت لي مجموعة مشتركة مع الشاعر أحمد كرحوت عن «ملتقى ثلاثاء شعر» بعنوان «قاع النهر ليس رطباً»، أنطولوجيا سورية مترجمة إلى الألمانية بعنوان «بورتريه للموت»، إضافة إلى مشاركتي في مجموعة أعدّها الروائي السوري خليل صويلح بدعم من جمعية «نحن» الثقافية بعنوان «سرير تتقافر فوقه الأسماك».

إشترك في قائمتنا البريدية