■ كلامي ليس موجها إلى الذين لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون ولا تفقه قلوبهم التي ختم الله عليها أقفالها. ومن الأفضل جدا، ترك هؤلاء في غيهم يعمهون، فإنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء. ومن الأفضل جدا، ترك هؤلاء في أقرب سلة مهملات، والانصراف إلى دروس التعلم من الشعب المصري، الذي إذا عزم وتوكل على الله، وأراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر وان تتوالى المعجزات.
والشعب المصري يفعلها الآن، يبلور إرادته الحية ويصوغ من خبرته التاريخية المختزنة ومن وجدانه الجمعي الفريد، ملحمة ذهبية، ويفصح عن قوة الخير الكامنة في ضميره، ويهزم الدنيا كلها التي وقفت في طريقه ويزيح ركام الظلام ويفتح طريق النور الرباني.
لست شوفينيا ولا متعصبا، وان كان التعصب لمصر مما يدخل الجنة، فقد كرم الله مصر بعظيم الذكر في كتبه المقدسة، وكرم النبي (صلى الله عليه وسلم) مصر، وعظم أجر أهلها، فهم خير أجناد الأرض، وهم في رباط إلى يوم الدين، ومصر قد تضعف أحيانا، وقد يختنق صوتها، وتبهت صورتها، لكنها لا تموت أبدا، وتقوم دائما كالعنقاء من رمادها، وعلى نحو ما فعلت في سفر خروجها من انحطاط تاريخي متصل، دام أربعين سنة مضت عقب حرب أكتوبر 1973، زاغت فيها الأبصار وانحبست الصرخه في صدر البلد العظيم، وفي لحظة الثورة، توالت آيات مصر العظمى، ونفضت عنها حكم مبارك الطويل البليد الراكد، وأفاقت على الهول الذي جرى لمجتمعها، وقد تحول إلى غبار بشري بائس يائس، تكاثرت فيه فطريات اليمين الديني، التي تغذت على بؤس المجتمع وخاطبته كجمعية خيرية، ثم خاطبت يأس المجتمع كجمعية دينية، وتضخم اليمين الديني ـ أو المتلاعب بالدين ـ بصورة مفزعة، وكان على مصر أن تواصل الشوط لآخره، وأن تدفع هؤلاء إلى محنة الحكم الكاشفة للخيبة والخزي، وقد كان، وتحولت محنة الغرباء عن روح مصر، الذين قالوا «طظ في مصر»، تحولت محنة غزاة الروح إلى نعمة، أيقظت روح مصر العفية من سباتها، ورفعت الغشاوات عن الأبصار، وخرج عشرات الملايين من المصريين في ملحمة الذود الباسل عن ثورتهم، وفي مشهد غير مسبوق ولا ملحوق في مطلق عصور وثورات التاريخ الإنساني، وألقت بحكم الإخوان إلى حيث خلعت حكم مبارك.
والحمد لله الذي خلقني مصريا، فهذا البلد الأمين لا تخطئ غريزته أبدا، ولا يخيب الرهان عليه، قد نستبطئ خطاه أحيانا، وقد ننعى عليه مراحل هدوء وادع يشبه الاستسلام، لكن هدوء السطح خادع، فمصر تبدو هادئة ناعمة كصفحة النيل، وفي لحظة العصف، يتحول البلد من سلوك النيل إلى سلوك الفيل، وتتحول مصر إلى بلد داهس كأقدام الفيل، فعلتها في ثورة 1919، وفعلتها في الحماس الشعبي العارم لثورة جمال عبد الناصر، وفعلتها في الخروج المذهل يومى 9 و10 يونيو/حزيران 1967، وفعلتها في انتفاضة 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977، وفعلتها في ثورة 25 يناير 2011، وفعلتها في الموجه الثورية الأعظم مساء 30 يونيو/حزيران 2013، وفعلتها في تلبية نداء السيسي للخروج في 26 يوليو/تموز 2013، وتفعلها الآن مجددا، وبوسائل أخرى، حين استشعرت الصدق ونية الإنجاز في مشروع التوسعة الجبارة لقناة السويس، ولبت نداء تمويل المشروع بالاكتتاب الشعبي العام، وأقبلت بصورة إعجازية على شراء شهادات استثمار قناة السويس، وعلى نحو لم يرد في بال ولا طرأ على خيال، وجمعت عشرات مليارات الجنيهات في ثوان ودقائق وأيام، وكان مخططا أن يجتمع التمويل المطلوب (60 مليار جنيه) في ستة شهور على الأقل، وكانت مفاجأة المصريين، أن المبلغ يكاد يجتمع في عشرة أيام، وليس في مئة وثمانين يوما (!).
إنها مصر التي تتحدث عن نفسها، وبغير رتوش ولا أصباغ، مصر الحية التي تنهض من تحت الردم، مصر التي أذلوها وأفقروها، ونشروا المرض القاتل في صدور وأبدان وأكباد بنيها، مصر المرهقة المكدودة المنهكة، مصر التي حبسوها في القمقم، مصر التي أرادوا حجزها في سجن العجز، وبدا أنها استسلمت أو كادت، وسلمت مفاتيحها، وصلت صلاة مودع، فإذا هي في لحظة تقلب الموازين، وتأمر الدنيا فتطيع، وتستعيد كلمة الخلق الإنساني، تثور وتحطم وتخلع حكم الظالمين، وتهزأ بجماعات الإرهاب والحرق والتدمير، وتشق طريقها وسط أطواق النار، وتعرف أنها المنتصرة بإذن الله تعالى، وأن ساعة التاريخ تدق على وقع أقدامها، فقد صنعت مصر فجر التاريخ الإنساني، وها هي تعاود سيرتها وعادتها، وتعيد النجوم إلى مداراتها، وتثبت أنها أقوى من الخطر، وأنها أعظم بلد في الكون.
نعم، مصر هي المصريون، وقد عانت مصر طويلا، واجتمع عليها السفة واللصوص، وجرى نهبها مرارا وتكرارا، وتجريف مقدراتها وركائزها الإنتاجية في الأربعين سنة الأخيرة بالذات، وإخراجها من سباق العصر، وحشرها في زمرة الأيتام على موائد اللئام، لكنها تفيق الآن. وعلى مدى سنوات العواصف المتصلة منذ بدء ثورتها الكبرى في 25 يناير، تفـــيق من الغيبـــوبة التاريخية، وتستعيد الشـــعور بالألم، وتعرف أوجاعها وجراحها، لكنها ـ أيضا ـ تعرف طاقـــة الخلـــق الكامـــنة فيــها، تعرف سر الله الذي يسكنها، وتعـــرف أيضا أن من أرادها بسوء قصم الله ظهره، ربما لذلك، تتصرف مصر مع الخطر بروح الواثق من النجاة، وتلتقط إشارات النهوض، وتميز النقاوة من الرخـــاوة، ولا يخدعها اختلاط الصور، وكثافة الضباب المحيـــط في لحظة المخاض العسيرة، فمصر الآن تلد مصر الجديدة، وتودع عصور المذلة والمسكنة، وتأخذ مصائرها بأيدي أبنائها وبناتها، ومن دون انتظار لعطف المانحين، ولا لكرم اللصوص الذين نهبوها، ويطلقون على أنفسهم صفة رجال الأعمال أو المستثمرين، بينما هم لا يستثمرون في شئ سوى عذاب الشعب المصري، الذي أثبت مقدرته وحده على الاستثمار النشيط الكفء، باستنفار الإرادة الشعبية العامة، وبجمع القروش القليلة التي تكون عشرات المليارات، وبوسعها أن تجمع مئات المليارات من الجنيهات، بوسعها أن تجمع تريليون جنيه مصري، يحلم بها السيسي لبناء مصر الجديدة، فقد استطاع الرجل أن يكسب ثقة الشعب المصري، ليس فقط بتصويت الرئاسة الذي ذهب إليه بما يشبه الإجماع، وليس فقط بشعبيته الصلدة التي لم تتأثر بالقرارات الصعبة وانهيار المرافق والخدمات، ولا بالتخريب وحرائق الجنون التي تشعلها جماعات الإرهاب، وقد كانت تلك مفارقة ظاهرة، وما من تفسير لها سوى «كلمة السر» والكيمياء المميزة التي جمعت السيسي بالشعب المصري، فقد استشعر المصريون صدق السيسي، ولم تأبه غالبيتهم العظمى بمئات الحملات التي تشن عليه، وقد ذهبت كلها أدراج الرياح، وظلت الثقة المتولدة عن صدق السيسي تتزايد، وهذه الثقة هي العصا السحرية المباركة، التي تشق عباب البحر، وتحفر قناة السويس الجديدة في زمن قياسي، وفي انجاز يشبه الإعجاز، وفي عمل جبار يرفع مليون متر مكعب من التراب كل يوم، وفي تصميم على اختصار الزمن المطلوب من ثلاث سنوات إلى أقل من سنة، وهو الإنجاز الذي بادله الشعب المصري بإنجاز أعظم، وجمع التمويل المطلوب في لمحة عين، ومن دون انتظار لمؤتمرات المانحين، ولا لشروط المستثمرين في عذابنا، ولا لقروض صندوق النقد الدولي التي لم تعد مصر تريدها، ولا تطيق احتمال مذلتها.
انها ساعة الشعب المصري تدق الآن، فليضبط العالم ساعاته على وقع أقدام المصريين الزاحفة، وعلى طريقة «ملايين الشعب تدق الكعب».
٭ كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
الناصريين أصبحوا لا يطاقوا بتاتا لا يفقهون غيو التزوير وصناعة الأصنام الله يريحنا منكم