ما الذي يجري في العراق؟ أهو «ثورة داخلية» ضد الفساد وسوء الادارة وانعدام الخدمات وارتفاع البطالة؟ ام «تحريض خارجي» ضد العراق الذي يبحث عن دور عربي واقليمي، ويقيم علاقات حسنة مع دول الجوار ويقترب من محور المقاومة؟
هذا البلد العملاق القادر على تغيير موازين القوى لصالح الامة، لماذا يعطل دوره؟ ومن الذي يعطل هذا الدور؟ اهو «النخبة السياسية الفاسدة» ام التحالف الاقليمي-الغربي الذي يسعى لابقاء كافة الدول العربية الكبرى معطلة، ومنها مصر وسوريا واليمن؟ هذه التساؤلات لا تتوفر اجابات حاسمة لها كما انها لا تلغي بعضها، بمعنى انها تتضافر معا لتؤدي الى ما تشهده ارض الرافدين من توتر لن يكون الاخير في تاريخه المعاصر الذي استمر اكثرمن نصف قرن.
فمن المشاكل القومية التي احتدمت منذ الستينيات بين العرب والاكراد، الى مشاكل الحدود مع إيران التي وقعت اتفاقيتها في العام 1975، الى الحرب العراقية ـ الإيرانية التي استمرت خلال اغلب حقبة الثمانينيات، الى حرب الكويت اللاحقة التي ادت لحصار جائر استمر اثني عشرعاما حتى سقوط نظام حزب البعث في العام 2003، الى الاحتقان الطائفي وما صاحبه من تصاعد الإرهاب وانتشار ظاهرة الميليشيات. العراق القادر على ان يكون الاول او الثاني في مجال تصدير النفط، عطل دوره طويلا، ماضيا وحاضرا، تارة بالحروب واخرى بالحصار وثالثة بالتدخل الاجنبي الهادف لحماية إسرائيل. وما ان بدأ العراق، يتماثل للشفاء من أسقامه المذكورة حتى اصبح هدفا للاعتداءات الإسرائيلية خصوصا على حدوده الغربية.
العراق، كما هو العالم العربي والإسلامي، تعاني جبهاته المتعددة من استهداف متواصل من «قوى الثورة المضادة» المتحالفة مع التحالف الانكلو ـ أمريكي. هذا الاستهداف يستغل مواضع الضعف في الجسد المنهك، فيستخدم الإرهاب تارة والطائفية ثانية، وفساد الأنظمة السياسية والادارية ثالثة، وخلافات الأنظمة الحاكمة رابعة. انها حلقة مفرغة من الصراع الذي يجب ان لا ينتهي. وضمن هذه الفرضية يمكن التعاطي مع الاضطرابات الحالية في ذلك البلد. هذه المرة جاءت «الانتفاضة» من المناطق «الشيعية» لاضعاف قاعدة الهرم السياسي الذي يطرق ابواق الشيخوخة مبكرا. وكثيرا ما تعجل الامراض الجسدية الخطيرة بشيخوخته. ومن السذاجة بمكان اعتبار ما يجري «شأنا داخليا» فحسب، او انه ناجم عن حالة غضب شعبية مفاجئة برغم وجود عوامل الانفجار منذ العام 2003 عندما اسقطت قوات التحالف الانكلو ـ أمريكي نظام البعث بقيادة صدام حسين. منذ ذلك الوقت تواصل الصراع على العراق بين اطراف ثلاثة اساسية: التحالف الانكلو-أمريكي، إيران، وقوى الثورة المضادة التي تقودها السعودية. فليس جديدا القول بان إيران استفادت كثيرا من اسقاط النظام السابق وسعت لحماية مصالحها في هذا البلد الذي يشاركها في اكثرمن 1000 كيلومتر من الحدود. وكثيرا ما تكون الحدود مصدر توتر واضطراب للبلدان. فإيران تشاطر الدول العربية نصف شواطئ الخليج ولذلك تتباين علاقاتها مع الدول الاخرى التي تطل على نصفه الجنوبي (او الغربي).
ومن المؤكد أن هناك تفسيرات عديدة للدور الإيراني في العراق. ولا تخفي طهران رغبتها في تطوير العلاقات علنا، باستقبال وزرائها في وقت مبكر من استلامهم المنصب. كما أن أمريكا هي الاخرى تعتقد بحقها في بسط النفوذ على ارض الرافدين. فهي التي استطاعت اسقاط نظام صدام حسين، وساهمت في وصول النخبة السياسية الحالية الى السلطة. فكيف تسمح بتوسع النفوذ الإيراني المناوئ للسياسات الأمريكية؟ ولدى كافة الاطراف المعنية بالوضع العراقي وسائل ضغطها التي تستطيع تحريكها أنى شاءت لإثبات حضورها في الميدان العراقي.
نظام المحاصصة أفرغ المشروع الديمقراطي من محتواه، وساهم بخلق فجوة بين الشعب وحكامه. ويوما بعد آخر تتسع هذه الفجوة حتى بلغ الأمر ان المواطن العادي لا يشعر بانتمائه للنظام السياسي
فلدى إيران علاقات متينة مع المجموعات المقاتلة التي نشأت وترعرعت في الكنف الإيراني في عهد صدام حسين. وتستطيع تحريك هذه المجموعات متى اعتبرت ذلك ضروريا لمنع التقارب مع أمريكا اذا كان ذلك تهديدا لمصالحها.
ثمة حقائق لا بد من تسجيلها هنا: اولها ان الستة عشر عاما الماضية لم تخلق نخبة سياسية فاعلة وكفؤة ونظيفة وقادرة على ان تكون بمستوى العراق الكبير. وبرغم الانتقادات المتواصلة لظاهرة الفساد المستشري في مفاصل الدولة الا ان النخبة السياسية لم تتصد لتلك الظاهرة التي ما ان تحل بمجتمع حتى تفتك به. ثانيها: ان تبعات هذا الفساد لا تنحصر بمصادرة الحق العام فحسب، بل تؤدي لعدم الكفاءة في الاداء الاداري. ولذلك لم تغب عن الاجندة السياسية خطط التنمية فحسب، بل انحسرت الخدمات العامة في مجالات الصحة والطرق والمجاري والتعليم. فهذا البلد العريق في الحضارة والعلم يفتقر لنظام صحي فاعل ومستشفيات راقية، وتكتظ المدارس بطلابها الذين تفوق اعدادهم قدراتها الاستيعابية، بل ان بعضها يستخدم لتدريس ثلاث دفعات يوميا، وليس دفعة واحدة كما هو معتاد في البلدان الاخرى. ثالثها: ان الضغوط السياسية الخارجية اجبرت ساستها على فتح ابواب البلاد لدخول جهات تخطط منذ عقود لاضعاف العراق وحرمانه من دور قيادي في العمل العربي المشترك، فاصبحت تعبث بالبلاد من الداخل بعد ان كان دورها محصورا في اغلبه بالخارج. وقد ارتكبت الحكومة السابقة خطأ كبيرا بفتح حدودها للدول المحسوبة على تحالف «قوى الثورة المضادة»، فقد جاء ممثلو هذه الدول محملين بالأموال الهائلة لتحريك الشارع العراقي، خصوصا في المناطق الشيعية، ضد جهات محددة: النخب السياسية التي ساهم أداؤها السيئ في اثارة المواطنين ضدها، والحشد الشعبي الذي تراه أمريكا وحلفاؤها امتدادا للنفوذ الإيراني وتستهدفه الطائرات الإسرائيلية باستمرار، والمرجعية الدينية التي، برغم حيادها في اغلب الاحيان، تعتبر سندا للنظام السياسي برغم مؤاخذاتها على اداء افراده. واخيرا إيران التي حققت نفوذا واسعا في العراق.
رابعها: ان نظام المحاصصة أفرغ المشروع الديمقراطي من محتواه، وساهم بخلق فجوة بين الشعب وحكامه. ويوما بعد آخر تتسع هذه الفجوة حتى بلغ الأمر ان المواطن العادي لا يشعر بانتمائه للنظام السياسي الذي يحكمه. وهذه ام المشاكل لأنها تجعل الأجيال الجديدة ناقمة على القوى السياسية التي تحركت وفق اجنداتها الفئوية وليس من اجل العراق القوي والمهاب.
وماذا بعد؟ العراق يواجه واحدة من كبريات التحديات التي واجهها منذ اكثر من 15 عاما، ولكن هل يمكن ان يؤدي هذا الاضطراب السياسي للتغيير الذي ينشده المحرضون عليه؟ الامر المؤكد ان الحكمة في التصرف مع المحتجين من جهة وعدم استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، والاستماع لمطالبهم والسعي لتلبية المطالب اليومية خطوات ستخفف من غضب المشاركين في الاحتجاجات. فاستخدام القوة ضد المحتجين السلميين أمر مرفوض ولا يمكن تبريره. الحل هذه المرة يجب ان يأتي من قمة الهرم. وهذا يشمل اعادة صياغة الدستور، وإشراك الشعب في صياغة تشريعات تفضي لممارسة ديمقراطية حقيقية وانهاء نظام المحاصصة، وتقوية دور الحكومات المحلية في سياسات البناء والإعمار وتطوير البنى التحتية، وخفض مخصصات الوزراء والبرلمانيين ومن ضمنها الحمايات والعلاوات، منع نظام الرشاوى والحصص التي يتقاضاها المتنفذون من الشركات الاجنبية عندما يتم التفاوض معها لاداء مهمة ما في العراق. مطلوب ايضا تطوير اساليب التواصل بين المسؤولين الكبار والمواطنين العاديين، والعمل بمقتضاها ضمن اطر الدستور والقانون. واخيرا فان الحكومة مطالبة باعادة التوازن لدور المجموعات السياسية واثرها على مسار الدولة والبرلمان، لكي يستطيع المواطن العادي التفكير الحر خارج الاطر الحزبية، وضمن الدوائر الانسانية والانتماء الديني المحض البعيد عن العصبية والتموضع السياسي. كما يتطلب الامر فتح ابواب السجالات الشعبية لضمان حوار وطني صادق، يتجاوز الخطوط المناطقية والمذهبية والحزبية ويتصل بحقيقة المواطنة المتساوية والسيادة الوطنية وحكم القانون. لو تم ذلك فسوف تتلاشى تدريجيا مشاعر الغضب والاحباط لدى جيل كامل من الذين اتوا الى الدنيا في العقدين الاخيرين، ولم يستوعبوا صراع الأجيال التي سبقتهم. فثمة خشية ان يكون سقوط التجربة العراقية نهاية سيئة لمشروع التحول الديمقراطي في المنطقة الذي دفعت شعوبها تضحيات كبيرة لتحقيقه، وما تزال تأمل ذلك برغم الاحباطات والعراقيل. مطلوب تجاوز المصالح الذاتية من اجل الصالح العام وسيادة الوطن وصيانة الحريات العامة لكي يحل الامل محل الاحباط واليأس. اخيرا فمن الضرورة بمكان وقف العنف والعنف المضاد لأن ذلك بوابة لمرحلة دموية اخرى تضر الجميع ولا تخدم سوى أعداء العراق.
كاتب بحريني