مقتل البغدادي سيعزز تمدد تنظيم “الدولة” في آسيا

صادق الطائي
حجم الخط
0

بات مسلما لدى الخبراء الاستراتيجيين المتخصصين في شؤون الجماعات الراديكالية المسلحة، إن التنظيم الذي يفقد قائده بالقتل أو الاعتقال، يصاب بحالة من فقدان الاتزان لمدة من الزمن، يبدأ بعدها مقاتلوه البحث عن حلول لوجودهم على الأرض، وهذا يقودهم عادة إلى أحد اتجاهين؛ الأول محاولة التكتل والبحث عن تحول جديد عبر قيادة جديدة، ليولد من رحم التنظيم القديم تنظيم جديد. أو أن يتحول المقاتلون إلى التنظيمات الموجودة على الأرض والقريبة منهم أيديولوجيا لينظموا لها ويقاتلوا في صفوفها. وهذا ما يتوقعه المراقبون بخصوص فلول تنظيم “داعش” في الشرق الأوسط بعد مقتل خليفته أبو بكر البغدادي.

ما أن وصل التنظيم الإرهابي إلى أقصى مديات توسعه عام 2014 بعد أن سيطر على مناطق غرب العراق وشرق سوريا، حتى باتت مساحة الأرض التي شكلت ما عرف بـ “دولة الخلافة” حينها تفوق مساحة بريطانيا، وأكبر من بلجيكا بثمانية أضعاف. ورغم أن أغلب هذه المساحة الشاسعة هي أرض صحراوية جرداء، إلا إنها ضمت مدنا استراتيجية في العراق وسوريا، تقف في مقدمتها الموصل ثاني أكبر مدن العراق، والتي أعلن أبو بكر البغدادي من جامعها الكبير بيان قيام دولته واعتبار الموصل عاصمة خلافته الجديدة، كما ضمت دولة “داعش” مدنا مهمة أخرى مثل تكريت والرمادي في العراق، والرقة ودير الزور والبوكمال في سوريا، وميزة هذه الأراضي الواسعة احتوائها على ثروات نفطية كبيرة بالإضافة إلى ما تضمه من ثروات المواقع الأثرية. وعبر بيع النفط وتهريب الآثار والسيطرة على المصارف والبنوك في هذه المدن، وفر التنظيم ثروة هائلة مكنته من تجنيد عشرات الآلاف من الشباب في مختلف دول العالم، وهذا الأمر أدى إلى انتشار شبكات التنظيم الإرهابي في دول مختلفة بسرعة ملفتة.

دولة على الأرض

الاختلاف الذي ميز تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” عن سلفه الذي ولد من رحمه تنظيم “القاعدة” أنه خلق دولة على الأرض ذات حدود هلامية مطاطة، ورفع شعاره الاستراتيجي “دولة الخلافة .. باقية وتتمدد” ليتسنى له الاستحواذ على أراض جديدة وضمها لكيانه المتنامي، وهذا الأمر خالف استراتيجية تنظيم “القاعدة” التي كانت تعتمد بشكل أساسي آليات حرب العصابات المتمثلة بالهجمات المتفرقة عبر عمليات الكر والفر وعدم مسك الأرض والبقاء فيها لمدة طويلة، كما تميز تنظيم “القاعدة” بمرونة فصائله الدولية، وإعطائه مساحة من حرية المناورة لهذه التنظيمات، إذ تم نشر التنظيمات المتشددة والراديكالية التكفيرية حول العالم من دون رابط تنظيمي حقيقي بين قيادة زعيم التنظيم بن لادن في أفغانستان وشبكاته حول العالم، بينما حاول “داعش” أن يمسك الأرض ويخلق إمارة إسلامية في قلب الشرق الأوسط على غرار إمارة طالبان التي أنشأت في عقد التسعينيات المنصرم.

 بدء “داعش” يسرق الأضواء من منافسيه الراديكاليين مثل “القاعدة” وحركة “طالبان” إبان بزوغ نجم انتصاراته في العراق وسوريا، ما دفع بتنظيمات راديكالية مختلفة في افريقيا وآسيا إلى فك ارتباطها وإلغاء بيعتها لزعيم تنظيم “القاعدة” والتحول لمبايعة الخليفة الجديد أبو بكر البغدادي، وهذا ما حدث في سريلانكا وماليزيا ودول جنوب شرق آسيا وأبرزها الفلبين وماينمار. أما بالنسبة لمناطق نفوذ وتواجد التنظيم في أفغانستان، فيمكننا القول إنه خاض صراعا شرسا ضد منافسيه تنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان” ودفعت الضغوط الشديدة مقاتلي “داعش” باتجاه شمال أفغانستان ليشكلوا تهديدا حقيقيا متجمعا على حدود جمهوريات آسيا الوسطى مثل طاجكستان وكازخستان وأوزبكستان.

يرى كولين كلارك، الأكاديمي والباحث الأمريكي في معهد أبحاث السياسة الخارجية، ومؤلف كتاب “ما بعد الخلافة: تنظيم الدولة الإسلامية والشتات الإرهابي” أن هناك ثلاثة احتمالات لمستقبل مقاتلي التنظيم عند تفككه. الأول يتعلق بالمقاتلين ‏المتشددين في ولائهم للتنظيم، والذين يفضلون البقاء في سوريا والعراق، والعمل بشكل سري، وإعادة ‏تنظيم صفوفهم، وقد تمت معالجة أمر هؤلاء، فالكثير منهم قتل وهناك عدد قليل تم اعتقالهم في معسكرات قوات سوريا الديمقراطية الكردية أو في السجون العراقية.

والاحتمال الثاني يتعلق بالمقاتلين الذين أطلق عليهم كلارك‏ اسم “المرتزقة” وهؤلاء سيبحثون عن التنظيم ‏الأقوى في أي منطقة أخرى ويتوجهون للانضمام إليه، حتى إذا كان القاعدة المنافس الأكبر ‏لتنظم الدولة الإسلامية‎. ‎والاحتمال الثالث هو تشرذم مجموعة من المقاتلين في محاولتهم العودة إلى بلادهم أو أي بلد آخر ‏يمكنهم تنفيذ عملياتهم فيه، وربما الانضمام إلى “أو تكوين” مجموعات جهادية أصغر.

الفلبين

إذا نحن في الواقع إزاء حراك مقاتلي “داعش” من النوعين الثاني والثالث. وهنا يرى عدد من الباحثين الاستراتيجيين والخبراء الأمنيين ان المكان الأكثر ترشحا للعب دور المغناطيس الجاذب لفلول تنظيم “داعش” سيكون الفلبين لعدة أسباب، إذ إن التنظيم وكما أشرنا مسبقا يواجه قتالا شرسا من منافسيه في أفغانستان أدى إلى طرده من الكثير من معاقله، ودفعه باتجاه جمهوريات آسيا الوسطى للبحث عن ملجأ له، وهذا ما أكده وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مؤخرا أثناء زيارة رسمية إلى طاجكستان، أكد فيها إن روسيا تعزز بشكل عاجل المساعدات العسكرية لحلفائها من جمهوريات آسيا الوسطى، المهددة بخطر غزو ‏عسكري واسع النطاق من عصابات “داعش” انطلاقا من أراضي أفغانستان.

كما أكد ألكسندر بورتنيكوف، مدير هيئة الأمن الفدرالي الروسية “كي جي بي سابقاً” في كلمة له أمام رؤساء الأجهزة الأمنية من بلدان منظمة رابطة الدول المستقلة (تضم معظم ‏الجمهوريات السوفييتية سابقاً) قال فيها إن “ما يثير قلقنا انتقال المجموعات الإرهابية إلى المناطق الشمالية من أفغانستان المحاذية لبلدان رابطة ‏الدول المستقلة” مؤكداً أن “نحو 5 آلاف مسلح مما يُعرف باسم (ولاية خراسان) وهي فرع تابع لتنظيم داعش، ‏يتمركزون في تلك المناطق حالياً. والجزء الأكبر منهم من مواطني بلدان رابطة الدول المستقلة، الذين ‏شاركوا في القتال في سوريا والعراق‎”.

ونتيجة الموقف الروسي الصلب في مواجهة تمدد “داعش” في آسيا الوسطى والذي مثل حاجزا صلبا في وجه تمدد التنظيم هناك، توجهت أنظار التنظيم إلى الفلبين الذي يمثل الخاصرة الرخوة في دول جنوب شرق آسيا، وذلك لوجود جماعات انفصالية متشددة فيها، أربعة منها بايعت التنظيم علانية في 2016 أبرزها ‏جماعة أبو سيّاف‎.‎‏ كما أن وجود التنظيمات الانفصالية على حدود الفلبين مع ماليزيا، جعلها أكثر ‏استقرارا وأمنا في تحركاتها، وبعيدة عن أعين الحكومة المركزية.

الحاضنة المثالية

وتشير سيدني جونز مديرة معهد تحليل سياسات النزاع ‏إلى هذا الأمر بقولها “إن غابات جزر أرخبيل مينداناو تمثل مكانا نموذجيا لتمدد تنظيم داعش. ويمكن أن تلعب دور الحاضنة المثالية لتجمع مقاتلي التنظيمات الجهادية المتطرفة في غابات جنوب الفلبين الذي يعاني سكانه من الأقلية المسلمة من سياسات التهميش والإقصاء وفقر الخدمات وتردي الواقع الاقتصادي، ما خلق حاضنة غاضبة يمكن استثمارها لزرع بذور التنظيم الإرهابي بسهولة”. وأضافت أن “هذه الأسباب خلقت مجموعة قوية للغاية من العوامل التي تجعل الناس يبحثون عن أيديولوجيات أخرى مثل فكر تنظيم داعش المتطرف يمكن أن يكون بديلا أو منقذا من الظروف المعيشية السيئة”.

وقد أعلن تنظيم “داعش” مسؤوليته عن أربعة تفجيرات انتحارية في الفلبين منذ تموز/يوليو من العام الماضي، وقد خاضت القوات المسلحة في الفلبين ‏أطول معاركها منذ الحرب العالمية الثانية في 2017 إذ حاصر متطرفون يسعون ‏لإقامة دولة إسلامية في مدينة مراوي في مينداناو، ‏واحتلوها على مدى خمسة أشهر، وقد أدت الاشتباكات العنيفة بين القوات الحكومية ومقاتلي “داعش” إلى تدمير أكبر مدينة ذات أغلبية مسلمة في الفلبين، وقد أعلنت السلطات الحكومية أن ‏المعارك ضد “داعش” أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 900 شخص من ‏المسلحين، من بينهم من يعرف بـ “أمير شرق آسيا”. وعلى هذه الخلفية المرعبة جاءت تصريحات دلفين لورينزانا وزير الدفاع الفلبيني الأخيرة إذ قال واصفا مقتل البغدادي “هذه ضربة للتنظيم نظرا لمكانة البغدادي كزعيم. لكنها مجرد انتكاسة لحظية نظرا لتعمق التنظيم ‏واتساع نطاقه على مستوى العالم، سيأخذ شخص ما مكانه وسيتجدد القتال”.

مع اندحار “داعش” في سوريا، بدى جليا تسارع بناء قوة ونفوذ التنظيم في جنوب شرق آسيا وتحديدا في الدول ذات الوجود الإسلامي الكثيف، مما توجب على سلطات هذه البلدان العمل بشكل جاد وحقيقي على توفير منظومات أمنية مختصة بمكافحة وتفكيك الخلايا ومعالجة الوجود المسلح للتنظيمات الإرهابية في هذه البدان، على ان يتم العمل بالتعاون بين الأجهزة الأمنية في الدول التي تتعرض لخطر التمدد الإرهابي في ماليزيا والفلبين واندونيسيا وسيريلانكا وبنغلادش. وهذا ما تم الشروع به وبشكل متصاعد منذ 2016 مع اشتداد الهجمات الإرهابية التي أعلن “داعش” عن مسؤوليته عن تنفيذها في هذه البلدان التي يعتقد ان صراعها مع الإرهاب قد ابتدأ بشكل حقيقي الآن.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية