الثوّار الأرمن الجوّالون: جزء من التاريخ الكفاحي مفتقد

حجم الخط
0

يبرم خان (1868 ـ 1912) أو افراييم داوديان هو إلى اليوم بطل قوميّ في الذاكرة الوطنية الإيرانية. من رموز الكفاح المسلّح إبان «الثورة الدستورية».
لمع نجمه فيها حين عادت الرجعية أو «المستبدّة» فانقلبت على «المشروطة» أو القانون الأساسي المقرّ عام 1906، تحت ضغط الجماهي.
بمعية «فيلق القوزاق» الذي يقوده الروس، ودعم الإنكليز، وجّه أنصار «المستبدّة» مدافعهم لقصف البرلمان، ثم زحفوا لوأد الحركة الدستورية المتحصنة في تبريز، في أذربيجان الإيرانية. تحوّلت «مقاومة تبريز 1908-1909»، إلى فترة الذروة في الثورة الدستورية. احتل فيها يبرم خان الأرمني مكانة بارزة، إلى جانب ستار خان، الذي عرف بـ«الزعيم القومي» أو «سردار ملي»، وهو من أصل أذري.
هذا المتحدّر من المقلب الروسي للقوقاز كان اصطدم بإمبراطوريتين روسية وعثمانية قبل التجائه إلى بلاد فارس، هاربا من منفاه السيبيري. انخرط في «الفدرالية الثورية الأرمنية» (الطاشناق) ولعب دوراً تحريضياً أساسياً من أجل حمل حزبه على الإنخراط في الثورة الإيرانية. لم تحل أرمنيته ولا نصرانيته دون قيادته جموع الثوار للسيطرة على الرشت، وبندر انزالي، وقم، ثم الزحف على طهران التي لجأ فيها محمد علي شاه قاجار إلى السفارة الروسية.
يبرم خان واحد من تلك الشخصيات الملغزة، المتنقلة بين إمبراطوريات ثلاث، روسية وعثمانية وفارسية قاجارية، الذي يمتاز كتاب المؤرخة حوري بربريان، الصادر بالإنكليزية حديثاً، «الثوار الجوالون. الأرمن والثورات المتصلة في العوالم الروسية والإيرانية والعثمانية» (منشورات جامعة كاليفورنيا، 2019) بتقديم سياق مجمل لهم. فتاريخ الأرمن مطلع القرن العشرين كان مشتركاً مع أبناء شعوب هذه الإمبراطوريات، ولا يمكن كتابته في حيّز منفصل، حتى من بعد الإبادة التي تعرضوا لها على يد قادة «الإتحاد والترقي» في سنوات الحرب الكبرى.
في مطلع القرن العشرين، شكّل الأرمن أقلية منتشرة في هذه الإمبراطوريات المتجاورة. مليونان في الدولة العثمانية، معظمهم في الأناضول الشرقي، مع أقلية صغيرة لكن ناشطة ومميزة من بينهم، تجارياً وثقافياً، في الأستانة وإزمير. ونحو مليون في القوقاز الجنوبي التابع لإمبراطوية آل رومانوف. وسبعون ألفاً في ولايتي أذربيجان وأصفهان الإيرانية. ما ترصده بربريان وتعيد تركيب سياق تطوره العام، ومناحيه المختلفة، هو المشاركة الأرمنية في ثورات مطلع القرن العشرين الثلاث، في روسيا 1905، وفي كل من العثمانية وإيران.
فحتى مع تصاعد التنكيل بالأرمن، كما حدث في مجازر 1894-1876 على يد «الخيالة الحميدية»، الكردية والتركمانية، شرق الأناضول، ما كان بمستطاع الأرمن مجاراة مشاريع الإنفصال التام عن الإمبراطورية العثمانية، كتلك التي بزغت أو نجحت في اليونان أولاً، ثم بين شعوب البلقان الأخرى. فالأرمن مشتتون بين ثلاث امبراطوريات، ويتداخل وجودهم الإثني مع أقوام وملل أخرى على نفس التراب. حتى لو أنّ النموذج البلغاري تحديداً في الإستقلال عن السلطنة كان محفّزاً بالنسبة إلى المثقفين الأرمن الراغبين في تقرير المصير، فإنّ الواقع كان يبدو مختلفاً للغاية. وبالرغم من تدويل المسألة الأرمنية في مؤتمر برلين 1878، فإنّه صار واضحاً من حينه أن الدول الأوروبية ليست في صدد تبني مطالب الأرمن في الحكم الذاتي. كان بالمقدور فقط استلهام نماذج «الدفاع الذاتي» من التجربة الإستقلالية اليونانية والبلغارية لتشكيل جماعات سرّية ومسلّحة، لكن ليس من أجل الإستقلال التام عن أي إمبراطورية من الثلاث.

انخرط «الطاشناق» في دعم ثورة تركيا الفتاة بالتشديد على أنّ الدستور وحده لا يحل المشكلات المتراكمة والمستفحلة، بين شعوب الإمبراطورية، وأنّ حلّ هذه يكون باللامركزية والفدرالية

ولم يكن سياق الأرمن نفسه في كل واحدة من هذه الإمبراطوريات. فالأرمن العثمانيون انقسموا بين أقلية ذات طابع برجوازي في الأستانة، وبين كتلة فلاحية ريفية بعيدة عنها شرق الأناضول. أما أرمن جنوب القوقاز، فتنامت بينهم الطبقة العاملة الصناعية، نظراً لكثافة وجودهم في باكو وتفليسي وباتومي في حينه، لكن تنامي البرجوازية الأرمنية القوقازية من ناحية أخرى جرّ عليها نقمة عامة الجيورجيين والمسلمين، ما شكّل توطئة للتصادم الدموي الأرمني ـ الأذري عام 1906. كذلك، فإن خطر التذويب الثقافي للأرمن وقتها، أتى أساساً من سياسات «الروسنة»، التي ابتغت الحاق الكنيسة الأرمنية بتلك الروسية، وابعاد اللغة الأرمنية عن الأكاديميا والتعليم.
ما تظهره حوري بربريان بوضوح هو أن الحركة الثورية الأرمنية كانت تمرّست في النضال قبل نشوب ثورات «الدستور» الثلاث، في روسيا وإيران والإمبراطورية العثمانية، وأنّها سخّرت ما أوتي من تلغراف، ومواصلات حديثة، وأساليب جديدة في التنظيم الحزبي والعمل السرّي، بشكل سيعود بالفائدة العملية على المجالات الكفاحية في الفضاءات الثلاث، الروسية والإيرانية والعثمانية. والأهم، انوجد جيل من الثوريين المحترفين «عابر للحدود الإمبراطورية»، من سياق كفاحي إلى آخر.
وتذكّر بربريان، الذي تعتمد على التراكم البحثي المحقق في مضمار «التواريخ المتصلة» و«الثورات المتصلة»، باختلافات تلك المرحلة بين «الهنشاك» الإشتراكي الديمقراطي المؤسس في جنيف عام 1887، والمنتمي سريعاً إلى «الأممية الثانية»، وبين «الفدرالية الثورية» أي «الطاشناق» المؤسس في تفليسي عام 1890.
فكل منهما ينطلق من المزاوجة بين الأفكار القومية وتلك الإشتراكية. بخلاف الهنشاك، لم يناد الطاشناق، مع أنهم أكثر تقيّداً بالخطابية القومية، بالإنفصال عن السلطنة العثمانية، ووازنوا في عهد عبد الحميد الثاني بين أنشطتهم المسلّحة من ناحية وبين تواصلهم مع قوى المعارضة العثمانية «التركية». بالتالي وقفوا موقف تأييد لثورة تركيا الفتاة في تموز 1908، وتحالفوا مع «الإتحاد والترقي» لسنوات. بعد هذا الإنقلاب الذي أجبر عبد الحميد على إعادة العمل بدستور 1876 المجمد بعد عامين من إقراره، كانت بعض قيادات «الإتحاديين» تتوجه إلى الطاشناق بدعوى أنها تتكل عليهم لحمل الشعلة الثورية التحررية إلى الأناضول الشرقي، فيما يصرّ الطاشناقيون في المقابل بأنّه «ليس للأرمن من مطلب غير التطبيق الكامل للدستور». مجازر 1909 ضد الأرمن في أضنة، التي أرتكبها أعداء «الإتحاد والترقي» ستدفع الطاشناق أكثر فأكثر للتحالف مع الإتحاديين، ولن ينفك هذا التحالف إلا عام 1912، مع تزايد عملية نقل اللاجئين المسلمين من البلقان نحو الولايات «الأرمنية» في الأناضول.
في المقابل، رفض الهنشاك التحالف مع تركيا الفتاة بمجملها، إتحاديين وغير إتحاديين. وشدّد باكراً على أنّ إحياء «الدستور المدحتي» (نسبة إلى مدحت باشا) لعام 1876 لا يكفي، بل هو شعار يكشف الطابع المحافظ وضيّق الأفق، لجماعة تركيا الفتاة، «فلا هم ثوريين ولا هم تقدميين». طعن قادة الهنشاك ومنظروهم في ذلك الوقت بشعار عودة «الدستور»، في سياقه العثماني، وتحمّسوا في المقابل لـ«الدستور» في سياقه الإيراني. ففي إيران، جاءت كتابة الدستور تحت ضغط ثورة شعبية، أما في الأستانة فأتت إعادة العمل به نتيجة لإنقلاب عسكر عبد الحميد على سلطانهم، وليس كثمرة كفاح للبرجوازية التقدمية، كما سيشدّد الماركسي تيغران زافين. جرى التنبيه أيضاً إلى أن الطابع العسكري المعزول عن الجماهير، لإنقلاب أنور باشا ورفاقه، لن يتأخر في مجاراة مصالح رجال الدين والملاك العقاريين والأغاوات.
وبما أن في إيران كان الأرمن أقل تعداداً، والدستور يكتب أساساً كنتيجة لإنتفاض الناس، وليس قادة الجند، فقد شكّل ذلك حافزاً للطليعيين الأرمن فيها للإنخراط في عقد الأمة الإيرانية.
أما في الأستانة، فقد انخرط «الطاشناق» في دعم ثورة تركيا الفتاة بالتشديد على أنّ الدستور وحده لا يحل المشكلات المتراكمة والمستفحلة، بين شعوب الإمبراطورية، وأنّ حلّ هذه يكون باللامركزية والفدرالية. ومثلما كان «الدستور» كلمة سحرية في ذلك الوقت، كذلك كانت «الفدرالية»، فكان لها نصيب بارز في الأدبيات القومية الثورية، مثل كتاب «الفدرالية والديمقراطية» لافتيك شخاتونيان، أو كتابات سيمون زافاراين، من مؤسس «الطاشناق»، الذي ربط الحفاظ على الإمبراطورية العثمانية بنجاحها في شق السبيل نحو الحكم الذاتي لولاياتها، ونحو الصيغ اللامركزية والإتحادية».
ترمّم بربريان بعضاً من الصورة المفتقدة لمطالع قرننا الماضي. لزمن إمبراطوريات ثلاث انهارت، ولم تنجح أنماط استبدالها بالدول القومية إلى اليوم بعد. هؤلاء «الثوار الجوالون» الذين حاولوا الوصل على طريقتهم بين الدسترة والفدرالية والإشتراكية، هم جيل جرت إضاعته من التاريخ، أو احتجازه في «حيز قومي» بحت، وهم ساهموا في ذلك أيضاً، من خلال الأنماط التي حاولت بربريان تقليلها، فوق اللزوم أيضاً، من خطابيتهم القومية.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية