تراث الإغارة على النظام السوري: «عقلنة» تحفظ قواعد اللعبة

حجم الخط
4

 

ليس مؤكداً أنّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان يرد على بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد الإعلامية، ضمن طراز من التراشق اللفظي المباشر لا ينزلق إليه البيت الأبيض عادة، خاصة في مخاطبة موظفين بدرجات أدنى، لدى أنظمة استبداد شرق ـ أوسطية. قالت شعبان، من شاشة CNN، إنّ «دمشق قد تسقط الطائرات الأمريكية، لأنها أتت من دون إذن واعتدت على سيادة سوريا»؛ وقال أوباما، عبر صحيفة «نيويورك تايمز»، :»إذا فكر الأسد وأمر قواته بإطلاق النار على الطائرات الأمريكية التي تدخل المجال الجوي السوري، فسندمر الدفاعات الجوية السورية كافة، وسيكون هذا أسهل لقواتنا من ضرب مواقع ‘داعش’».
ليس مؤكداً، أيضاً، أنّ رسالة أوباما هذه ـ مصاغة بلغة غير مبطنة، بل صريحة وقحة كذلك ـ لا يُراد منها «عقلنة» نظام لا ينوي الرئيس الأمريكي استهدافه، مباشرة؛ أو ليس بعدُ على الأقلّ، وليس في هذا الطور من «ستراتيجية» البيت الأبيض لتدمير «داعش». وهذه، إذا صحّت، «عقلنة» ليست جديدة على مجمل الخطّ الذي اعتمدته مختلف الإدارات الأمريكية تجاه نظام «الحركة التصحيحة»، الأب حافظ الأسد، مثل وريثه بشار؛ وهي، ذاتها، تقاطعت مع «عقلنة» من جانب إسرائيل، تبلورت ابتداءً من موقف وزير الدفاع، الأسد الأب، في هزيمة 1967 النكراء؛ وانتهاءً بالموقف الإسرائيلي الراهن، المعارض لأيّ تعجيل في إسقاط نظام الأسد الابن.
ولقد أثمرت «العقلنة» الكثير، للأطراف الثلاثة في الواقع: منذ صمت النظام على الاجتياح الإسرائيلي للبنان، 1982؛ إلى المشاركة في تحالف «حفر الباطن»، ثمّ مؤتمر مدريد، وحوارات شبردزتاون بين رئيس الأركان السوري الأسبق حكمت الشهابي مع الجنرال أمنون ليفكين شاحاك وإيهود باراك، ومحادثات هذا الأخير مع فاروق الشرع في واشنطن، ولقاء جنيف بين حافظ الأسد ـ بيل كلينتون، مطالع التسعينيات؛ وصولاً إلى حوارات ماهر الأسد السرّية، مع مسؤولين إسرائيليين، بينهم إيتان بن تسور، في العاصمة الأردنية عمّان، 2003؛ والمصافحة الفاتيكانية «التاريخية»، بين بشار الأسد والرئيس الإسرائيلي موشيه كتساف، 2005…
ثمة، إلى هذا، «تراث» خاصّ ـ لفظي بدوره، طبعاً، ولكنه أشدّ سوريالية وأعلى افتضاحاً ـ يغطي حكاية الغارات، وطبائع ردود أفعال النظام السوري على وقوعها؛ إذا جاز، بالطبع، الحديث هنا عن «ردود» أو «أفعال» بأيّ معنى، في السياقات الفعلية لوقائع الإغارة. وذات يوم، صيف 2006، خرج أحد جهابذة إعلام النظام بهذا التعليق على تحليق أربع مقاتلات إسرائيلية فوق القصر الرئاسي في اللاذقية: لم يتجاسر الصهاينة على اختراق أجواء دمشق الحصينة، ففرّوا إلى الساحل! والحال أنّ العبقري ذاك تناسى، أو لعلّه بالفعل كان يجهل تماماً، أنّ الصهاينة هؤلاء ذهبوا إلى اللاذقية ليس خشية من المقاتلات السورية في أجواء دمشق، بل ببساطة لأنّ الأسد كان ساعتئذ في قصر اللاذقية وليس في قصر دمشق. ومن جانب آخر، يصحّ القول إنّ الصهاينة لم يخترقوا أجواء البلد (اللاذقية أو دمشق… ما الفرق، بمعنى السيادة الوطنية؟) فحسب؛ بل اخترقوا أمن الرئاسة حين علموا أنه في ساعة محددة، سوف يكون الأسد في اللاذقية وليس في دمشق!
ولهذا فإنّ تحليق القاذفات الإسرائيلية فوق القصر الرئاسي في اللاذقية، حين كان الأسد مقيماً فيه تحديداً، أي في برهة منتقاة بعناية من حيث طبيعة الرسالة المشفّرة طيّ هدير الطائرات؛ لم يكن تصعيداً مع النظام السوري على أيّ وجه: لا في المستوى العسكري، ولا في السياسي، ولا حتى في مستوى المساس بالقواعد التي وضعها شارون حين قصفت الدولة العبرية موقع «عين الصاحب»، شمال غرب العاصمة السورية، بتاريخ 5/10/2003. لكنه تذكرة صاخبة بعض الشيء، لكي لا نقول إنها تنبيه غليظ، حول عواقب أيّ سلوك عاقّ إزاء خدمات أسدتها إسرائيل إلى النظام مؤخراً، بل طيلة حقبة ما بعد اغتيال رفيق الحريري، من جانب أوّل. والتحليق، من جانب ثانٍ، كان إنذاراً بأنّ الخروج الجدّي عن «قواعد اللعبة» سوف يقلب رقعة الشطرنج رأساً على عقب!
ولسوف يتواصل «التراث» إياه: في خريف 2007 عبرت قاذفات إسرائيلية الأجواء السورية من جهة الساحل السوري، بعد أن اخترقت جدار الصوت على هواها، لتبلغ أهدافاً حيوية في العمق السوري (مساحات واسعة من المنطقة الشرقية ـ الشمالية، من بادية دير الزور إلى تخوم المثلث السوري ـ العراقي ـ التركي، مروراً بمطارَين عسكريين في الأقلّ)، وعادت أدراجها سالمة مطمئنة. السلطات الإسرائيلية التزمت الصمت المطبق، وأوّل الخيط أتى من تصريح رسمي للنظام ـ على غير العادة، ولكن ليس دون التزام بالحاشية التقليدية حول حقّ الردّ في الزمان المناسب! ـ يعلن وقوع الغارة، ولكنه لا يحدّد أين وقعت، وماذا استهدفت، وكيف انتهت. باب التكهنات فُتح على مصراعيه، وتكاثرت الروايات وتضاربت، واتّسع الخيال وتوسعت الأقوال… حتى اتضح أنّ الغارة الإسرائيلية استهدفت مشروع مفاعل نووي كان النظام يشيّده، بتعاون مع إيران وكوريا الشمالية.
كذلك سوف تتكشف حقائق دراماتيكية، سردها الإسرائيليان ميخائيل بار زوهار ونسيم مشعال في كتابهما «الموساد ـ العمليات الكبرى»؛ بينها التالية، على سبيل الأمثلة فقط: أوّل الخيوط قدّمهاالجنرال علي رضا عسكري، النائب السابق لوزير الدفاع الإيراني وأحد كبار ضباط «الحرس الثوري»، بعد انشقاقه؛ وأهمّ المعلومات وفّرها أحد كبار ضباط الأسد، الذي كان ينزل في فندق لندني فخم، وتمكنت الاستخبارات الإسرائيلية من زرع «حصان طروادة» في كومبيوتره الشخصي؛ وأدقّ التفاصيل تعاونت على تأمينها أقمار تجسس أمريكية وإسرائيلية، بعد أن نجحت وحدة كوماندوز إسرائيلية في الهبوط على أرض «الكبر»، وأخذ عينات من التربة؛ وأمّا ضوء العملية الأخضر النهائي، بعد قرار إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، فقد صدر عن البيت الأبيض، ونقله ستيفن هادلي مستشار الأمن القومي في حينه.
أخيراً، ولأنّ «التراث» يطول ويتشعب، ثمة بعض المغزى الخاص في التوقف عند الغارة الإسرائيلية التي وقعت مطلع العام الماضي، لأنها استهدفت قافلة عسكرية كانت تنقل شحنات من صواريخ SA-17 روسية الصنع، في طريقها إلى مخازن «حزب الله»، في لبنان. ذلك لأنها كانت تذكرة، عنيفة وقصوى، بأوّل «المحرّمات» التي فرضتها إسرائيل على النظام، في الشطر التسليحي من علاقاته مع «حزب الله»، أي عدم السماح بمرور أسلحة صاروخية يمكن أن تغيّر قواعد اللعبة، دون سواها. كما أنها، من جانب ثانٍ، تعيد طرح السؤال، القديم المتجدد: ما قول النظام «الممانع»، في طائراته الحربية التي تقصف السوريين، ثمّ تولّي الأدبار في وجه طيران العدو الإسرائيلي، الذي يعربد على مبعدة كيلومترات قليلة؟ وثالثاً: ما قول قيادة «حزب الله» في «انتهاك صارخ»، ضدّ «سوريا الأسد» حسب تعبير حسن نصر الله؟ وما قول علي أكبر ولايتي، صاحب الحكمة المأثورة، في أنّ «بشار الأسد خطّ أحمر»؟
ذاك، إذاً، «تراث» الإغارة بالقاذفات، وللمرء أن يضرب صفحاً عن عمليات عسكرية أخرى تُنفّذ من عرض البحر (اغتيال العميد محمد سليمان)، أو تُنزل المظليين داخل العمق السوري (الإنزال الأمريكي في منطقة البوكمال)، أو تستخدم وحدات الكوماندوز والعملاء المحليين (اغتيال عماد مغنية، في قلب دمشق)… وذاك، استطراداً، تراث يشير إلى أنّ أوباما لا ينذر نظام الأسد، بقدر ما يهديه إلى سواء السبيل، والحفاظ على قواعد اللعبة.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    معلوماتك يا أستاذ صبحي عميقة وصادمه
    فسوريا مكشوفة لاسرائيل بأدق التفاصيل
    أصبحت غزة أفضل تحصنا وهي المحاصره

    متى تكون لنا عيون على بني صهيون بدل عيوننا على بني جلدتنا

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول S.S.Abdullah:

    عنوان وزاوية معالجة وكمية معلومات تمثل وجبة دسمة يا صبحي حديدي، وأضيف أنا لاحظت تراث السامري (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية) في دولة العسكر أو دولة الجنرال نابليون بونابرت متقاربة وكأن هناك تنسيق كامل بينها في توزيع الأدوار ضد الشعب أو لجعله تحت السيطرة لترويضه من أجل تسهيل قيادته على الأقل، ومن هذه الزاوية أفهم المؤتمر الأخير في الشهر التاسع عام 2014 في الأردن قرب البحر الميت تحت عنوان «المسألة الطائفية وصناعة الأقليات في المشرق العربي الكبير».
    ولكني لاحظت موقف الملك حسين في عام 1990 مختلف عن بقية النخب الحاكمة لدول العالم تجاه حرب نظام الأمم المتحدة بقيادة جورج بوش الأب ضد العراق فقد كان موقف يتناغم مع رغبات الشعب والمبادئ، تماما كما كان موقف صدام حسين والملا عمر في 2001 مختلف عن بقية النخب الحاكمة لدول العالم في نظام الأمم المتحدة في حرب جورج بوش الأبن ضد الإرهاب.
    أنا أظن موقف حزب الدعوة وبقية النخب الحاكمة في العراق لا تختلف عن موقف حزب البعث في سوريا ولا يختلف عن مواقف الناصريين وبقية الأحزاب القومية المناصرة لنظام بشار الأسد.
    فلذلك أنا أراهن على رعونة تصرفات وتصريحات متناقضة ما بين نوري المالكي وحيدر العبادي والتي لا تختلف كثيرا عن رعونة تصرفات وتصريحات متناقضة ما بين بثينة شعبان وبشار الأسد ولن تختلف كثيرا عن رعونة تصرفات وتصريحات متناقضة ما بين قاسمي وروحاني لنسف التحالف إن لم يكن تبادل للأدوار بينهما.
    خصوصا وأنَّ هناك فرق شاسع ما بين حجج واسباب جورج بوش الأب والأبن عن حجج واسباب هولاند فرنسا وباراك أوباما أمريكا كأساس للحرب هذه المرة.
    ما رأيكم دام فضلكم؟

  3. يقول Ossama Kullijah سوريا:

    رائع اخي صبحي هذا المقال مع انني اعرف قسما كبيرا من المعلومات الا انني استمتعت بوضعا في سياق مقال متناسق متكامل يقدم النص بكرة اساسية وهي ان اوباما لايكترث بدماء الشعب السوري ونه يلعب لعبة مصالح امريكية بشعة و طبعا يفضح النظام السوري ويعرية هو وحزب الله وايران والادعاءات بالمقاومة والممانعة السخيفة التي يستغلها نظام بشار الاسد للقتل والاجرام والذي يذبح الشعب السوري بلا مبرر على الاطلاق

  4. يقول احمد العربي:

    هناك نوع من الشماته والتشفي لان طائرات العدو الصهيوني ضربت مواقع سوريه ولا تستقيم هذه الاعمال العدوانيه من قبل الصهاينه والامريكان مع ماذهب اليه الكاتب المحترم وهو يحاول اقناعنا ان النظام السوري يلتحف بالعباءة الامريكيه
    مثله مثل انظمة الانبطاح العربي وهذا تزوير للحقائق والتاريخ فلو كان الامر كذلك لكان لاقى كل الدعم والمساندة والتمويل ولكان نظام ديقراطي جدا ولما فرضت العقوباتاالا امريكية والغربية عليه منذ ثمانينات القرن الماضي والى يومنا هذا !..وكيف يصدق عاقل ان ماتقوم به امريكا من دعم وتسليح وتمويل للمعتدلين وغير المعتدلين انما هو كرمى لعيون السوريين وحريتهم وديمقراطيتهم وهي بذلك تتخلى عن حلبف لها يدعي( المقاومة الكاذبة والممانعة السخيفه) .فقط لاجل مبادئ ديمقراطية تؤمن بها وتعمل من اجلها ؟!!طالما هو يخدم المصالح الامريكية والصهيونيه لماذا لايكون على قدم المساواة مع انظمة الانبطاح العربية ؟ لماذا تتخلى امريكا عن هكذا حليف يدعي الممانعه كذبا ويدعي دعم المقاومة زورا وبهتانا ؟! وعن محادثات السلام بين سوريا والكيان الصهيوني لقد حصلت في فترة الانبطاح العربي الشامل والتغول الامريكبي ولكن العبرة في النتائج حيث ان سوريا لم تتخلى عن الارض ولم توقع اتفاق ذل وعار كغيرها !!وعن حرب لبنان 1982 يقول الكاتب ان سوريا صمتت اثناء هذا العدوان !! انه تزوير للتاريخ ونحن عاصرنا تلك الحرب ونعرف تضحيات الجيش العربي السوري في تلك الحرب ونعرف ايضا مواقف كل الزعامات العربية الاخرى من المحيط الى الخليج !!كانت لجيش سوريا مواقف بطولية رائعه اعترف بها الاعداء قبل الاصدقاء .. وما يثير الغرابه ان يتنكر اي سوري لتضحيات جيش بلاده ويتنكر لدماء الشهداء مهما كانت مواقفه السياسيه !

إشترك في قائمتنا البريدية