لو بقي عنوان هذا المقال عند حد شطره الأول، لجرت الأمور مجرى شبه عادي، باستثناء استغراب القارئ من أن يخوض صاحب هذه السطور في موضوع اقتصادي، وهو ما لم يعهده طيلة زهاء خمسين «مدارة « كتبها في هذا العامود.
غير أن عنوان المقال على شطرين.. و»الأخوات» «مرقّات» فيه إلى مصافّ الأولوية شأنهنّ شأن «الأخت». وغير وارد أيضا أن يتحول موضوعنا إلى مقارنة بين التنافسية الاقتصادية الروسية الآخذة في الانخفاض واقتصادات أخرى في العالم يتزعزع استقرارها بصورة مماثلة – وهي كثيرة. كلامنا بالأحرى مركز في التعقيب على نغمة اصبحت تعزف على وتر موصول، نغمة بدأ يتنامى التصاق الدبلوماسية الفرنسية بها، على نحو صار يضيف نقاط ضعف إلى مشهد تميّز بنقاط ضعف أصلا، منذ أن فضّلت الدبلوماسية الفرنسية أن تتحول عن المسك بزمام المبادرة فتتقبل ركوب المخاطر وتتحمل العواقب مثلما هو متوقع من «أمة كبيرة».
نتيجة مباشرة أفرزها هذا الواقع تركزت في مشهد كنت احسب له أمر حدوثه ولم يلبث أن حدث فعلا… أمر بسيط ومتوقع ممن يتابع شؤون الساعة بانتظام، يكمن في إسقاط من أولويات أجندة رؤساء تحرير النشرات، حدث كان لا بد له أن ينال مركز الصدارة في النشرات الإخبارية، في تغطية منطقية عادية قوية تسهم فيها التقارير ونقاشات الخبراء متعددة الزوايا، في تسليط الأضواء على خط دبلوماسي فريد ظل صوته مسموعا في العالم، إلى درجة اتخاذ مبادرات ميزها الانفراد الحصري أحيانا. وهو ما لم يحدث في أحد من القنوات التي شاهدت فيها تغطية مؤتمر باريس لمكافحة الإرهاب.
وأوضح مثال على ذلك ترجيح أسرة تحرير أحد أقدم وأكثر البرامج النقاشية متابعة في المشهد الإعلامي العربي الحالي، برنامج «ما وراء الخبر» من قناة الجزيرة، موضوع تدني قيمة الروبل الروسي على مؤتمر باريس لمكافحة الإرهاب. النغمة نغمة استياء، والوتر لا يقل عن النغمة استياء.
ولكن، من هو المستاء الحقيقي؟
لقد عرفت الاثنان والسبعون ساعة الأخيرة شبه حراك دبلوماسي على مرحلتين، المرحلة الأولى مثلتها الزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس الفرنسي إلى العراق، أما المرحلة الثانية فقد حاولت فيها فرنسا أن تتصدر مركز القيادة في مؤتمر نظمه الرئيس الفرنسي في باريس لمكافحة الإرهاب. وهنا السؤال: من المسؤول في أن الحدثين نالا نصيبا من التغطية الإعلامية، قلما شهد الحراك الدبلوماسي الفرنسي في تاريخه مثله ضعفا؟ هل نعيب وسائل الإعلام وخطوط التحرير؟ أم نضع الاصبع على «بيت داء» غائر يتجسد في إشكالية هيكلية يبدو انها باتت تنخر كيان الدبلوماسية الفرنسية منذ ما يقارب العامين ونصف العام؟
نميل في هذه السطور إلى الخيار الثاني، خيار الإقرار بشلل يجعل السياسة الخارجية الفرنسية تقف على عكازة يزداد الاتّكاء عليها صعوبة فلا تتجاوز هزاتها الارتدادية مساحة نفوذ يكيلها الإعلام الدولي بالصاع الذي تكيل به دبلوماسيتنا تحركاتها. نعم شهدت الاثنان والسبعون ساعة الأخيرة حراكا فرنسيا سعت به إلى وضع حد لجنون التطرف، والإسهام في استئصال شأفة ارتكاب أبشع الجرائم باسم الدين التي لا يقبلها مؤمن. نعم سعت فرنسا بواسطة وزير خارجيتها إلى الدفاع عن الأقليات المضطهدة في العراق الشقيق، والدفاع معها عن الاكثرية التي لا تقبل اضطهاد كهذا.
ولكن صح أيضا قول صحافي بارز في عامود هذه الصحيفة قبل أسابيع إن «فرنسا لم تعد فرنسا التي عرفناها»، وأنا أضيف أنه لم تعد فرنسا فرنسا التي لا تتردد في ان تتحدى المجتمع الدولي، عندما تحس ان هذا الاخير يفرّط بالشرعية الدولية، أولا عن طريق ضرب أخلاقياتها عرض الحائط. «لم تعد فرنسا فرنسا التي عرفناها» ، عندما لم تكن مسايرة «الخط الأطلسي» الأمريكي ـ كما تقول كتب تاريخنا العالمي ـ هو المعيار الذي تضعه فوق كل اعتبار. «لم تعد فرنسا هي التي عرفناها»…فهي لو كانت مثلما عرفناها لقالت لا لتراجع أوباما عن توجيه الضربات في سورية أيام كان بالإمكان أن يرتجى منها شيء.
لو كانت فرنسا لا تزال فرنسا التي عرفناها لسايرت المنعطف الذي كان قد شكله خطاب دومينيك دوفلبان في مجلس أمن جمعية الأمم المتحدة عندما عارض أي تدخل عسكري فرنسي في العراق خلال حرب الخليج الثانية. لوظلت فرنسا فرنسا التي عرفناها، لقالت «نعم» في موضع نعم ولقالت «لا» في موضع «لا».
لو ظلت فرنسا فرنسا التي عرفناها، لتحدثت عنها وسائل إعلام ذات شأن بكيفية تنال بها قيمة الروبل الروسية نصيبها من التغطية وليس إلا.
٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
بيار لوي ريمون