رسالة لشباب مصر: عن عدم جدوى الصدام مع التاريخ

تعارف المؤرخون والباحثون في العلوم الاجتماعية على أن التاريخ هو ذاكرة الأمم والشعوب.. وأضاف علماء الاجتماع بأن التاريخ معمل للتجارب البشرية.. والعلوم الطبيعية يمكن اختبارها ورصد وتسجيل ما عليها من ملاحظات، وإجراء التجارب على عينات منها، وهذا ممكن، ووقت التجربة طال أم قصر كثيرا ما يأتي بفائدة، وهو من أسباب التطور والتقدم، وتكاد التجارب المعملية تغطي مجالات العلوم الطبيعية كافة.
وماذا كان يمنع التعامل مع التاريخ وباقي العلوم النظرية والإنسانية بنفس النهج؛ إلا أن الأمر لم يكن سهلا، فليس ممكنا اقتطاع مساحة من الزمن وتحنيط التاريخ مثلا لإجراء تجربة معملية، فالزمن أو التاريخ ليس مادة توضع في قارورة أو إناء أو غيره، فالتاريخ يُعاش ولا يرى أو يُلمس، وفيه سيولة مفترضة ليست كسيولة الماء مثلا.
وماذا كان الحل؟ وعلى مدى قرون والمؤرخون والفلاسفة والمفكرون في بحث دائم عن طريقة تُخضع التاريخ لقياسات ونتائج تساويه بالعلوم الأخرى، ومع اكتشاف أن للتاريخ منطقا وله سنن وقوانين، وليس خبط عشواء، أمسكوا بهذه الخيوط. وعكفوا على التركيز على رصد الأحداث وتطوراتها.. إلى أن وصلوا إلى أن التاريخ نفسه بجانب أنه ذاكرة الأمم والشعوب فهو معمل لتجاربها المتجددة بما فيها من نجاح وإخفاق.
وهذه مقدمة نتصورها ضرورية، ونحن نفتح صفحة جديدة في ملف شباب مصر؛ وقد لاحظنا أن هناك أعدادا لا يستهان بها؛ تعادي الماضي، وتصطدم دائما مع التاريخ، وأغلبهم نجده من بين المنتمين لتياري «الإسلام السياسي»، و«الليبرالية الجديدة»، وارتباطها بـ«المحافظين الجدد» والمسيحية الصهيونية، وكان لهم حضور ملموس أثناء ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، وبديا حاضرين وقادرين، ولديهما إمكانيات وفرتها الظروف والامتدادات المحلية والإقليمية والدولية.. وكانوا الأكثر تطرفا بين أحزاب وفرق «الإسلام السياسي» وتمخض عنها ما يمكن تسميته بـ«الاسلام المسلح» وهذا لا يمت بصلة للمقاومة الساعية لتحرير الأرض المحتلة؛ في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان.. و«الليبرالية الجديدة» نَشِطة في خلخلة الأوضاع الداخلية. ولها هيمنة على أقدار ما يربو على 50٪ من الاقتصاد والمال، فضلا على سيطرتهم على القرار السياسي.
و«الإسلام المسلح» خرج من عباءة «الإسلام السياسي»، وبدا مخولا بتوزيع «صكوك الغفران» على أتباعه، ورسالته للأغيار؛ «لقد جئناكم بالذبح»، وهي رسالة داعشية بامتياز، ورسائل «الليبراليين الجدد» أغلبها «صكوك مال» تصل من خزائن قادرة على شراء كل شيء؛ من الذمم إلى الأوطان، ويحصلون على الأسلحة الفتاكة ويستخدمونها في القتل والتفتيت والتدمير والتخريب.
وهذه سطور نلقي من خلالها الضوء على بعض ما في ملف شباب مصر، فما زال تيارا «الإسلام المسلح»، و«الليبراليون الجدد» يواصلان الحملات المكثفة ضد المقاومة والحركات الوطنية والقومية والديمقراطية.
وحكم التاريخ حين يصدر فهو حكم بات لا نقض فيه ولا إبرام، ويصحح نفسه بنفسه.. وهو بذلك يمثل إشكالية عند أتباع «الإسلام المسلح» بطبيعته العدوانية، وتناقضه مع ما جاء في القرآن الكريم «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (آية 34 من سورة فصلت) ومع مواقف «الليبراليين الجدد»، المعادية لـ«التاريخ» والماضي، وما زالت معارك «الفتنة الكبرى» مشتعلة لما يقرب من ألف وأربعمئة عام، وما زالت حامية الوطيس.

كثير من العرب يفهم التاريخ كدورات متواصلة من الثأر والموت والعدم، وهذا معناه النهاية، ومن الممكن أن يجعلوا التاريخ مصدرا للإبداع والتصالح واليقظة، والارتقاء بمضمون الحياة.. ويتحقق ذلك بتحرير الإنسان من العنصرية والقهر والظلم والاستبداد والفقر

وهذا معاكس لنظرة المؤرخين والعلماء والمفكرين الثقاة، التي اختلفت في المضمون والشكل، فهذا المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون؛ (1332 – 1406م)؛ العربي الأندلسي الأصل؛ عاش وتنقل بين بلدان المغرب العربي؛ في بسكرة، وفاس، وبجاية وتلمسان، وزار الأندلس وغرناطة واستقر به المقام في مصر، وأكرمه حاكمها السلطان برقوق وولاه قضاء المالكية، هذا العام ترك تراثا بعد وفاته فتح الآفاق حول فهم التاريخ والتعامل مع أحداثه، واللافت إن «أعداء التاريخ» العرب، لا يعطونه الاهتمام اللائق، كأهم فلاسفة التاريخ على مر العصور، ومؤسس «علم العمران»، أو «علم الاجتماع» بلغة العصر.. وتعتبر «المقدمة» التي كتبها أو «كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»؛ تعتبر من أهم المؤلفات حتى الآن، ويعود إلى ابن خلدون الفضل في فهم التاريخ، وفي الطفرة التي أحدثها في مجال العلوم الاجتماعية قبل أوربا بقرون.
ما أدركه ابن خلدون أن العرب يدونون التاريخ، ويعتبرونه ديوان الأخبار ومجمع الاحداث، وتجاوز هذه النظرة، وانكب على البحث في وقائع التاريخ، وسبر اغواره ومعرفة أسباب حدوثها وأثارها، وتناول سير المجتمعات البشرية، وركز في «علم العمران» على تحولات المجتمعات ككل؛ لا على سلوك أفرادها، وأكَّدَ ابن خلدون أن هذه القوانين قابلة للتطبيق على مجتمعات تعيش في أزمنة مختلفة، والشرط هو وِحْدَة البُنى فيها جميعا، وله نظريّات متقدمة في «العمران»، وبناء الدولة، وأطوار صعودها، وازدهارها، ثم ضعفها وسقوطها.
وفي المقابل نتعرف على أهم فلاسفة القرن التاسع عشر؛ إنه الفيلسوف الألماني هيغل (1770م ـ 1831م)، واسمه الكامل جورج فيلهلم فريدريش هيغل وتتمحور فلسفته على فهم «حركة التاريخ»، وأهم ما قدمه في ذلك المجال هو «الجدل» بمعنى «الديالكتيك»، وأشارت «الموسوعة الفلسفية المختصرة» إلى أن الاسم مشتق من فعل يوناني هو: «يحاور»، ومعناه الحوار، أو النقاش، أو الجدال.. وفرقت نفس «الموسوعة» بين الجدل عند أرسطو وكونه استدلالا عقليا، ولم يعد «الجدل» لدى هيغل مجرد استدلال عقلي، ورأى فيه حركة ثلاثية ضرورية، تنتقل من «الدعوى» إلى «النقيض» ثم «التأليف»، وتؤدي تناقضات الفكرة الناقصة، إلى إحلال فكرة نقيض لها محلها، وتظهر فيها العيوب نفسها، فلا يبقى إلا دمج محاسن الفكرتين النقيضين في صيغة ثالثة أفضل، وهذا من شأنه حل المشكلات، والتقدم خطوة نحو «الحقيقة»، وينشأ من جديد الموضوع ونقيضه، ويرتفع التناقض بينهما في تآلف جديد، وهكذا يحدث التطور والتغيير، ومحاولة الوصول لـ(الفكرة المطلقة)؛ حسب الفلسفة الهيغلية.
وأتى كارل ماركس ورأى الجدل الهيغلي كائنا يمشي على رأسه، وادعى أنه استطاع أعادته للسير على قدميه، وما زال تأثير نظرية التفسير الهيغلي المثالي للتاريخ كبيرا في الفكر السياسي الغربي، وكذا التفسير المادي الماركسي للتاريخ له تأثيره في حركات التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي خاصة في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وما زال العرب في واد وغيرهم في واد آخر، وكثير منهم يفهم التاريخ كدورات متواصلة من الثأر والموت والعدم، وهذا معناه النهاية، ومن الممكن أن يجعلوا التاريخ مصدرا للإبداع والتصالح واليقظة، والارتقاء بمضمون الحياة.. ويتحقق ذلك بتحرير الإنسان من العنصرية والقهر والظلم والاستبداد والفقر.

كاتب من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية