لم يستغرب كثير من الخبراء والمحللين من نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية التونسية السابقة لأوانها رغم حالة الذهول التي أصابت البعض نتيجة لعدم قدرة مرشحي الأحزاب الكبرى على الوصول إلى قصر قرطاج. فالتصويت العقابي الحاصل كان متوقعا نظرا لحالة الغليان والنقمة التي أصابت الشارع التونسي نتيجة لتدهور أوضاعه المعيشية في السنوات الأخيرة بسبب سياسات فاشلة انتهجتها حكومات عاجزة عن التخطيط الجيد والسليم لسنوات مقبلة.
ففي تونس اليوم قرابة 640 ألف عاطل عن العمل منهم قرابة 260 ألفا من حاملي الشهادات العليا و1.7 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، وربما أكثر، باعتبار أن المعايير المعتمدة لتصنيف الفقراء غير واقعية وغير مواكبة للمعايير المعتمدة في أغلب دول العالم. كما أن البلاد تشهد ارتفاعا مهولا في الأسعار وتدهورا في القدرة الشرائية للمواطن وضربا للطبقة الوسطى التي تلتحق أعداد كبيرة منها بالفقراء، وأيضا بالأغنياء الذين ارتفعت أعدادهم بسبب انتشار التهريب وتبييض الأموال والتجارة الموازية.
ويؤكد أغلب خبراء الاقتصاد على أن الانتعاشة الطفيفة التي عرفها الاقتصاد التونسي في الأشهر الأخيرة وما نتج عنها من استقرار في سعر صرف الدينار مقابل العملات الأجنبية، هي ظرفية ولن تطول. وسبب هذه الانتعاشة هو أموال القروض التي ضخت من الخارج وتحديدا من أطراف مالية دولية وافريقية زادت من حجم المديونية لكنها وفرت رصيدا من العملة الصعبة جعل الدينار يستقر والساسة يروجون إلى تحقيق معجزة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.
وتجدر الإشارة إلى أن المنتفضين على بن علي قبل تسع سنوات قد تحركوا من أجل مطالب اجتماعية تتعلق أساسا بالتشغيل والكرامة والقضاء على الفقر والتهميش في الجهات الداخلية وفي الأحياء المنسية في المدن الكبرى في زمن كانت فيه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أفضل بكثير مما هي عليه اليوم. لكن الطبقة السياسية الجديدة لم تتلقف الرسالة ولم تأخذ العبرة مما حصل للنظام الأسبق فعمقت الأزمة ووسعت الهوة إلى أن وصل الأمر إلى هذه الأرقام المفزعة التي جعلت الهم الأكبر لحكام اليوم هو الوصول إلى تحقيق الأرقام الاقتصادية والاجتماعية لسنة 2010 أي آخر سنة من زمن حكم بن علي.
لقد التف حكام تونس الجدد في فترتي الترويكا والتوافق على المطالب الاجتماعية للتونسيين وانصرفوا إلى اقتسام كعكة الحكم فيما بينهم بمنطق الغنيمة والترضيات لهذا الطرف وذاك، وتم انتهاج سياسة رأسمالية متوحشة استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي، وتواصلت عملية الترفيع في الأسعار وفي الجباية من قبل الفريق الحاكم غير العابئ بالمواطن الذي يئن. وفي الأثناء واصل المهمشون والجياع انتفاضاتهم وفي مناسبات عديدة وبعثوا برسائل لمن هم في الحكم من أجل تصويب المسار لكن التجاهل والضحك على الذقون بمشاريع خيالية، على غرار كليات الطب الوهمية، كان هو الطاغي على سلوك الطغمة الحاكمة.
لقد كانت إرادة الناخب التونسي معيبة في انتخابات سنتي 2011 و2014 فقد استدر فريق سياسي خلال الاستحقاق الأول عطف جماهير الناخبين بعذاباته في السجون زمن بن علي حتى بات معيار الوطنية في تلك الفترة كمية العذاب في ما يعرف بـ”سنوات الجمر” وكرد فعل على وجود فساد في النظام السابق صوت الناخبون لمن اعتقدوا أنهم “يخافوا ربي”. أما في انتخابات 2014 فقد جلب فريق سياسي اهتمام الناخبين وصوتوا له من خلال تخويفهم من تغول حركة النهضة. وهكذا كانت إرادة الناخب غير حرة في الاستحقاقين وأثر فيها التعاطف من جهة والخوف من جهة أخرى، فكانت الخيارات الخاطئة.
وخلافا للاستحقاقين السابقين فإن إرادة الناخب في 2019 ليست معيبة وتبدو حرة لا مؤثر فيها إلا قناعته بقدرة المترشح على الإنجاز والتغيير. فقد بدا هذا الناخب غير عابئ بعذابات معارضي بن علي وصراعاتهم معه أو بالخوف من الإسلام السياسي. وينطبق هذا الأمر على المليون ونصف المليون مسجل جديد في الانتخابات والذين كانوا في التاسعة أو العاشرة من العمر يوم سقوط نظام بن علي ولا يهمهم سوى ضمان الشغل والكرامة بعيدا عن الإيديولوجيات الهدامة وكذا صراعات الجامعة.
وخير دليل على هذا الطرح نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية التي تقيم الدليل على أن الأصوات ذهبت إلى قيس سعيد أستاذ القانون في الجامعة التونسية الذي التف حوله طلبته من أصحاب الشهادات والعاطلين عن العمل وأيضا نبيل القروي الذي اهتم من خلال جمعيته “خليل تونس” بالعمل الخيري ومد يد العون إلى الفقراء وضعاف الحال. وبما أن الدولة والأحزاب قد ترفعت عن لعب هذا الدور فقد وجد القروي طريقه إلى قلوب الجماهير من خلال العمل الخيري وما على بقية الأحزاب الحاكمة إلا أن تقوم بمراجعاتها في هذا الإطار وتتحمل مسؤولية تقصيرها.
باختصار، لقد تم تغيير بن علي بهبة شعبية في غياب التصويت الإرادي والحر، في حين كان هؤلاء أوفر حظا وحكموا في زمن الديمقراطية فخلعتهم الصناديق. وما على اخلافهم إلا أخذ العبرة باعتبار أن ما حصل في هذه الانتخابات هو ثورة حقيقية نقلت تونس من مرحلة الصراع الإيديولوجي إلى مرحلة الصراع الطبقي بعد أن قال المهمشون كلمتهم ديمقراطيا بعد أن قالوها تمردا وانتفاضة في 2011.