في رواية «ترتر» التي صدرت منتصف عام 2019 يأخذنا نزار عبد الستار إلى عالم سردي يتحايل فيه على التاريخ بمخيلة جامحة، فيستدرجه إلى مشغله من غير أن يتورط في استدعاء ما هو مدون من سرديات في المراجع التاريخية، ليحافظ بذلك على حريته في بناء خطاب سردي مشبع بالأحاسيس، إزاء ما يصيب شخصياته من متغيرات بفعل ما يجري في حياتهم من تحولات، والعلاقة بين التاريخ والرواية علاقة وثيقة تعود إلى بدايات الفن الروائي في القرن التاسع عشر، لكن النضج والتطور الكبير في أساليب السرد الروائي أخضعا التاريخ إلى اشتراطاته الفنية، وهذا ما نجده حاضرا في هذه الرواية، التي يصح أن نقول عنها إنها نص تخيلي بامتياز، رغم مرجعية التاريخ في تشكيل فضائها السردي إلا أنه بقي باعتباره معطى موضوعيا.
زمن سردي أفقي
ما يلفت الانتباه أن المؤلف ابتعد في بنية عمله عن أي محاولة لاستعراض معطيات ما انتجته الحداثة وما بعدها من تقنيات، فلم نجد تلاعبا فنيا في حركة الزمن، حيث تخلى عن أي مسارات، من الممكن أن يأخذ بها الزمن إلى انعطافات حادة: ارتداداً أو استرجاعاً أو استباقاً، واكتفى بأن يأخذ مسارا أفقيا سلسا، محافظا بذلك على هيمنة السارد العليم وانفراده لوحده بالإمساك بخيوط السرد.
نزار عبد الستار لطالما عود القراء في جميع أعماله القصصية والروائية على أن يطلق العنان لسلطة التخييل وهو يسرد حكاياته، ولا فَرق لديه إن كانت من وحي الواقع اليومي، كما في مجموعته القصصية «رائحة السينما» 2008، أو أنه اقتنص خيوطها من التاريخ، وهذا ما يضعه في مكانة خاصة بين زملائه من الروائيين العراقيـــــين، فما يمنحه من مساحة لا حدود لها لسلطة التخييل في سردياته القصصية والروائية يجعله الأقرب فهما إلى صنعة الروائي في حريته اللامحدودة، بانتــــهاك حقيـــقة التاريخ، وذلك بتقديســــه سلطة التخييل. وما يحوزه من أسلوب يمنح نتاجه أهمية كبيرة في السرد الروائي العراقي، نظرا لما يمتلكه من مهارة في تخلــــيق الحكايات، كما أنه ابعـــد من أن يُفـــــرغ في أعماله عُقداً وحسابات أيديولوجية، وهذا ما يؤخذ على الكثير من الروايات التي تصدر في العراق، خاصة بعد عام 2003 لافتقار مؤلفيها إلى الخيال، إذ تبدو أقرب إلى أن تكون منشور سياسي مؤدلج منها إلى أن تكون رواية.
الحقيقة والخيال
دائما ما يعقد نزار عبد الستار اتفاقا يتواطأ فيه مع القارئ، ومن خلاله يسرد حكايات حافلة بأحداث وشخصيات وأزمنة وتفاصيل مفعمة بالحياة، لا تجمعها مع التاريخ والواقع علاقة وثائقية، وكل ما يسرده يأتي من مخيلة سارد يمتلك صوته الخاص ما يمكنه من أن يؤسس بنية سردية موازية للعالم الواقعي بالشكل الذي يصعب فيه التفريق بين عالم أنتجته سردية مُتخيلة، عن عالم أنتجته سرديات التاريخ، في الوقت ذاته تمنحنا عوالمه السردية المغرقة بالتخييل ما يكفي من الدلالات الواقعية والتاريخية إلى الحد الذي نتساءل عن طبيعة العلاقة بين الحقيقة والخيال. هذه اللعبة يتقن عبد الستار أسرار التحكم في مفاتيحها، والمضي فيها إلى أبعد مما تمتلكه ممكنات السرد الروائي من مساحة للخلق والابتكار، وقد مارسها في هذه الرواية بكل ما تمتلكه مخيلته من مرونة في محاورة التاريخ وتعريته خلال الفترة الزمنية التي عاشتها مدينة الموصل في أخريات أيام القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين من 1899 إلى 1908.
تتجلى مدينة الموصل في هذه الرواية بوضع معقد فرضته ضغوطات تقف خلفها إرادات دولية، من أجل الهيمنة عليها، فتنغمس هذه الإرادات في ما بينها بصراع سياسي شرس، بالتالي تصبح المدينة نتيجة لذلك رهينة حرب خفية بين ممثلي الدول الاستعمارية.
السرد ومعايير التاريخ
تتجلى مدينة الموصل في هذه الرواية بوضع معقد فرضته ضغوطات تقف خلفها إرادات دولية، من أجل الهيمنة عليها، فتنغمس هذه الإرادات في ما بينها بصراع سياسي شرس، بالتالي تصبح المدينة نتيجة لذلك رهينة حرب خفية بين ممثلي الدول الاستعمارية. وتكشف لنا أحداث الرواية عن مدى الضعف الذي انتهت إليه الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر، إلى الحد الذي بات فيه الإنكليز يدفعون رواتب الولاة الذين يتعاقبون على حكم الموصل. وبمهارة المحترف، رسم لنا المؤلف خلفية تاريخية لأحداث روايته، والمناخ الاجتماعي الذي يحيط بالشخصيات، بمعنى أنه قد حدد مكان وزمان أحداث روايته، بذلك وضع القارئ أمام التاريخ، لكنه اكتفى عند هذا الحد من العلاقة بين السرد والتاريخ، في مقابل ذلك اشتط بمخياله في تشكيل أحداث روايته.
أما بخصوص شخصياته، فجميعها شاء أن تكون جزءا من الطبقة الحاكمة والمتنفذة في المدينة: ولاة، تجار، قناصل لدول أجنبية، رجال دين لهم سطوة كبيرة على المجتمع. وكأنه بتغييبه لشخصيات تنتمي إلى العامة، أراد أن يقول بأن الناس ونتيجة سطوة التجهيل الديني والمجتمعي، لم يكن لهم أي فعل إيجابي أزاء ما يجري من صراعات تهدد مستقبل مدينتهم، وإذا ما تعمقنا في قراءتنا خطاب الرواية، سنجد تعرية للمسكوت عنه في الفترة التاريخية التي تدور فيها أحداثها، ولِأجلِ أن تكتمل الصورة بكل ملامحها قدم لنا تفاصيل دقيقة عن ملابس النساء والرجال، والأقمشة ومعمار الأبنية، وأسواق المدينة والعطور، ليعمق إحساسنا بالتاريخ والواقع عبر إخضاع المتخيل لمعايير التاريخ. نحن إذن أمام رواية تتصدى للتاريخ بتاريخ متخيل، يومياته ووقائعه وشخصياته تنطوي على قدر كبير من المعقولية والواقعية بالشكل الذي يضع مدونات التاريخ في خانة الأوهام.
المتن الحِكائي
بعد أن يتم إبلاغها بإنهاء خدماتها من شركة توماس كوك لخدمات السفر، التي استمرت تعمل فيها لمدة عام كامل تصاب بالخيبة «آينور هانز» ابنة الضابط الألماني الذي قتل عن طريق الخطأ أثناء التدريب، بعد ولادتها بسنة وأربعة أشهر، أما والدتها فقد اتخذت قرار العودة إلى الديانة الإسلامية التي كانت قد تخلت عنها من أجل الحب، بذلك تنتهي مهمة «آينور هانز» في رعاية الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني خلال رحلته إلى الشرق، خاصة زيارته للعاصمة العثمانية إسطنبول، إلا أن السلطان عبد الحميد الثاني يستدعيها ويكلفها بمهمة في مدينة الموصل، لإنشاء صناعة نسيجية هناك، ومساعدة التجار الألمان على العمل في الولاية والتوسع بعدها إلى بغداد والبصرة، والهدف من كل ذلك تدمير تجارة الإنكليز، ولأن آينور بطبيعتها لا تهاب الذكور، حين يحاول أحدهم اختصار المسافة معها، قبلت المهمة، ولأجل إتمامها تتعلم اللغة العربية، ويتم توديع أموال في حساب خاص بها في البنك الإمبراطوري العثماني، وتحاط علما بكل الجواسيس الإنكليز والفرنسيين والروس، الذين ينشطون في الموصل قبل أن تصل إلى المدينة، ويتم إبلاغها بأسماء رجال الدين في الموصل، الذين يتلقون من السلطان عبد الحميد شخصيا التوجيهات السياسية لمواجهة أئمة الجوامع، الذين جندهم الإنكليز ضد مصالح الدولة العثمانية، وختم السلطان وصيته لها بأن تغادر الموصل فور حدوث أي شيء يهدد مستقبله. وبعد أن تمر في البصرة وبغداد تصل إلى الموصل وبرفقتها اثنان من الخدم ، بريتا الألمانية والحبشي تابور، ومن اللحظات الأولى لوصولها تلتقي بالمشرف على قسم الخياطة في مدرسة الصنايع في بغداد «كروغر هايس» وهو مواطن ألماني من مدينة فورتمبيرغ، وقبل أن يفرش أمامها خريطة الموصل ليحدد لها الأراضي التي تصلح أن يقام عليها المصنع والمتجر، نبهها إلى أنه يتوجب عليها أن تدفع راتبا شهريا لوالي الموصل مقداره 1500 قرش. وأن تسعيرة الرشوة هي نصف مرتب مرة واحدة ونصف قيمة الضرائب كل ستة أشهر، وبهذه الطريقة يضمن الوالي حقوقه.
إن كانت الموصل بائسة المظهر مثل بغداد فعلينا جعلها جميلة بعض الشيء وميالة للحياة، وعلينا إلقاء البدو والعشائر خارج الأسوار.
كما قدم لها كروغر هايس تصورا عن أوضاع المدينة «هنا كل شيء مقسم فعليكِ الانتباه. فالإنكليز يملكون القيادة لأن أموالهم في كل مكان، وهم الذين يدفعون مرتبات الجيش العثماني السادس. ويحركون مفاصل التجارة. ويستوردون من الموصل كل إنتاجها من الصوف والجلود وعرق السوس والحبوب. ويديرون بمهارة تجارة الخيول. إنهم يفهمون عقلية البدو والعشائر أفضل منا. يدركون قيمة إبقاء كل شيء على ما هو عليه. أما الأمريكان فقد فشلوا في إدخال الصناعة إلى الموصل، ولم يتمكنوا من إغراء التجار المحليين بآخر اختراعات صناعة الغزل والنسيج، حتى إنهم فشلوا في مشروع مكابس عرق السوس». وأدركت في حينها أنها لم تكن على علم بأن المدينة التي حطت رحالها فيها قد أصبحت ميدانا ساخنا لصراع سياسي دولي بين القوى الكبرى للهيمنة عليها، فالروس تمكنوا من أن يحصلوا من الإنكليز على تجارة الجوارب والسجاد والأدوات الزراعية والصابون، وفرنسا تريد احتلال المدينة، فهي تتنافس مع الروس على كسب الكلدان والسريان والأشوريين والأرمن إلى جانبها. وفقا لذلك يرسم لنا المؤلف صورة متخيلة عن الموصل في نهاية القرن التاسع عشر، تبدو فيها مكانا موحشا، وتعاني من تخلف أوضاعها الاجتماعية، بعد أن أنهكها حكم العثمانيين، ودفنوا تاريخها المزدهر الذي كانت عليه «الموصل مدينة عمرها أكثر من ألفي عام، ولكنها بلا مدنية وتشبه حظيرة خنازير. هي مكان للمبيت وسوق بائسة لا غير، الإنكليز استغلوا فساد الولاة وتوغلوا بأموالهم عميقا».
ورغم قساوة الواقع الذي اصطدمت به هانز آينور، إلا أن علاقة حب سرية تنشأ بينها وبين الموصل، تجعلها تصر على أن تواصل العمل، رغم مؤامرات الإنكليز والروس والفرنسيين لأجل أن لا تنجز مخططاتها في تحديث المدينة: «إن كانت الموصل بائسة المظهر مثل بغداد فعلينا جعلها جميلة بعض الشيء وميالة للحياة، وعلينا إلقاء البدو والعشائر خارج الأسوار». لم يكن من السهل إقامة معمل للجوارب أو الملابس الداخلية، أو مستشفى يستقبل النساء، فالبيئة الاجتماعية ترزح تحت ضغط شديد من التزمت الديني، إلى الحد الذي لم يكن ممكنا أن يتقبل سكانها، أي صورة لتحديث الحياة بالانفتاح على العالم الآخر، فهم يظنون أن الحضارة كفر ومعصية لله. ومع ذلك تنجح في إقامة مصنع رودلف للجوارب، لكنه يتعرض للحرق والتدمير من قبل مجموعة من المتشددين الملثمين، الذين كانوا يحملون أسلحة روسية والتي تم اكتشافها في ما بعد. وبعد سلسلة أحداث يصبح فيها السلطان عبد الحميد في وضع حرج، يطلب منها العودة إلى إسطنبول، وعندما تصل يبلغها أن مهمتها قد انتهت، فيربت على كتفها ويهمس في أذنها «الطيبون والحالمون يخسرون دائما، ولكنني لا أعتقد أن هذا الأمر له علاقة بقوة الشر.. لو أننا نجحنا وحققنا ما نريد، فما الذي سيبقى للذين سيولدون بعدنا؟ أنت جربت وشاهد الناس أعمالك وعرفوا أن الأحلام يمكنها أن تتحقق. هذا هو إنجازك العظيم يا آينور هانم».
*مفردة ترتر تشير إلى نوع من الأقمشة لها لمعة وبريق خاطف نتيجة تحليتها بخرز ملون، وعادة ما تحرص النساء على ارتدائه في المناسبات المفرحة.
رواية «ترتر»: للمؤلف نزار عبد الستار
إصدار: هاشيت أنطوان – بيروت
الطبعة الأولى 2018
عدد الصفحات 278
٭ كاتب عراقي