اللغة العَربيّة… هذه العَجائبيَّة

حجم الخط
5

ـ 1 ـ

ما زال لم يهدأ أوَار حرب قذرة، على اللغة العربية، تشنها جهات مجهولة وغير معروفة. جهات تنفذ أجندات على حساب لغة عربية عريقة؛ عراقة التاريخ الإنساني. إن الانتصار للدّارجي والعامّي، على حساب اللغة الأم، هو دفع المجتمع في أتون تقوقع وتحجّر وانغلاق مَقيت. فما كان لهؤلاء، إلا أن يعلنوا ولاءهم السّافر للضحالة، وفك ارتباطهم الهش مع التاريخ والتراث للبلاد العربية، الذي شيد على مدى قرون خلت.
فالحرب الإعلاميّة، التي بحوزتهم، كانت واجهة وسلاحا فتاكا. وبمجرد لفت الانتباه إلى هذه القضية، حتى بزغت وجوه تطالعنا في الإعلام السّمعي والبصري، تدافع عن مشروع وهمي، لا يمتلك الشرعية الثقافية ولا حتى السياسية، لاعتقادهم أن الانتصار سيكون حليفهم؛ وبضربة مروحة سيتغير مشهدنا الثقافي المغربي، وستتبدل خريطتنا اللغوية. فهيهات هيهات، إن اللغة العربية؛ هذه العجائبية، أكبرُ من ذلك بكثير. فهي ليل لا صبح له، بل بحر لا ساحل له. إن الحروب، التي أرست دعائم العربيّة، أسست لتقعيد بـُني بالإسمنت المُسلـَّح. فلـُهـْوة هذا الوغى؛ لغات سابقة عن العربية؛ كالآشورية والكلدانية واللغة المصرية القديمة وغيرها… فالانتصار بات حليفا محلفا للغة العربية. فخوفا ووجلا على سليقة يعشقها القاصي قبل الداني، من أن تذهب برمية نرد على طاولة الندماء، قام المقعدون، ولم يقعدوا على وثير الأرائك في مكاتبَ تدمع مكيفاتها. بل جابوا فيافيَ وفلاة، بأقدام حافية وبحوزتهم تين يابس ولبن، بحثا عن حفنة من كلام يضيفونه إلى لسانهم، ويغذي سليقتهم بما يضمن تواصلهم المادي والمعنوي. فمهما حاولنا أن نبحث عن رواد هذه الفترة، فإننا سنجد، لا محالة، حسب المرحوم طه أحمد إبراهيم، في كتابه «تاريخ النقد الأدبي عند العرب»، ابن سلام الجمحي الذي كان له الفضل كل الفضل في جمع شعر متناثر شرقا وغربا من شبه جزيرة العرب. فما كان لكتابه، «طبقات الشعراء»، إلا أن تهتز له، أوائل القرن الثالث الهجري، الساحة الثقافية العربية، وتعتبر حدثا استثنائيا. ومنه كان له كبير الأثر في تعزيز مشهد اللغة العربية، بكلام موزون ومقفى يدل على معنى. ولا هدف من وراء ذلك، سوى استبانة أبعادها الإيقاعية والدلالية والجمالية أيضا، تيسيرا للتشبث الجامد، للناطقين وغير الناطقين، بأهداب هذا الانتماء الرحب الوفير للغة العربية.

ـ 2 ـ

إن اللغة العربية لغة الجُموع؛ لغة تمجدُ الذات، نكفي أن نذكر في هذا المقام، المثنى والتثنية، على إيقاع شعر معلقة امرئ القيس؛ الملك الضليل من الطويل:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
إن استحضار الآخر، في بعدها التواصلي، دليل على تمجيدها للمثنى الفاعل في التركيب اللغوي؛ فالمثنى تثنية وثنائية يفيد نظريات اكتشفت مؤخرا، في حقل التلقي الأدبي. فكان لزاما على الخطاب أن يتمفصل بهدف التعبير الصادق عن الجوهر والكينونة، غير أن الجموع السّالمة المعافاة، يروق وقعها على طبلة الأذن، ولا ينفر منها سوى جاحد عنيد ومنكر في جحوده. هي هكذا سليمة من حيث إنها تجمع بين الجمع والمفرد، وصورة هذا الأخير، لا تتغير ولا تتبدل رغم تبدل المنازل والأمكنة. علاوة على أنه يصبح المفرد جسرا واقيا يمر عبره، الذين عبروا ولم يعودوا. فعندما نقول:
قرأ العرّافُ صحنَ الفنجان
قرأ العرّافون صحنَ الفنجان
نمر من المفرد إلى الجمع بإضافة الواو والنون إلى مفرده ؛ فإن هذه النقلة في الدرجة لا يستقيم عودها إلا بالتعريج على علم يدرس تحولات الكلم في العربية، ألا وهو سيد العلوم، وبمثابة جهازها العصبي، الذي ينقل الشحنات الكهربائية في كل أنحاء الجسد؛ علم الصّرف. فما كان لهؤلاء أن يدركوا أن حقل اللغة العربية كله ألغام، تتستر خلف بناء يصمد أمام عوادي الزمان. فهاكموا ـ أيها المتنطعون ـ علم الصرف الذي يدرس الأبنية العربية، وهيئاتها في إطار الدرس اللغوي المجيد. إلا أن بعض الصرفين يوسعون من حقول ألغامهم، فيحددون علم الصرف؛ كل ما له صلة بالكلمة أو الجملة، شريطة أن تغير ـ أي الصلة ـ تركيب الكلمة في مبناها ومعناها. كم كنتم أشداء وجبابرة عندما تجرأتم أن تنشئوا جسورا وقناطرَ بين ما هو صرفي وما هو نحوي؛ ليبقى جسد اللغة العربية واقفا شامخا شموخ أبي الهول. فعلم الصرف، دائما، كالشهدة التي تملؤها النحلة المطنانة بالمن والسلوى. فرائحته عطرة تجلب الموسيقيين وعشاق الطرب الأصيل، عندما أعلن المايسترو أن يدخل، دخول الفاتحين المنتصرين، على علم الأصوات، مادامت اللغة العربية وسائر اللغات عبارة عن عناصر صوتية، تتركب توزيعاتها بحسب الجهاز الصوتي للإنسان. فما كانت لشرعية الوجود أن تعن للفاتحين، حتى ظهر علم الصواتة، الذي يدرس الأصوات في مدها وجزرها. فغير بعيد عن الكلمة تنبثق الجملة، وينبثق معها الإطار الذي ينتظم في داخله؛ علم النحو. فعلم الصرف وعلم النحو وجهان لعملة واحدة، وإحدى الركائز التي تشد عضد اللغة العربية، وتقيها من النخر والسوس، وتبعدها عن هرطقات جاهلين وغافلين. فالواحد يكمل الآخر، خصوصا في مواضيع كالإبدال والإعلال، فلا تعرف مواقع النجوم والسُّعود والمجرات إلا إذا كنت فلكيّا متمرسا.

غير بعيد عن المفردة في اللغة العربية، نجد العجب العجاب من خلال تركيبة بنياتها السياقية، المتضمنة لمعنيين أو أكثر في الكلمة الواحدة، تجمع ما بين الماء والنار أو بين الليل والنهار، فلا ينبلج صبح أو تظهر بعض خيوطه، حتى ينقلب الصبح ليلا، ولا تدري أأنت تحت رحمة الليل أم النهار؟

فعندما تقول مثلا : عمر مشروبٌ لبنـُه
فإنك لن تدرك موقع كلمة «لبنـُه» إلا إذا أدركت الصيغة الصرفية لكلمة «مشروب»، فشرعية التداخل، بل التلاحم حاضرة بين علم النحو والصرف في العربيّة، فضلا عن رائحة شيء مجهول تظهر وتختفي في بناء الجملة مثل الفنك أو ثعلب الصحراء. فعلم الصرف، إذن، يدرس الثابت، بينما علم النحو يدرس المتنقل. فبين الثابت والمتنقل مياه كثيرة جرت تحت الجسر.

ـ 3 ـ

بعيدا عن الجموع السالمة، نمر بالقرب من الجموع المتكسرة. فتطير شظاياها كالمرايا، خصوصا عندما ندرك أن شيئا ما يعتمل بداخل هذا الضرب من الجموع تسهل تكسيرها، تفردها في ذواتها… وعلى أشكالها تقع كطيور العقعق المهاجرة… إن لتكسير صورة المفرد في الجمع وقعا شديدا على السَّامع، بل يدرك مباشرة حجم هذا الجمع؛ أهو جمع قلة أم جمع كثرة؟
فعندما تقول: «هي ذي الأنهر التي تقطع أوصال بلادي» يكفيك الكلام أن عددها قليل محسوب على أنامل اليد. في حين إذا قلت: «أرسلنا رسلا مبشرين ومنذرين»، فهو دليل على الكثرة، بما فيها نوع من إصرار الكافرين على الجحود والنكران. أما صيغ منتهى الجموع؛ فإنها ظاهرة وطاهرة من كل الشوائب، التي قد تدنس هذا جسد النوراني؛ جسد اللغة العربية؛ إنها أكسير حياتها، تطهرها من زوائد وطفيليات، التي تعلق بدورتها الدموية، وتلعب دور الكلي في جسد الإنسان. فلا يستقيم لا التنوين ولا الكسر على جسدها المدهون بالبريانطين، إلا بعدما تنضاف رافعة الغموض، أو مزيلة الإبهام ؛ لتنقشع الرؤية أمام قارئ حصيف، قد يلف عينيه رذاذ.
ولكي لا تبقى اللغة العربية تنتظر من يأخذ بيدها، حسب تعبير جبران خليل جبران، وهي جالسة القرفصاء على قارعة الطريق، انفتحت على لغات أخرى عن طريق الاقتراض. فجعلت من هذا الأخير، غربالا نعيميّا ـ نسبة إلى ميخائيل نعيمة ـ ذا عيون دقيقة ومصفاة حقيقية، توصل إلى خزانين مزودين بأحدث الوسائل التقنية. فمن بين هذه المفردات من يستحم بأحد هذه الأخزنة ؛ فيأخذ أصباغها وألوانها، ويتأقلم مع أوردتها وشعابها؛ ليصبح بعد ذلك معربا. ومنها من ينتظر ببطن الخزان، يتدور في مائه النمير ومغاسله ومصافيه؛ حتى تنكشف هويته، وتُنتزع أزلامه، ليصيرا دخيلا محافظا على ثوابته في لغته الأم.
إن الدخيل والمعرب، في اللغة العربية، وسيلة من وسائل تمطيط حجمها، وأخذ أحياز جديدة في بنائها اللغوي، ففي تأقلم المفردات المقترضة أكبر دليل على تسامح وانفتاح، يتم عبر جسد اللغة العربية، ومن خلالها تصبح المفردة تتنفس وتتكلم عربيّا مثل الأرض، خاضعة ومستسلمة للأوزان الصرفية العربية، وأحوال لسانها. وعلى غرار هذا النسق المعرفي والثقافي، استطاعت اللغة العربية أن تستوعب ثقافات وعلوما شتى لأمم سابقة أو مجاورة. وأن تظل وفية لهذا المعجم الدخيل، بدون إكراه أو اضطهاد أو ترهيب أو توجيل. فضلا عن ذلك، تمكنت الكلمة المقترضة من أن تعيش في مائها ـ أي ماء اللغة العربية ـ العذب النمير بسلم وسلام؛ تسبح وتتنفس الأكسجين الذائب في مياهها.

ـ 4 ـ

غير بعيد عن المفردة في اللغة العربية، نجد العجب العجاب من خلال تركيبة بنياتها السياقية، المتضمنة لمعنيين أو أكثر في الكلمة الواحدة، تجمع ما بين الماء والنار أو بين الليل والنهار، فلا ينبلج صبح أو تظهر بعض خيوطه، حتى ينقلب الصبح ليلا، ولا تدري أأنت تحت رحمة الليل أم النهار؟
فهاكموا التضاد في اللغة العربيَّة. يسكن الكلم الصَّهدَ والقر، بل الشيء وضده في جسدها، فلا يصيبها لا بالحمى ولا بالوجع ولا بصداع الرأس. تقف أمام مثيلاتها بهمة وشأن كبيرين، إمضاؤها بحد السَّيف من الجانبين، كرمح شاعر جاهلي ألفته فيافي البيداء ووحوشها، ولا يستكين أبدا إلا عند فرسه اللاغب النافر المنجرد. فالتضاد في العربية يطلق على المفردة الحمَّالة لمعنيين متضادين غير منسجمين، فالفاصل بينهما؛ المعنى المراد من الجملة استنادا إلى القرائن اللفظية والمعنوية. فعندما ينصح الوالد ولده في رسالة، وهو بعيد عنه في بلاد الغربة، يقول فيها: «أي بُني: … إنك في بلاد الغربة، لا أهل لك ولا حَميّة، فأنت مسْجُورٌ، دائما وأبدا، بالشوق والحنين الدافقين لوطن تنفست هواءَه الرَّطب تحت عرائشه الظليلة. وكي تعيش ـ أي بُني ـ في وئام وتواد ورحمة، فما على نفسك إلا أن تكون مسْجُورة من كل حقد وضغينة ؛ فأدّبها بالعلم والمعرفة. فتلك بلاد الغربة… يا بُني».
فكلمة «مسْجُور» دالة على الفارغ والممتلئ بحسب السّياق، الذي وردت فيه. ناهيك عن مفردات لها أوزان صرفية عربية تليق بالمذكر كما المؤنث. يتوحد المذكر بالمؤنث في جسد الكلمة الواحدة، وهي خصيصة تتفرد بها العربيّة عن سائر اللغات الأخرى.
لقد استطال بنا الحديث في حارة اللغة العربية، فهل لهذه الأخيرة وجه تطالع به الناطقين بها؟ أكيد أن للغة العربية وجه مشرق، يكفي أن تخرج سليمة ومعافاة ؛ فهي شكل من أشكال التداوي والعلاج، حسب عبد الفتاح كيليطو. تطمئن ما بداخلك؛ لأنها تعود بك إلى جذور وأصول لطالما تجاهلتها عن قصد أو عن غير قصد.

٭ كاتب من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول منير الكموني:

    دروس الثانية باكالوريا علوم الموجهة إلى التلاميذ!!
    الترادف والتضاد والاقتراض والدخيل والمعرب.
    أين الجديد؟

  2. يقول حسن ملواني:

    اعطيت نفسا جديدا للغة الضاد

  3. يقول عبدالكريم مباركي:

    مقال بطعم الفستق المقشر والعسل المصفى والماء العذب الزلال لذي الغلة الصادي …ثناء خالصا وشكرا جزيلا.

  4. يقول balli_mohamed casa maroc:

    سطراواحدا وربماسطور اداسمح المنبر اللغة العربية تتجدد في كل ثانية ليس لغيرها وغيرمامرة قلنابأنها أم لاتشيب ولايمكن وهي دائمة حتى في العالم الآخر وهي لسان الشعرقديماوحديثا ولسان الرواية ولسان القصة ولسان المسرح ولسان السينما ومن تواضعهاانهافتحت البا ب على مصرعييه في وجه اللغات وليس عيباالنطق بغيرها لكن مع كامل الأحترام لهالأنهاأم

  5. يقول زكرياء بنشكوك:

    ما معنى تقوقع

إشترك في قائمتنا البريدية