جواسيس الأمس وجواسيس اليوم

في غضون عام واحد، أنتجت شركة نتفليكس عملين فنيين في مجال أعمال الجاسوسية، لفتا الأنظار ‏بشكل كبير وحظيا بنسبة مشاهدة عالية، ففي سبتمبر 2018 أنتجت الشركة فيلما سينمائيا للمخرج الإسرائيلي أرييل فرومين قائما على القصة التي كتبها الكاتب الإسرائيلي يوري بار جوزيف، في كتابه الذي صدر عام 2016 بعنوان «الملاك؛ الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل».
الكتاب والفيلم يحكيان قصة تجنيد أشرف مروان زوج ابنة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والمستشار الخاص وموضع ثقة خلفه الرئيس أنور السادات، أشرف مروان الذي مات بعد ذلك مقتولا، بحسب وجهات نظر البعض، ومنتحرا بحسب وجهات نظر أخرى، اعتمدت على تقرير الشرطة البريطانية في لندن عندما سقط من شرفة شقته عام 2007. الكتاب والفيلم يقدمان وجهة نظر إسرائيلية، اعتبرت اشرف مروان واحدا من أبرز وأهم جواسيس إسرائيل في القرن العشرين.
بعد مرور أقل من عام، في سبتمبر 2019، أطلقت شركة نتفليكس عملا آخر، لكنه هذه المرة عبارة عن مسلسل تلفزيوني قصير مكون من ست حلقات، بعنوان «الجاسوس»، كتب قصته وأخرجه المخرج الاسرائيلي جيديون راف، وقدم فيه قصة حياة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي زُرع في دمشق وابتدأ عمله التجسسي في دمشق عام 1962، وأعدم في ساحة المرجة في قلب دمشق عام 1965عندما كشفته المخابرات السورية، وتمت محاكمته ونفذ فيه حكم الإعدام. ‏
بالمقابل كانت هنالك اعمال سينمائية ودرامية عربية، في الأغلب كانت مصرية، تناولت قصص الصراع المخابراتي العربي الإسرائيلي، إذ أنتجت مصر عددا كبيرا من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، تناولت فيها سير عملاء مصريين عملوا داخل اسرائيل، وربما كانت أبرز هذه القصص قصة العميل رأفت الهجان وقصة العميل جمعة الشوان، اللتين قدمتا كمسلسلين تلفزيونيين، سردا إنجازات المخابرات المصرية إبان الحرب مع إسرائيل، وكذلك تم إنتاج العديد من الافلام التي قدمتها السينما المصرية، التي حكت قصصا اعتمدت المعلومات التي وردت في ملفات المخابرات المصرية العامة، عن عمليات الإطاحة بجواسيس إسرائيليين عملوا في مصر، وكان أبرز من كتب أعمال الجاسوسية والصراعات المخابراتية هو الروائي المصري مرسي صالح، الذي اصبح متخصصا في هذا النوع من الكتابة.
إن المتلقي وهو يشاهد أعمال الجاسوسية الدرامية والسينمائية التي تقوم على الشد والإثارة، وتقديم شخصيات العملاء، أو الجواسيس وكأنهم أبطال خارقون، لابد أن يقف حائرا متسائلا اليوم، إذ غالبا ما تقدم شخصية العميل ومدى ذكائه والتقنيات التي يتعملها في كتابة الرسائل بالحبر السري، أو جمعه للمعلومات بعدة طرق أهمها إقامة العلاقات مع أصحاب النفوذ في البلد الذي تتم فيه العمليات، ثم نشاهده وقد جلس في مكان شبه مظلم وهو يقوم بإرسال برقيات مشفرة بجهاز الإرسال المعروف بجهاز مورس، وغالبا ما كانت أجهزة المخابرات تطيح بعملاء وجواسيس الأعداء عن طريق كشف إشارات الارسال، لكن ماذا عن الوقت الحاضر؟ فالعالم كله بات مربوطا بتقنيات فائقة السرعة والدقة وعالية السرية، فهل يحتاج الجواسيس إلى كل تلك المهارات والبطولات العتيقة التي تقدمها لنا الأفلام والمسلسلات؟ ألم يعد بإمكان أي شخص أن يجلس اليوم أمام كومبيوتره، أو حتى هاتفه الذكي، ويرسل ما يشاء من معلومات بلمح البصر، إلى أي مكان في العالم بدون أن تشعر به الأجهزة الأمنية؟

غالبا ما كانت أجهزة المخابرات تطيح بعملاء وجواسيس الأعداء عن طريق كشف إشارات الإرسال، لكن ماذا عن الوقت الحاضر؟

في إعلانها الرسمي الذي وجهته الإدارة العامة للأمن الفرنسي، وبحسب تقرير صحافي نشرته صحيفة ‏»لو‏فيغارو» في يونيو الماضي، خاطبت إدارة الأمن المعنيين بالإعلان عندما دعت إلى مسابقة ‏وطنية في التشفير (علم الرموز ‏السرية) وقالت «تعال أيها الجاسوس الشاب»، ولم تقل تعال أيها الطالب، أو أيها المتقدم للعمل، بل كان خطابها ‏مباشرا واضحا، لأنها تضع في ذهنها التحدي الكبير المتمثل في تجنيد العملاء‎.‎‏ ‏ويشير تقرير الصحيفة إلى النتيجة‏، إذ شارك في الدورة التعليمية أكثر من ستين ألف شاب، كما أن المدير ‏العام للإدارة العامة للأمن الفرنسي برنار ‏إيمي قال للطلاب «لن نوظفكم الآن، ويجب عليكم أولا مواصلة دراستكم، ‏ولكن يجب أن تعلموا انكم قد اتخذتم خطوة أولى مهمة، ‏ونحن نأمل أن تظهر هذه المنافسة بعض الكفاءات المهمة في المستقبل». ‎وأشارت ‏»لوفيغارو» إلى أن «أجهزة الاستخبارات» ‏أصبحت مرغمة بعد الظروف الأمنية التي أفرزتها هجمات باريس عام ‏‏2015، وجهود المخابرات في قانون ‏البرمجة العسكرية، على الخروج من الظل ودخول المنافسة للفوز ‏في معركة الموارد البشرية.‏ قد يقول البعض إن التقدم التكنولوجي قلص هامش عمليات التجسس البشري القائم على فكرة زرع الجواسيس في أرض الخصوم، إذ تقدم منظومات الأقمار الصناعية اليوم أدق المعلومات عن البلدان، وفي تتابع زمني يصل إلى أجزاء الثانية، كما أن تكنولوجيا الاتصالات وفضاء الإنترنت وتخزين المعلومات الهائلة في سيرفيرات عملاقة في مراكز عالمية محددة، وفّر معلومات هائلة عن مجاميع بشرية تبلغ المليارات، ويمكن فرز هذ الكم الهائل من المعطيات والمعلومات وتبويبها بصورة تفوق الخيال في سرعات خارقة، فهل تحتاج الدول التي امتلكت هذه التقنيات لعمليات تجسس بشرية قائمة على زرع جواسيس يقومون بإرسال معلومات من أرض العدو؟
ما تكشفه لنا الأخبار كل يوم يدل على أن عمليات التجسس ما تزال قائمة وبشكل كبير، سواء بين الدول المتعادية، أو حتى بين الدول الصديقة، لكن يجب أن نشير إلى أن نمط عمليات التجسس وجمع المعلومات بات معتمدا بشكل كبير على التطور الهائل الذي شهدته تقنيات المعلومات والاتصالات، فقد شهدنا مؤخرا ضجة كبيرة أثارها تصريح وزارة الأمن والاستخبارات الإيرانية في شهر يوليو الماضي عند الاعلان عن تفكيك شبكة تجسس تعمل لصالح المخابرات الأمريكية، إذ قال مدير دائرة مكافحة التجسس في وزارة الاستخبارات الإيرانية، في مؤتمر صحافي في طهران؛ إنه «تم تفكيك شبكة تجسس لـ(سي آي إيه) بنجاح في 18 يوليو، وقد حكم على البعض بالإعدام، وعلى البعض الآخر بالسجن لفترات طويلة». كما أفاد بيان لوزارة الاستخبارات أذاعه التلفزيون الإيراني الرسمي، بأن الجواسيس اعتقلوا في مارس 2019. وكان الجواسيس المقبوض عليهم يعملون في مراكز حساسة وحيوية في القطاعات الاقتصادية والنووية والعسكرية والفضاء الإلكتروني وقطاع البنية التحتية، حيث جمعوا معلومات سرية».
كذلك الحال في الدول الصديقة، فهي اليوم تتجسس على بعضها بعضا أيضا، فنحن نتذكر القضية التي اثيرت في ثمانينيات القرن الماضي عن عميل الموساد، رافي ايتان، الذي أسر النازي أدولف ايخمان عام 1960، الذي كان مسؤولا عن جوناثان بولارد، المحلل الأمريكي الذي سرب آلاف الوثائق السرية لإسرائيل. كذلك القضية التي تمت عام 2006، عندما أدين الموظف السابق في وزارة الدفاع الأمريكية لورانس فرانكلين وحكم عليه بالسجن لمدة ‏‏13 عاما بسبب تمريره وثائق سرية حول السياسة الأمريكية تجاه إيران إلى إسرائيل.
واليوم نحن نعيش تفاصيل قضية تجسس جديدة مازالت أحداثها تتداعى، إذ كشف موقع بوليتيكو الإخباري الأمريكي يوم الخميس 12 سبتمبر الجاري عن قصة حصرية ‏بشأن تقارير استخباراتية أفادت بالعثور على متعقبي هوية مشتركي الهاتف المحمول الدوليين (صيادو آى إم إس آى) والمعروفون باسم ستينغراي، بالقرب من مقر الرئاسة الامريكية والمواقع الحساسة الأخرى في جميع أنحاء العاصمة واشنطن. إذ تعمل هذه الأجهزة مثل أبراج الهواتف المحمولة، وتخدع الهواتف لإرسال مواقعها ومعلومات الهوية الخاصة بها، وكذلك محتوى الاتصال والبيانات المستخدمة، وقال أحد المسؤولين الامريكيين الذين تحدثوا للموقع، إن أبراج ستينغراي كانت مصممة للتجسس على الرئيس ترامب، وأضاف أنه «ليس من الواضح ما إذا كانوا قد نجحوا في ذلك». رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفى حدوث التجسس، واستبعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حدوث عمليات تجسس إسرائيلية في واشنطن، لكن يبدو جليا إن عمليات التجسس موجودة وستستمر، فهي جزء من تاريخ الصراعات البشرية منذ زمن الحمام الزاجل حتى زمن الاقمار الصناعية فائقة الدقة الذي نعيشه.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية