هي حالة فوق سياسية بامتياز، وأقرب إلى روح انشداد عاطفي ووجداني غامر، تدفقت فيه جموع هائلة من البشر إلى شارع الحبيب بورقيبة في قلب تونس العاصمة، وعلى نحو لم نشهده منذ حوالي التسع سنوات، حين حققت ثورة 14 يناير 2011 فوزها الأول، وأزاحت الديكتاتور بن على، ودفعته للهروب من «قصــــر قرطاج»، الذي زحف إليه هذه المرة قيس سعيد، بفوز انتخابي كاسح، وهو رجل بلا تاريخ سياسي على الإطلاق، ولم يبذل لأحد وعودا، اللهم إلا الحلم باستعادة الثورة المخطــــوفة إلى سيرتها الأولى.
النظام في تونس برلماني وهنا تبدو محنة «قيس تونس»، الذي يملك التأييد والحب لكنه لا يملك الوسائل والصلاحيات سوى أهونها شأنا
فوز قيس سعيد حطم كل المعادلات السياسية البليدة، وبدا كتجربة عاطفية متدفقة، بأكثر من المعاني السياسية المباشرة، وبدا قيس سعيد، كأنه «قيس» المحبوبة تونس، قياسا بقيس ليلى العامرية، القصة العاطفية الذائعة الصيت في التراث العربى القديم، وقد اكتسبت القصة خلودها، تماما كقصة «روميو وجولييت» الشكسبيرية في التراث الأوروبي، من عدم تحققها، ومن تعثر وصولها إلى نهاية الزواج السعيد، فلم ينجح قيس أبدا في الاقتران بمحبوبته ليلى، ولم تفده عشرات القصائد الملهوفة المنسوبة إليه، وإن كانت أدامت ذكره وذكر ليلى، وعلى نحو عابر للأجيال، وهو ما نخشى أن تنتهي إليه دراما فوز قيس سعيد بكرسي الرئاسة التونسية، فقد سكن الرجل قلب تونس، وملك عليها وجدانها، واستثار مشاعرها الحبيسة، ودفعها لأعلى نسبة تصويت (قرابة الستين في المئة من المسجلين) في جولات الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة، وحصل على أعلى نسبة فوز (قرابة 73%) في تاريخ تونس بعد الثورة، وحقق معجزة جذب الشباب التونسي المحبط إلى صناديق التصويت.
وبدا الاحتفال بفوزه، مهرجانا للفرح التلقائي، لم ينظمه حزب، وإن حاول بعضهم استثمار المناسبة لأغراض خاصة، بدت عظيمة البؤس والتهافت، فقد كان الفرح تونسيا جامعا، وشهادة إدانة دامغة للأحزاب التي حكمت بعد الثورة بالذات، رغم أن كثيرا منها، حاول اللحاق بقطار «قيس تونس» العاطفي الجامح، ودعت إلى التصويت لصالحه، أحزاب وشخصيات من أقصى اليمين وأقصى اليسار، لكن قيمتها التصويتية الكلية، بدت محدودة الأثر، ولا تشكل سوى النسبة الأقل من جملة المصوتين لقيس سعيد في دورة الحسم، فأكبر هذه الأحزاب «حركة النهضة»، لم ينجح في إيصال مرشحه الأصلي الشيخ عبد الفتاح مورو إلى دورة الحسم الرئاسي، وحصل فقط على 52 مقعدا، من جملة 217 مقعدا في البرلمان، وفقد 17 مقعدا إضافيا كانت له في انتخابات 2014، وفقد 37 مقعدا إضافيا كانت له في انتخابات 2011. ونزل إلى القاع 23 حزبا، لم يحصل أكبرها سوى على أربعة مقاعد، فيما برزت إلى السطح قوى حزبية جديدة، لعل أهمها لفتا للأنظار «حركة الشعب» ذات الاتجاه الناصري، وكان لها ثلاثة مقاعد لا غير في البرلمان المنتهية مدته، وقفزت مرة واحدة إلى 16 مقعدا في البرلمان الجديد، أي بنسبة نمو شعبي فاقت 500%، وشكلت قطبا مهما في يسار البرلمان المنتخب توا، إلى جوار حزب «التيار الديمقراطي» المنسوب إلى اليسار الاجتماعي، وقد حصل على 22 مقعدا، وكانت «حركة الشعب» كما «التيار الديمقراطي»، من بين الداعين بحماسة إلى التصويت لقيس سعيد في الدورة الثانية، تماما كما فعلت اتجاهات اليمين في «حركة النهضة» و»ائتلاف الكرامة» السلفي الميول، وإلى غيرها الكثير من ألوان الطيف، بينما لم يحظ نبيل القروي، منافس سعيد، بتأييد حزبي معلن من خارج نطاقه، ولم يعمل معه سوى حزبه المسمى «قلب تونس»، الذي حل ثانيا في انتخابات البرلمان بثمانية وثلاثين مقعدا، وإن كانت خرائط التأييد الحزبي كلها، لم تكن حاسمة في صوغ النتيجة النهائية، بقدر ما كان الاندفاع الشعبي وراء حلم حمله قيس سعيد، نخشى أن يتحول في النهاية إلى «حلم ليلة صيف» على حد العنوان الشكسبيرى الشهير.
وقد لا تذكر لنا المصادر المتاحة شيئا عن وسامة منسوبة لقيس مجنون ليلى العامرية، هذا أن كان موجودا في أي أصل تاريخى موثوق به، بقدر ما هي أمثولة حب خالد، ربما لأن قيس المجهول لم يصل إلى غايته في النهاية، بينما قيس سعيد شخص معروض للكافة، وقد تحول الرجل إلى «قيس تونس» كما نفضل التسمية، وإلى قصة شغف تونسي مشبوب ومشدود، رغم أن قيس سعيد الذي نعرفه، لا يبدو شخصا «كاريزميا» في هيئته البدنية المنهكة، ولا في خطابه الرتيب «الروبوتي» الطابع، وإن بدا في صورة الشخص السيار، الذي لا تكاد تميزه عن عامة التونسيين، فهو ليس في وسامة ونجومية منافسه نبيل القروي، ولا في ثرائه العريض طبعا، ولا في انسدال شعره الناعم اللامع، فقيس سعيد رجل قانون دستوري وكفى، وليس في تاريخه تجربة سجن كفاحي، ولا شبهة فساد كمنافسه القروي، بل برز قيس كمثال للموظف الأمين النزيه الشريف، المتواضع على نحو مدهش، الأخلاقي بامتياز، الرافض تماما لأي دعم مالي تقدمه الدولة للمرشحين، ولعقد أي مؤتمر انتخابي، المتعفف عن بدء أي دعاية تلفزيونية قبل أن يخرج منافسه من السجن، المتحدث دائما باللغة العربية الفصحى، البريء تماما من اللوثة الفرانكوفونية المجتاحة لنخب تونس، المتزن ثقافيا وسلوكيا بغير إفراط ولا تفريط، المثير لحيرة المراقبين الموزعين على نعته بالسلفية أو باليسارية، النافر بوضوح من الأحزاب وسيرتها، المستعيد لحلم الثورة الأول، الراغب في عدالة اجتماعية اختلت موازينها، المتشكك في جدوى النظام البرلماني القائم، المطالب بنوع من الديمقراطية المباشرة لا الديمقراطية التمثيلية، الطارح لتصور لامركزي تماما، تكون فيه السلطة للشعب لا للأحزاب، المفاجئ للناس بعروبيته الفياضة، الحالم بوضع علم فلسطين إلى جوار علم تونس في احتفال النصر، المندد بالتطبيع مع إسرائيل، إلى حد اعتباره خيانة عظمى.
وهذه لغة لم تكن موجودة أبدا في تقاليد الرئاسة التونسية، بحيادها التاريخي الباهت، ولا هي موجودة بالطبع عند أي أحد من حكام العرب اليوم، ولا في لغة اليوم عند أغلب أحزاب تونس، التي لم تعترض أبدا على مهرجان يهودي سنوي يقام في تونس، يزحف إليه الإسرائيليون زرافات ووحدانا، في ما يشبه المستعمرة الإسرائيلية السنوية المتنقلة، ويذكرك بمولد الحاخام المدعو «أبو حصيرة»، وكان يقام سنويا في شمال مصر، إلى أن جرى وقفه نهائيا بحكم قضائي بات، وهو ما نأمل أن يجري مثله في تونس، وإن كان الأمل ليس مؤكد التحقق، خصوصا أن صلاحيات الرئيس رمزية جدا بحكم الدستور المصاغ بعد الثورة، وهذا هو مربط الفرس، فقد اندفع التونسيون العاديون لانتخاب قيس سعيد كرئيس كامل الصلاحيات، وعلى ظن البحث عن رجل يكافئ أحلامهم، وبذاكرة وجدانية تاريخية، تجعل الرئيس هو الرئيس على طريقة بورقيبة، بينما الرئيس في تونس الحاضرة ليس كذلك، بل مجرد ساكن مبجل لقصر قرطاج، لا يملك من صلاحيات التنفيذ إلا أقلها، وسلطته مقيدة بإسهام في مجالات السياسة الخارجية والأمن القومي، وله رأي يسمع بالكاد في اختيار وزراء الخارجية والداخلية والدفاع، بينما يبقى القرار في غالبه بيد رئيس الحكومة المصادق عليه من البرلمان، فالنظام في تونس برلماني معدل قليلا، وهنا تبدو محنة «قيس تونس»، الذي يملك من التأييد والحب أكثره، لكنه لا يملك من الوسائل والصلاحيات سوى أهونها شأنا.
ومما يزيد في تعقيد الصورة التونسية الراهنة، وقد يكبح الحلم الذي يمثله شخص قيس سعيد، ما آلت إليه نتائج الانتخابات التشريعية، التي تضاءل الإقبال عليها، وغاب عنها الشباب التونسي في أغلبه الساحق، وأفرزت برلمانا معلقا ومشتتا، لا يملك فيه الحزب الفائز بالمركز الأول (حركة النهضة)، أن يشكل حكومة بمفرده، ولا مع من يشبهونه سياسيا، فقد حصلوا جميعا على عدد مقاعد أدنى بكثير من حد الحسم، وأي حكومة تحتاج إلى ثقة نصف إجمالي أعضاء البرلمان على الأقل، أي إلى 109 برلمانيين، وهو ما لا يدرك بغير حاجة إلى تلفيق سياسي حزبي، يسمونه في تونس بالتوافق، وقد فشلت كل تجاربه إلى اليوم، ولم تستطع الحيلولة دون تدهور حاد في أوضاع الاقتصاد والمجتمع، وصعود نسبة البطالة إلى 15%، وتفشي نوازل الإفقـــار والتهميش، مع أن دواعـــي الثورة كانت اقتصـــادية واجتمـــاعيــــة بامتياز، وعلى نحو ما رمزت إليه واقعة انتحار البائع المتجول البوعزيزى حرقا، والتي كانت شـــرارة اندلاع الثورة، التي يشعر أغلب التونسيين اليوم بمرارة سرقتها، وتضييع أحلام شبابها، وتعلقوا بخشبة قيس سعيد على أمل النجاة، وبدون تحسب لمخاطر غرق جديد، قد تقود إليه دوامة الأحزاب والإئتلافات والمناورات في تشكيل الحكومات إياها.
٭ كاتب مصري
أن يحتكم التونسيون الى التوافق السياسي من أجل تشكيل حكومة خير من أن يرجعوا بالبلد الى عصر العبودية. وهذا مالايفهمه من ساند العسكر ويدعي ان التوافق هو تلفيق سياسي.
قيس تونس… رئيس بصلاحيات رمزية؟!وأيه العمل عشان يبقي بصلاحيات كامله يا ا/قنديل؟!يلتحق أحد الكليات العسكريه ويتخرج منها ويجتهد حتي يصبح قائد المخابرات الحربيه ثم ينقلب علي رئيس الدوله المنتخب فيصبح رئيس كامل الصلاحيه؟!ما أحلي النصيحه عندما تأتي من يساري موالي للعسكر كان صوته يجلل في الفضاء أيام حكم الرئيس المنتخب ثم تقطعت أحباله الصوتيه عندما حكم المنقلب.لا حول ولا قوة إلا بالله.
مقالك يحتاج لأحد متخصص في علم النفس لانه فيه اسقاطات وما يسمى ب ميكانيزمات الدفاع التي تحاول ان تفشل التجربة التونسية وتجد السلبيات لتدافع عن فشل ملهمك وتجربته الدكتاتورية وانت تفهم القصد ( زلات اللسان وعثرات القلم )
أتفق معك ليس بالضرورة أن يكون له سجل حتى يكون قادراً على صناعة فجر مشرق لتونس , الرجل منتخب ومثقف وملم بالحالة التونسيه خاصه انه رجل قانوني بحت ..
و الله أتعجب كيف يمكن للبعض الذي يظهر في برامج تابعة لإعلام الطغاة ليقول الشئ و نقيضه في نفس الجملة و بفاصل زمني لم يتجاوز الدقيقة، بعد أن شعر ان الجزء الأول من كلامه لن يرضي الأسياد
اتمنى من الاستاذ قنديل ان يحلل لنا ظاهرة هؤلاء البعض.
الأنظمة العربية تحكمها الأجهزية الإستخبارتية الإستعمارية من وراء ستار ومنذ زمان كذلك وهذ مالايفهامهو المجتمع العربي للأسف شديد
والله الأستاز معه حق. ماذا تستفيد تونس برئيس صوري بدون صلاحيات؟ من يبيع الجزر؟ من يبني القصور؟ من يشيد السجون الفاخرة ويملؤها بسخاء بكل من تسول له نفسه الأمارة بالسوء أن يفكر ويعبر؟ من يسكت وسائل الإعلام المندسة التي لا تسبح بحمد السيد الرئيس بالغدو والآصال؟ ثم من يغير الدستور المقدس بجرة قلم ليتمكن فخامته من البقاء جاثما على صدور الأشقاء التوانسة بكل ديموقراطية إلى ما لا نهاية؟ هل هذه ديموقراطية؟ الديمقراطية التي تستحق هذا الإسم يجب أن يكون الرئيس فيها وسيماً ذو شعر لامع ومنسدل بالإضافة إلى كونه طبيباً للفلاسفة وصاحب “شعبية جارفة”. وحبذا لو كان معافى من داء الفصاحة في التعبير كالذي يعاني منه الأستاذ قيس سعيد…
الإنجاز الأكبر في انتخابات 2019 التونسية حققه”ائتلاف الكرامة” (الذي لا علاقة له بالسلفية كما يدعي الكاتب) وليس “حزب الشعب” الناصري؛ فالائتلاف المذكور لم يكن له وجود إلا بمناسبة العملية الانتخابية الأخيرة، ومع ذلك فقد فاز بـ 21 مقعدا في البرلمان، بينما التيار الناصري موجود في البلاد منذ عشرات السنين لكن حصيلة مقاعده كانت دون العشرين..
رئيس منتخب