سيرة الألوان المذنبة

لم يكن أحد مرتاحا لرؤية هذا الرجل. ظهوره عند حلول الظلام جعل منه محلّ شكّ كلّ من في القرية. وقف أمام أحد المنازل المتواضعة وتزامن فتح الباب مع صوت عجوز تسأل عن الطّارق، بينما وقف شاب أمامه ينتظر الإجابة. قال في هدوء «أخبرها أنني كمال ابن علي». وبعد برهة تسنّى له الدخول وأغلق الباب الحديدي. كان الرعاة العائدون من الحقول والنسوة المتحلقات أمام البيوت يراقبون المشهد بانتباه شديد، حتى إذا انتهى عاد الكل إلى شغله مصابين بحيرة من يكون هذا الرجل.
احتضنته العجوز طويلا وهي تردّد السؤال «أين غبت يا ابن أخي؟ أبوك مات ولم تره» وحين أيقنت أنّه لن يجيبها أمرت ابنها أن يحضر له بعض الماء ليغتسل ويرتاح في انتظار الطعام. كذلك انتهى اليوم الأول والأسبوع الأول وسرعان ما تحوّل منزل العجوز إلى مزار للمتطفلات، ولحق ابنها وابل من الأسئلة عن هوية الرجل وحين يجيبهم بأنه ابن خاله يصابون بالدّهشة، إذ هم يعرفون كل أبنائه. لقد تحوّل هذا الرجل إلى لغز فلم يكن يغادر البيت سوى مرة واحدة، يخرج عند الظهيرة ولا يعود إلاّ مع غياب الشّمس وبالكاد كان يردّ التحيّة، إذا بادره أحدهم بها. قال أحد الفلاّحين إنه لمحه في المقبرة فتحوّل في نظر الجميع إلى مشعوذ ساع وراء الكنوز، خاصة أنها بنيت على أنقاض مقبرة رومانية ولطالما انتشرت الخرافات هنا فتوصّل الأطفال إلى أنه غول يختطف الصّغار.
في الحقيقة لم يكن كمال أكثر من شخص يحلم بعودة الزّمن ليبدأ حياة سعيدة. يجلس هنا في ظلّ الأشجار عند قبر أمّه يبكي لساعات. لم يكن يدري حقّا الهدف ممّا يفعل، إن كان طلبا للمغفرة أو حزنا على والدته. كل من يرقد هنا شاهد على حياته البائسة، وهناك على بعد أمتار، حيث أنقاض بيته العائلي يأتيه صوت والده الّذي كان يردّد في صباه «أنت لن تكون صالحا لا في الدّنيا ولا في الآخرة». على تلك القاعدة بنى حياته.
لم يكن ابنا بارّا، غادر المدرسة في الصفّ الأخير بعد أن كلَّ الرّسوب، وظلّ سنين يعيش في الروابي منتظرا الوقت للعمل في المناجم. طول تلك المدّة كان يتّخذ من الرّسم شغله الشّاغل، وصار لا يفارق قلمه ودفتره وكلّ ما يريده هو بعض الألوان لإضفاء بهجة الحياة على صوره. لم يكن العمل على عمق ثلاثين مترا سهلا، لكنّ بنية جسده ساعدته على الاستمرار لأشهر تسنّى له فيها شراء كلّ الألوان المتوفّرة، ثمّ ترك العمل بسبب الأجر الضّعيف. بقي يعيش حياة المشرّدين إلى أن التقطته قوات الأمن ذات مرّة وقد تعتعه السّكر، فأجبر على الخدمة العسكرية عاد بعدها طالبا من والده قطعة أرض لإقامة مشروع فلاحي. حين رفض هذا الأخير صار يرى فيه الشّر الأعظم، إذ لم يكن والده يعامله كبقية إخوته، وانتهى به الأمر إلى الحصاد ورعي الأبقار وتنظيف الإسطبل، كلّ ما صار يريده حينها هو التّخلّص منه. كان له أخ يدرس بعيدا، فأرسل برقيّة باسم الجامعة يخبر أهله أنّه قد مات متسبّبا بذلك في دخول الأب إلى المستشفى، تلاه بعد ذلك تسلّله إلى البيت وسرقة كل ما تملكه أمّه من حلي، زاعما أنّها من حقّه مقابل جهده وانتهى بها الأمر إلى العجز عن الكلام ثمّ الموت. قيل إنّه هرب إلى أوروبا أو غرق وهو يحاول الوصول، لكنّه في الحقيقة كان قد التحق بمجموعات حفظ السّلام في الكونغو، ذاق خلالها عيشة قاسية، وعاد بعدها خالي الوفاض تلى ذلك تسريحه من الجيش بعد قيامه بتزوير أوراق إدارية ـ كذلك كان يزاول هوايته.
كان ابن عمّته يصاب بالرهبة كلّما ساعده في الاستحمام، إذ امتلأ ظهره بثقوب عديدة كأثار رصاصات وشقّت بطنه ندبة عريضة، لكن لم يكن ذلك يزعجه بقدر الآلام الّتي تنسيه الرّاحة أيّاما، ونومه المقطوع بصوت القذائف والدماء، كذلك كان ينتظر النهاية.
في هذا المكان الهادئ على مقربة من الماضي وبعض السكينة يشغل الموت فكره، هل سيرى من يرقدون هنا مجدّدا؟ قد لا تسعفه الأحاسيس إذا رأى والده، ربّما سيلمحه بدون أن يبصره. الآن سيبحث عن مبرّر لما فعل، سيتمسّك بعذر معاملة والده السيئة، إذ لا يقدّم له سوى الطعام وبعض الأشلاء مقابل أتعابه، لكن ما ذنب أمّه في ما فعل؟****
لم يتأقلم كمال مع الظروف في القرية، كلّ تلك العيون المراقبة لم تكن عوامل للبقاء، فعاد إلى المدينة واكترى شقّة كان يقضي فيها معظم وقته، إمّا يرسم أو يتلوّى من الألم. صار يشعر بأجله القريب، كانت الأوجاع تعبر بطنه، لا العقاقير ولا النبيذ أتى أكله، لكن دائما ما يعود إليه السّؤال»لماذا اقترفتَ كل هذه الخطايا» متبوعا بكلمات والده.
في هذه اللّحظات – وقد استنفد كل الحلول – لا يشعر بشيء، عيناه مثبّتتان على لوحة للهضاب الّتي كان يعبرها وقد كستها الخضرة. ها هي الأمطار تهطل والألوان تسيل، سرعان ما يأتيه جواب يشعره ببعض الرّاحة «لماذا أنا، لماذا أنا».

٭ تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية