مرايا القمع والديمقراطية

حجم الخط
0

في رواية «الأربعة الكبار» التي ألفتها أجاثا كريستي عام 1927، يقول المحقق الشهير هيركيول بوارو في حديثه عن الأهداف التي تسعى منظمة الجريمة التي يشير إليها عنوان الرواية بقوله: «هؤلاء الأربعة اتحدوا لكي ينشروا الفوضى، ويقوضوا النظام الاجتماعي القائم في العالم، ويستبدلوا به نظاما استبداديا تكون لهم من خلاله السيطرة»، مضيفا في موضع آخر عن مقر المنظمة «من ذاك الوكر سيخرج الحكام المستبدون الجدد، أعني كانوا سيخرجون لو لم يكن هيركيول بوارو موجودا».
وبعيدا عن الجدل الدائم عن بوارو وميزة التواضع الغائبة، أو الثقة الزائدة بالنفس، التي تؤكد الأحداث أنها عن جدارة واستحقاق، على عكس بعض من يتحدثون عن الثقة في الواقع وتصدر عنهم قرارات لا تؤدي إلا إلى مشاكل وكوارث، يبدو واضحا في كلماته، أو كلمات كريستي نفسها التي تتكرر بصور مختلفة عبر رواياتها، الخطورة التي يمثلها القمع وغياب الديمقراطية من الدولة المعنية للعالم، وكيف يمكن عبر نموذج الأربعة الكبار، أن يؤدي القمع إلى انتشار الشرور، وكأن القمع من أبجديات نمو وسيطرة الشر، وليس القضاء عليه ومحاربته، كما يكرر البعض بصور مختلفة في وقتنا الراهن، بعد عقود من مقولة بوارو الثاقبة. بدوره أعاد فوز رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام، والأسباب التي تم الإعلان عنها للفوز بالجائزة، مقابل الجدل والنقاش حولها، كلمات بوارو إلى قلب الحدث، ربما لأن البعض فضل تغييب حديث الإصلاحات السياسية، في حين ركّز البعض الآخر على تناول الحدث من مدخل نظرية المؤامرة، وقضية سد النهضة بكل ملابساتها، التي تم التركيز عليها في الفترة الأخيرة، لاعتبارات تتجاوز القيمة الاستراتيجية المباشرة إلى التوقيت وأهمية الإلقاء بقط ضخم على المائدة، من شأنه أن يسحب الاهتمام بعيدا عن حديث الفساد، ويدعم فكرة وحيدة هي أن المعركة مصيرية والكتلة الصامتة المؤيدة والمفوضة ضرورية.
ومن اختار الابتعاد عن نظرية المؤامرة ركّز على دور آبي أحمد في تهدئة الصراع الحدودي مع إريتريا، والتوصل إلى اتفاق انتقال السلطة في السودان، ورغم أنها قضايا كان يفترض أن يكون لجهات ودول أخرى دور فاعل فيها مثل مصر وجامعة الدول العربية، بحكم الجغرافيا والتاريخ المشترك والامتداد الاستراتيجي، فإن التركيز على تلك النقاط، رغم ما تكشف عنه من غياب أو تقليص الدور أسهل من الحديث عن العامل الذي ساهم في إبعاد الشرور الأخرى، وهو خطوات الإصلاح السياسي التي قام بها أحمد بعد توليه السلطة في مارس 2018 والتي ساعدت في الوصول إلى نوبل.

مرايا الديمقراطية شديدة الأهمية ليس لأنها بوابة إلى جائزة ما، ولكن بوصفها بوابة إلى حياة وإنقاذ أوطان وشعوب

بدوره ظهر تعهد أحمد في خطوات سريعة منها، الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإلغاء قانون مقيد للمجتمع المدني، ودعوة المعارضة المقيمة في الخارج للعودة، وموافقة بعض الحركات المنفية التي صنفت بوصفها إرهابية على إنهاء الكفاح المسلح والعودة، حيث سجلت بوصفها أحزابا سياسية، وتعيين قادة من المجتمع المدني والمعارضة في مناصب رئيسية في المجلس الوطني للانتخابات، ولجنة حقوق الإنسان، ومنصب كبير قضاة المحكمة العليا الاتحادية. إلى جانب خفض عدد الوزارات، واستحداث وزارة للسلام، وإنشاء لجنة للحقيقة والمصالحة. بهذا تمت تهدئة الأوضاع الداخلية بعد الاحتجاجات التي اندلعت في 2015، بدون أن تستقر الأوضاع بصورة تامة في ظل محاولة الانقلاب التي حدثت في يونيو 2018، وما صاحبها من تشديدات أمنية، وظهور انتقادات لعملية السلام والمصالحة الداخلية، بما أدى إلى تأكيد بعض الأصوات في الغرب، أن الفوز بالجائزة وسيلة لدعم سياسات أحمد القائمة، باعتبار أن المنتج النهائي لم يتحقق بعد.
واتساقا مع السياسات الداخلية التي ركزت على التهدئة والبناء، أعلن أحمد والرئيس الإريتري أسياسي أفورقي في التاسع من يوليو 2018 انتهاء الصراع الحدودي، الذي استمر بين البلدين منذ 1998 وراح ضحيته حوالي 100 ألف شخص على الجانبين، وتم توقيع إعلان مشترك للصداقة والسلام في سبتمبر 2018. كما حظيت مشاركة أحمد في مراسم توقيع اتفاق تقاسم السلطة في السودان بتقدير واضح، اعتبر مؤشرا على الشعبية التي يحظي بها ودوره في الوساطة بين المجلس العسكري، وتحالف قوى الحرية والتغيير، كما حاول لعب دور الوسيط في النزاع البحري بين الصومال وكينيا، وهي الجهود التي اعتبرت محاولة لتأكيد دور إثيوبيا بوصفها داعما للسلام، خاصة أنها أكثر الدول مساهمة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، من حيث عدد القوات وتحديدا في افريقيا. ورغم أن الرئيس الإريتري شارك في التوصل إلى التهدئة الحالية، إلا أنه تم إرجاع عدم حصوله على الجائزة مع أحمد إلى عدم تحقيق المستوى المتصور من الإصلاحات السياسية في إريتريا، والرغبة في تقدير سياسات أحمد على المستويين الداخلي والخارجي.
ربما يفترض هنا أن نؤكد أن جائزة نوبل للسلام، ليست خالية من الشوائب والانتقادات، وإنها لا تقدم صكا حقيقيا بالمطلق في ما يتعلق بالالتزام بالسلام أو تحقيقه قبل الحصول عليها، أو بعد الفوز بها، وهناك أسماء تم الاتفاق عليها عند منح الجائزة قبل أن تعود إلى الواجهة وسط تشكيك أو مطالب بسحب الجائزة منها، كما حدث مع رئيسة وزراء ميانمار أونغ سان سوتشي التي حصلت عليها في 1991 وسط تقدير دولي قبل أن تعود إلى ساحة النقاش بصورة مغايرة في عام 2017 بسبب ما تعرضت له أقلية الروهينغا المسلمة من عمليات قمع وعنف، وصفت بالتطهير العرقي، وعدم قيام سوتشي بما يلزم لوقف الاعتداءات أو تجريمها أو التنازل عن المنصب، حتى لا تشارك في السياسات المتبعة ضد الروهينغا. وأصبح التساؤل مطروحا حول سوتشي التي أطلق عليها يوما أمل البلاد في عودة الديمقراطية، وحول جائزة نوبل بعد أن أصبحت جزءا من نظام تغيب عنه الديمقراطية، ويمارس فيه العنف ضد أقلية دينية، لتبرز الفارق بين المواقف المعلنة التي أهلتها للجائزة والواقع بكل تناقضاته.
ولكن في التعامل مع تلك التفاصيل، من شأن كل طرف أن يركز على البعد الذي يصلح في خدمة القصة التي يرويها، والتوظيف السياسي المطلوب داخليا وخارجيا، وفي حين يتجاوز البعض عن الإصلاحات السياسية يتم التركيز على نظرية المؤامرة، والعلاقات الخاصة مع إسرائيل ودورها في ما يخص سد النهضة، بدون إنكار خصوصية العلاقات المصرية الإسرائيلية وعدم اتساق صورة العدو- الصديق التي يتم ترويجها بصورة دائمة مع الواقع، وربما يتم التركيز على السلام مع إريتريا بوصفه يتشابه مع غيره ويرفع الحرج عن البعض الآخر ولا يحدث ضرر من ترويجه داخليا.
بالمقابل، ظهرت أصوات أخرى لا تبتعد كثيرا عن نظرية المؤامرة، وهي تؤكد على ضرورة الغضب في التعامل مع حصول آبي أحمد على الجائزة، لأن من شأنها إضعاف موقف مصر وخياراتها في التعامل مع سد النهضة، سواء في ما يتعلق بإمكانية تقديم صورة سلبية عن أحمد، أو استهداف سد النهضة عسكريا كما طرح وتداول عبر الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي. ولا تبدو تلك الفكرة أكثر من استهلاك بعيد عن أجواء الواقع حيث يتجاوز صعوبة المقارنة خارج السياق، والانتقادات التي قد تكرره الأصوات نفسها للدول التي تتدخل عسكريا في شؤون دولة أخرى، بدون أن تقف أمام مرآة الحقيقة وتحاول إدراك التشابهات والاختلافات في المواقف، رغم أن الفكرة واحدة وهي التدخل العسكري، وكيف أن تفسيراتك الخاصة لضرورة ضرب سد النهضة لا تختلف في معناها العميق بخصوص الأمن والتهديد، عن الأسباب التي قد تقدمها أطراف أخرى في مواجهتك، أو مواجهة غيرك بما فيها إمكانية تمسك إثيوبيا بحقها على حساب حقك.
يحاول البعض استخدام الحدث في تحسين صورة النظام، أو التجاوز عن اخطاء إدارة ملف النهضة من أجل تقديم العالم بوصفه مكانا للتأمر ضد مصر، رغم عدم اتساق هذا الحديث مع حديث الإشادة والتقدير والثقة، من قبل الدول والمؤسسات. وفي حين أكدت مصر في الخامس من أكتوبر 2019 أن المحادثات وصلت إلى طريق مسدود، وتركت الساحة من أجل تصاعد خطاب الخوف والغضب، بصورة قصرت الاهتمام على قضية السد، وترويج خطاب التركيز على المخاطر، بدون المحاسبة، نفت إثيوبيا في اليوم نفسه الإعلان المصري، وأكدت أن المفاوضات مستمرة، وأعلن أحمد عبر حسابه الرسمي على تويتر احترام بلاده لحقوق جميع دول حوض النيل، في استخدام المياه «وفقا لمبادئ الاستخدام العادل، وعدم التسبب في أي ضرر جسيم»، وأكد وزير الموارد المائية الإثيوبية حرص بلاده على استمرار التفاوض حول الجوانب الفنية والنظر للجوانب الإيجابية لكل من إثيوبيا والسودان ومصر، مع التأكيد على أهمية السد للتنمية ومحاربة الفقر.
تبدو القضية مرة أخرى في المرايا المستخدمة وكيف تستخدم من أجل إدانة الآخر واستبعاد المحاسبة، سواء على إدارة الملف أو ربطه بدون حق بثورة 25 يناير، التي يحولها النظام عندما يشاء إلى مصدر شرعية أو إلى أصل الشرور، الذي أضعف مصر وأفقرها وزاد من الطامعين والمستغلين، وصولا إلى سد النهضة، بدون أن يواجه أسئلة المنطق حول السنوات القريبة، وحديث إنجاز إنهاء أزمة سد النهضة ولقاء «إحلف» الشهير، وكيف دشن إدارة جديدة لتسوية الصراعات في السياسة الخارجية. يبدو من المهم التأكيد على نقطة أساسية في خلفية التناول وهي، أهمية مياه النيل بشكل إستراتيجي لمصر، بدون أن يتحول هذا إلى وسيلة من أجل فرز آخر للمواطنة والخيانة، وبدون أن يخضع لضرورة القبول بأن مياه النيل والقمع والفساد سلة واحدة بديلها الإرهاب والجوع والعطش. يظل من المهم أن تطرح كل الأسئلة حول الوزارات واللجان والمختصين والمستشارين والزيارات، وكل ما حدث خلال تلك السنوات، التي تمت فيها إدارة ملف سد النهضة حتى اللحظة، وحقيقة كل ما يعلن من أجل تفعيل «فوبيا إسقاط الدولة» عبر العطش والجوع تلك المرة مقابل المواجهة الحقيقية أمام مرايا الديمقراطية، التي ترى أن القمع هو أعظم الشرور وأنه بوابة إلى كل الشرور الأخرى.
يصبح علينا ان نختار نوعية المرايا التي تحكمنا في النظر للأشياء، وإن كان علينا أن نستخدم مرآة الساحرة الشريرة في قصة بياض الثلج «سنووايت» الشهيرة، حيث المرآة تعرف كل شيء، ومن ينظر إليها يمكن أن يصل إلى ما يريد، عبر التخلص من منافسيه بطرق غير نزيهة، ويتأكد أنه المسيطر الوحيد، وبين عالم تقوم فيه المرايا بإعلان الحقيقة، وإبراز التناقضات بين خطاب الداخل والخارج، وخطاب اللحظة والتوظيف، وخطاب ما قبل المنصب وما بعده. تبدو مرايا الديمقراطية شديدة الأهمية ليس لأنها بوابة إلى جائزة ما، ولكن بوصفها بوابة إلى حياة وانقاذ أوطان وشعوب، لأنها تسمح بالمكاشفة والمحاسبة، في حين تساعد مرايا القمع على إبقاء الأشياء كما هي عليه في الظاهر، في حين تتدهور الأشياء في الواقع بشكل مستمر، لأن القمع يولد أكاذيب تقوم بتغذية أكاذيب أخرى بدورها، حتى تواجه بلحظة كاشفة يمكن أن تصمد فيها تلك المرايا عبر المزيد من الإلهاء أو ترحيل الأزمات وتشتيت الانتباه، أو تسقط ومعها تتكسر المرايا، إما إلى تجمع آخر للقمع أو فرصة للتحرر.
كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية