سارتر المجنّد: أرصاد الوجود والعدم

حجم الخط
6

ثمة، في فرنسا أوّلاً بطبيعة الحال، ثمّ في بلجيكا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا واليابان، عشرات المجموعات الدراسية التي تُعنى بالفيلسوف الفرنسي الوجودي الشهير جان ــ بول سارتر (1905 ــ 1980). وفي مناسبات شتى، كثيرة في الواقع ومتعددة لأنها تخصّ محطات حياته الفاصلة وأعماله ذات السمة الفارقة، تعقد هذه الهيئات مؤتمرات تصدر عنها، كما هو منتظَر، قراءات متباينة في منهجياتها ومقارباتها؛ لكنها في كلّ حال تلتقي حول هاجس مشترك هو تسليط المزيد من الأضواء على شخصية معقدة، ونتاج زاخر، وفلسفة غير عادية.
وفي هذا العام، وجرياً على تقليد سنوي، عقدت «جمعية الدراسات السارترية»، الفرنسية، مؤتمرها المعتاد الذي نوقشت فيه 16 ورقة، دارت حول مواضيع مثل العلاقة (الشائكة، بالمناسبة) بين سارتر وسيمون دو بوفوار، وجدل الآخر (جاك لاكان، هذه المرّة)، والكاتب إزاء الموت، وتلمّس نظرية سارترية حول التمثيل السياسي… غابت عن هذه الدورة، مع ذلك، وقفة خاصة كانت متوقعة، حول الذكرى الثمانين لسَوْق سارتر إلى الخدمة العسكرية، في 20 أيلول (سبتمبر) 1939، حين أُعلنت التعبئة العامّة في فرنسا مطلع الحرب التي سوف تُسمّى «طريفة» لأنها انطوت على مواجهة صامتة عسكرياً: بين إعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا النازية، في 3 أيلول من ذلك العام؛ وابتداء الهجوم النازي الفعلي، في 10 أيار (مايو) 1940.

كيف نضع «الوجود والعدم»، أو «نقد العقل الجدلي» أو «الأيدي القذرة» أو «الغثيان» في سياقات الراهن، السارتري على وجه التحديد؛ ليس في ضوء تناقضات قد تبدو مألوفة من فيلسوف بالغ التعقيد، فحسب؛ بل على خلفية حاضر تكفّل بعَوْلمة العدم… قبل الوجود!

خدم سارتر ضمن سلاح الأرصاد الجوية في برومات من منطقة الألزاس، على الحدود الألمانية؛ وصرف الوقت بين التثاؤب والقراءة والكتابة، حيث ندين لهذه الفترة بولادة المسودات الأولى لكتابه الأشهر «الوجود والعدم»، وروايته «دروب الحرّية»، حتى أنه كتب إلى بوفوار: «إذا سارت الحرب على هذا الإيقاع البطيء الخامد فإني سأكون قد أنجزت ثلاث روايات و12 أطروحة فلسفية بالمقارنة مع زمن السلم». لكنّ الحرب الفعلية اندلعت بعدئذ، ووقع سارتر في الأسر (صحبة فيلسوف فرنسي كبير آخر هو موريس ميرلو ــ بونتي)، ثمّ أنقذه ضعف نظره من الأشغال الشاقة داخل معسكر الاعتقال، كما سهّل له لاحقاً أمر الفرار نهائياً.
أمّا الأهمية الخاصة التي تحملها هذه الفترة من حياة سارتر، وكانت تستوجب وقفة من المجموعات الدراسية المعنية بتجديد التفكير حول تراثه؛ فإنها خمسة دفاتر جديدة، نُشرت بعد وفاته سنة 1995، تستكمل الدفاتر الـ51 التي ضمّت مذكراته منذ عام 1939، حول تلك «الحرب الكافكاوية»، و«الحرب الشبح»؛ التي لم يرفع إصبعاً واحداً ضدّها في الواقع، ولم يستطع التنبؤ بوطأتها عليه شخصياً، قبل أن تستدرجه بعنف وتقوّض أبراج التأمّل الوجودي التي استطاب حبس نفسه فيها. الدفتر السادس، على سبيل المثال، يتضمّن اعترافات مذهلة حول مواقف انتهازية تماماً في علاقة الفيلسوف بالتاريخ والسياسة: «لقد اعتمدت بعض الشيء على هذه الحرب لكي تكون تعويضاً يسهّل نجاحي الأدبي. وفي جميع الأحوال، كان الأمر هنا يتعلق بفكرة الاندماج بين قَدَر امرئ عادي وقدر امرئ عظيم. وفكرة القدر هذه ارتبطت بي في مستويات عميقة، وكنت أردّد: أنا على موعد مع القدر».
وعن فكرة التقدّم كتب يقول، في الدفتر ذاته: «التقدّم بدا لي حماقة على الدوام، ولهذا كنت أقلّ ميلاً إلى تغيير حالة الأشياء القائمة، وأكثر ميلاً إلى تحمّل وجودها واستيعابها. وفي العمق كنت حريصاً على عدم فقدان ذاتي». ذروة محتويات هذا الدفتر تتجلى في اعتراف صاعق، يقول: «إنني لا أسعى سوى إلى استدعاء الراهن. إنني محافظ. إنني أريد الحفاظ على العالم كما هو، ليس لأنه يبدو حسناً في ناظري ـــ فالعكس هو الصحيح، لأني أراه مقيتاً ـــ بل لأنني أقيم في الداخل، ولا أستطيع تدمير العالم دون تدمير ذاتي معه».
والحال أنّ سارتر كان، في ذلك العام 1939، مفكّراً شاباً في الرابعة والثلاثين من العمر، قطف لتوّه أمجاد كتابه «الغثيان»، ويعكف على أكثر من مشروع روائي وفلسفي طموح. وكان يتمتّع بكامل حرّيات الروح المنعزلة، الفردية، المتخففة من أعباء الكون، والمنسلخة بصورة تكاد تكون تامّة عن هموم السياسة. ومع دنوّ شبح الحرب وجد سارتر نفسه في خضم طور جديد سيصفه فيما بعد، عام 1975، كما يلي: «لقد بدأ وأنا في الرابعة والثلاثين، وانتهى وأنا في الأربعين، وكان بالفعل حلقة انتقال من الصبا إلى النضج العقلي. لقد كنت أظنّ نفسي مستقلاّ سيّداً، وتوجّب أن يدلّني عام التعبئة على نفي حرّيتي الخاصة لكي أمتلك الوعي بثقل العالم من حولي، وطبيعة صلاتي بالآخرين وصلات الآخرين بي».
الأمر الذي يحثّ على نقاش مشروع: عن أيّ سارتر نتحدث، في نهاية الأمر؟ الفيلسوف الماركسي؟ أم الوجودي؟ أم «العالمثالثي»؟ كيف نعيد قراءة سجالاته الكبرى ضدّ مفكر فرنسي آخر (بارز بدوره، يميني حتى النخاع) مثل ريمون آرون؛ دون أن نعيد تكرار التنميطات الإيديولوجية القديمة التي يُفترض أنها انقرضت إلى غير رجعة؟ وكيف نضع «الوجود والعدم»، أو «نقد العقل الجدلي» أو «الأيدي القذرة» أو «الغثيان» في سياقات الراهن، السارتري على وجه التحديد؛ ليس في ضوء تناقضات قد تبدو مألوفة من فيلسوف بالغ التعقيد، فحسب؛ بل على خلفية حاضر تكفّل بعَوْلمة العدم… قبل الوجود!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    أروع ما في كلمات مقالاتـــك الفكريّة أنك تختار الكلمة الصورة ؛ فتُحــسّ ؛ والمفردة المختارة ذات الأجراس ؛ والعبارة الرنانة ؛ كناقــوس ؛ كيف لا وحضرتك صبحـــي حديدي كبرج إيفل بباريس ؟ سلمت يمينك على المقال عن سارترفيلسوف الثــــــوار.

  2. يقول .Dinars.:

    من منطلق عقدة الحرب التي وقع تجنيده فيها حافظ سارتر على الخوف من خلال نظرية الحفاظ على الراهن وعدم تحريك المستقبل الذي يخشى نتائجه وإلا لكان له دور في الإنعتاق التام لشعوب مستعمرات فرنسا.
    سارتر كان يخاف أن يقع رميه بالجنون لذلك انحاز إلى نظرية الخمول.

    1. يقول محمد الإحسايني:

      لما تعرفت على بعض مؤلفات ج.ب. سارتر في مطلع الستينات من القرن الماضي، بدا لي الرجل غامضاً وإن كان يختزن معرفة عميقة. هناك شيءما، لايريد أن يفصح عنه، حتى بعد أن خلخل الديالكتيك حالماً بالتربع على عرش التأملات، وهذا عكس قرينته سيمون دو بوفوار التي كانت جد واضحة في أهدافها، وإن كانت تشاركه في معضلة الوجود. شكراً لـ صبحي حديد الذي يثير دائماً مواضيع مشابهة لينقذ بعض الذاكرات عن النسيان.

  3. يقول أسماء قصد الله:

    هذه الجوانب المهمة جدا من شخصية فيلسوف الوجودية سارتر كنت اجهلها فعلا ومعي قد يكون الكثيرون… شكرا للاستاذ حديدي على تنويرنا دائما

  4. يقول ثائر المقدسي:

    المفارقة التي أراها هنا… هي أن عنوان المقال يذكر عنوان أهم مؤلف فلسفي لسارتر بشكل علني، ولكنه (أي المقال) لا يُبين أي فهم للأطروحة الرئيسية لهذا المؤلف ، لا من قريب ولا من بعيد… للأسف الشديد، هذا المقال الذي خيب ظني كثيرا لا يتصف بأية صفة تنويرية فيما يتعلق بما كنت أتوقعه من عنوانه، تماما كما حال الأسلوب الترويجي في الأغلبية الساحقة من المقالات الصحفية العربية… !!!

  5. يقول سلمى سعيد:

    الأخ ثائر ، ملاحظة في محلها : والمفارقة أيضا أن جاك ديريدا وهو أهم بكثير من جان بول سارتر من الناحية الفلسفية لا يتمتع ولا حتى بجزء قليل من الشعبية التي تمتع بها سارتر قبل موته وما زال يتمتع بها بعد موته في فرنسا خاصة : والأسباب أغلبها تتعلق بالعنصرية وضحالة وسطحية الفكر في الوسط الثقافي الفرنسي هذه الأيام !!؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية