الرواية السورية بين التوثيق والتأثير

حجم الخط
1

إنّ تدقيقاً بسيطاً في مفاهيم النقد العربي القديم، يُظهر أنّ نظريات التأثـــــير وأخواتها من التناص إلى التلاقي، كانت لها جذور في أدبنا العربي، من خلال مصطلحاتٍ أوضحت علاقة النصوص العربية في ما بينها، وعلاقتها بالنصوص الأجنبية، فقد ظهر تأثُر بعض النصوص الأدبية بالقرآن الكريم؛ وهنا نوثّق لمصطلح الاقتباس وقد سبقه مصطلح التوليد، ومن ثمّ التضمين، هذه المصطلحات تبرهن على أن أساس تلك النظريات نام بين وشائج فنية ربطت الأعمال الأدبية بأعمالٍ أُخرى، استناداً إلى تقاطعٍ في التعابير والأساليب في ما بينها.
وليس المقام هنا التقصي عن أصول تلك النظريات والمصطلحات، لكن حداثياً يمكننا القول: إنّ تأثيراً استحوذ على النصوص الأدبية بشكلٍ خلاّق، جاء في التناص والتلاقي وظهر في الحوار الذي هو أساس العمل الأدبي؛ وثيمةٌ إنسانيةٌ للتلاقي المعرفي، وانطلاقاً من هنا نستطيع الولوج لنبحث ماهية التأثير والتوثيق في الرواية السورية، بعد الأزمة التي عصفت بها عام 2011، وذلك لأهمية أحداثها؛ ووفرة النتاج التوثيقي الذي اكتنف أغلب رواياتها، وربما سيترك أثراً واضحاً في الرواية العربية بسبب غرابة المؤثر الأجنبي وخروجه عن معناه الحقيقي المتعارف عليه في النصوص الأدبية، وبسبب فيض التفاصيل الدقيقة للمادة التوثيقية فيها.
لقد قدّم الروائي السّوري للمؤثر الأجنبي من الداخل والخارج المنفوي الذي يعيشه، فالأجنبي هنا هو الاستبداد الداخلي الذي أثّر في مؤلفات كل الروائيين، فجاءت البنى السردية محلية، لكنّ المؤثر والمسبب لها الاستبداد (المؤثر الأجنبي)، الذي عاش معهم، حملوه في منافي الداخل والخارج؛ ليعودوا ويسردوه في رواياتهم؛ صاغوه بأساليب مختلفة باختلاف أفق توقعاتهم واتجاهاتهم، واختلاف مصائرهم، فقد بنى الروائي السوري عمله على مؤثر واحد هو ثقافة الواقع المحلي الموسوم بالخضوع المطلق، وباحتماء دمجي ظهر بسبب الأحداث المفجعة التي أثارت الخوف والذعر، رافقها إحساس بالعجز من رد خطر الأحداث، لذلك صبّ الروائي السوري إبداعه الأدبي على المادة التوثيقية، التي ستكون سلاحه في المستقبل، كما ظنّ واعتقد، فجاء الواقع الروائي الذي بناه مادياً بكتل سردية واضحة بعيدة عن الفضاء التخييلي؛ مادته الخام طاغية أوحد لحكايات كبرى؛ وثّق فيها الظلم والقهر بتعريته بغريزة فنية عالية مُعمّداً العناصر الفنية للعمل الروائي مع المادة التوثيقة منتجاً عملاً ذا جسدٍ محددٍ متجذرٍ في زمان واحد، وأمكنة متعددة، فعلى الرغم من أنّ التوثيق يكون مسكوناً بالأزمنة وأرقامها وتأريخها، لكنّ الزمن كان واحداً في كل الأحداث السورية، عكسه النسق الحكائي للواقع المحلي، لأنه زمن دائر ملتف على ذاته، زمن توثيق الخوف والشر والظلم؛ ظلم متداخل وشرٌ مُتوالَد؛ سرقا التقنيات والوسائل الفنية للعمل الروائي لتضيع بين حنايا السجون؛ مجترعة مرارة القتل؛ ومجترة ذل التهجير لتتحول بسردها وأزمنتها وأمكنتها إلى المؤثر الموجع في الرواية.

قدّم الروائي السّوري للمؤثر الأجنبي من الداخل والخارج المنفوي الذي يعيشه، فالأجنبي هنا هو الاستبداد الداخلي الذي أثّر في مؤلفات كل الروائيين

إنّ الإغراق في المادة التوثيقية جعلها إبداعية خلاقة، بتحويلها إلى مكون من مكونات النسيج العام للرواية، فتوظيف المؤثرات المحلية ولّد أثرين؛ الأول سلبي لأنه أغفل الجانب الفني والتقني في بعض الروايات، والثاني إيجابي كونه توثيقياً؛ إذ أظهر عمق ارتباط الرواية السورية بواقعها الحالي المعاش، لدقة التوثيق، وإن كان انتقائياً أحياناً؛ فلا الوعي ولا ثقافة الواقع لدى بعض الروائيين كانا كافيــين لحمايتهم من الوقوع في مطب الأحادية في التوثــــيق الروائـــي، فهناك أحداث في أماكن عدّة، لم تغطّ ولم توثّـــــق رغم تعــرضها لظلمٍ وشرّ مماثلــــين للظلم والقهر الذي وثّقــــته الروايات، هذا جانب يستــوقنا قليلاً فالطاغية الأوحد قد استنسخ طواغيت عاثت فســاداً وشراً وعبودية، إن صحّ التعبير، لقد كان هناك طاغية أوحد وحكايات كبرى أصبحنا على طواغيت كثر وحكاية واحدة.
ومن منطلق آخر للتوثيق نجد أنّه أضاء الجانب الاجتماعي في الواقع المحلي، من خلال التطرق إلى النزعة المادية التي سادت، والشر الذي شْرنَق النفوس، والإشكالية الاجتماعية والأخلاقية التي ولّدت قضايا اجتماعية عديدة، دمرت بنية المجتمع السوري المليء بحيوات ممن بقي على قيد الحياة من مخطوفين إلى مغيبين ومعتقلين، ومن ثمّ مهجرين، فهم الأحياء الأموات، قدّمهم الروائي ضمن فضاء سردي متوقع النهاية؛ يسير نحو دوامة الموت الأزلية المنتصرة عليهم وهم الخاسرون الوحيدون بسبب العنف اليومي لإنسانية مسلوبة، وظلم مقطّرعرّف العالم بأسره على ثيمات جديدة من قهر الإنسان وتخريبه؛ ودماءٍ مراقةٍ على جوانب النصوص الروائية، التي بدورها تحولت إلى ملاحم حياتية يومية، لأن سيمفونية الموت لم تؤبن، فهي بعد مرور تسع سنوات ما زالت تعمّد بدماء السوريين وتفتح الأبواب على ميدان صراع مليء بجثث الضحايا الأموات منهم والأحياء.
إنّ الأحجية في التوثيق كانت توّهم الإنسان السوري أولاً، والروائي ثانياً بحل منتظر لكنهما اصطدما بالفراغ؛ فراغ جعل الروائيين يبنون حيرتهم في النسق السردي التوثيقي على حساب النسق الروائي، فتمثّلت المادة التوثيقـــية ببعد تســــويقي، وكأنها صندوقٌ للفــرجة عند أطراف ضامنة وأخرى داعمة وغيرها ناقمة متخماً بصورٍ ومشاهداتٍ وأحداث توثّق العنف والقهر، فالفرجة هي نفسها منذ 2011 مستمرة متواصلة فمن كان ضامناً وداعماً حينها، هو نفسه الآن يتغابى، وكأنّ الدماء تبدلت أو أنها تاهت بين التسويق والتوثيق والتصندُق!
وليس خلافاً ولا اختلافاً على أن التوثيق والتأريخ كانا سيدي كل لحظات الدفق الشعوري واللاشعوري في أغلب الروايات، لكنّ تثميناً وإنصافاً منا نقول: إنّهما ملّكا الروائيين بعد سنوات الأزمة، القدرة على التواجد والموجودية، فكان الإبداع والنتاج المعرفي مرهونين بأفق كل روائي على حدة، حسب المنظور والموقف الذي سيطرحه ويقدمه في عمله الأدبي، إنّ قدر الروائيين السوريين في واقعهم الحالي أن يكونوا روائيين ومؤرخين معاً، جاعلين من رواياتهم تاريخاً لواقع بلادهم، مناطاً بالسياسة ومقيّداً بالاستبداد، فالسياسة عاشت مع التاريخ وعاش هو مع الاستبداد، متناولاً خبزه اليومي من أحداث مليئة بالقهر والظلم، وجلّ ما نخشاه على الرواية السورية أن تنام بين أحضان الأرقام والتأريخ لسنوات أُخر!

٭ كاتبة من سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري عتيق:

    اولا اشكرك يا ست يزبك على هذه الإنارة للرواية السورية الممتعة جدا، بقلم متين اللغة وصريح العبارة.
    ثانيا باعتقادي ان الحدث الموجع يفرض نفسه اليوم على الروائيين السوريين ويحدد وجهتهم ويفرض مواضيعهم لأن الحدث فاق المتخيل فلم يعد للمتخيل وجود والشخصيات باتت حقيقية تتكلم عن الواقع المر فلم يعد الروائي مضطرا لخلق شخصياته فهي موجودة حاليا بلحمها ودمها المراق. وستبقى كذلك طالما بقي الجرح السوري مفتوحا وغائرا

إشترك في قائمتنا البريدية