لندن: المحرر الثقافي
لم يفاجئنا أمجد ناصر برحيله، فقد كان الموت يطل برأسه كل يوم من نصوصه. حتى قبل أسابيع قليلة، كنا نترقب ونتابع حالته الصحية من خلال تدويناته على الفيسبوك. كانت لغته مشبعة بالأسى، عبّر فيها عن بكائه الداخلي، وعن رطوبة روح الشاعر وقدرتها على مواجهة الموت بالقصيدة. لقد أعدّنا لهذه اللحظة التي تنبأ بها في كتابه «حياة كسرد متقطع» كاتبا موته قبل أن يموت:
«لست متاكدا أيضا ان الشعراء قادرون على التنبؤ بموتهم رغم أن «سيزار فاليخو» مات في باريس وفي يوم ماطر، تماما كما تنبأ بقصيدته «حجرٌ أبيض على حجرٍ أسود» وأنا أتوقع في هذه القصيدة التي أكتبها الآن أن أموت بلندن في يومٍ ماطرٍ ( يومٍ ماطرٍ في لندن؟ يالها من نبوءة) موصيا، منذ اللحظة أن أدفن بالمفرق قرب أمي التي ماتت وهي مقتنعةٌ أنه لن يضمَّنا حيزٌ ذات يوم. فالجميع يعلم أنها ستذهب إلى الجنة».
حين سئل كيف تحب أن تموت، أجاب:« بالقلب، وانا نائم على سريري، وفي الصباح يجدونني ميتا». لكنه كان على يقين أن» الإنسان يموت كما يموت أهله».
خبر الشاعر سطوة المرض مبكرا مع عائلته، والدته، وشقيقه، واكتملت الفاجعة مع تردي الوضع الصحي لشريكة دربه هند ، التي تطوع لها قبل سنوات بإحدى كليتيه.
أدرك أمجد ناصر مبكرا أن المواجهة الوحيدة مع المرض تكون بالإصرار على الكتابة. وابتكار شعرية خاصة عكسها في نصه الأخير «راية بيضاء» :
«عندما، لا تجد أي خيار، وربما بمحض اختيار حر، «تتبرع» ببضعة من لحمك (كلية) لتمشي خطوات أكثر مع رفيقة/ رفيق حياتك، قد يكون هذا أقصى ما بوسعك عمله، ثم تظن أنك قدمت، أخيراً، «هديتك»/ أو ربما «أضحيتك». تُقبل «الأضحية» وتقوم بعملها على أفضل وجه… إلى حين، لكنه حينٌ طويل بعض الشيء (ست سنين)، إلى أن «تتسرطن»، وتفشل.. ثم يصار إلى استئصالها ورميها في مختبر ما لمزيد من «الدراسة» والتحليل».
اليوم استعيد صور أمجد الكثيرة في الذاكرة، يحضرني دائما صوت اليساري ، الذي يجادل بحماس وبغضب وحرقة على مآلات الحلم العربي. أستعيد صورة البدوي الذي يحفظ أشعار البدو، وأمثالهم، وحكايات الجدات اللواتي كن يرصدن نجوم سهيل في السماء. أمجد الذي يدندن بلحن عراقي حزين قصائد مظفر النواب. «ياريل طلعوا دغش» و «هذا طينك يا ألله».
يغمض أمجد عينيه للمرة الأخيرة، وهو في قمة نضجه الأدبي، بعد ان انجز مسيرته الشعرية بما يليق بشاعر وكاتب، ملتزم بقضايا أمته التي آمن بها بوضوح ويقين المثقف الحر.
نسأل له الرحمة من الله بعدد حبات المطر التي هطلت في يوم رحيل هذا الشاعر الأصيل على هذا الكوكب ، لقد ارتقى نجماً في سماء الخلود .