الجملة العالمة وجملة الخطاب

من منّا لا يعرف الجملة ومكوّنيها من فعل وفاعل ومبتدأ وخبر، أدخلت المدرسة هذا المفهوم إلى أذهاننا منذ سنواتنا الأولى في المدرسة. كنّا نتكلم بلا تفكير في وحدات كلامنا الكبرى، التي تسمّى الجمل، حتى أخبرنا المعلّم بكلّ براءة أنّ هناك شيئا أكبر من الكلمة هو الجملة، وصرنا نبحث من يومها في حصص اللغة العربية عن حدود الجمل ومعاني الجمل وأساليب الجمل. ارتباط الجملة بالمدرسة وبقيّة المؤسسات التعليمية جعل بعض الدارسين يسمونها الجمل العالمة، ليس لأنّها مفهوم من مفاهيم علم النحو قديما وعلم اللسانيّات حديثا، بل لأنّها مفهوم لا يتحقّق بشكل نظاميّ إلاّ في كتب النحو ونظريّات اللسانيّين، هي جملة نظاميّة لذلك سمّاها بعض اللسانيّات جملة النظام.
كان سيبويه مرتاحا من هذا المفهوم، لم يبتدعه ولا هو أخذه عن السابقين، كانت أذهانهم تفكّر في أنّ الكلام فيه عناصر مؤسّسة، لولاها ما وجد، وهذه العناصر هي الإسناد. بليغة تسمية الإسنادِ هذه، تطوّرت أحوال الحضارة وما تزال التسمية تحمل آثار حضارة بدويّة، أبياتها من الشعر لا تقام إلاّ إذا قام وتدان من الخشب، متساندان يثبتان الخيمة، فلا ترسلها الرياح في مهبّها، فأحد الوتدين يسند الثاني، أحدهما مسنَدٌ والثاني مسْنَدٌ إليه، والعلاقة التي تشدهما هي الإسناد. من هذه الهندسة البسيطة للخيمة استوحى النحو العربي مفهوم الإسناد، الذي عليه تقوم الجملة فقال سيبويه في باب المسند والمسند إليه: «وهما ما لا يستغني واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدّا، فمن ذلك الاسم المبتدأ والاسم المبني عليه (يعني الخبر) وهو قولك (عبد الله أخوك) .. ومثل ذلك قولك (يذهب زيد) فلا بدّ للفعل من الاسم، كما لم يكن للاسم الأوّل بدّ من الآخر في الابتداء» (الكتاب: 1/14).
لا تثبت الخيمة بدون تساند وتدين، ولا يقوم كلام بدون تساند مُخبر عنه وخبر هكذا كانت الجملة في أوّل تصوّرها هندسة بسيطة قائمة على علاقة إعرابيّة بين مسند إليه (مبتدأ أو فاعل أو ما كان في حكمهما) ومسند (خبر أو فعل وما كان من حكمهما)، العلاقة التي تشدّ الوتدين هي كالحبل يربط ويعقد بإحكام بينهما، لبناء الجملة والكلام، وهذان اللفظان وردا على لسان نحوي في القرن السادس للهجرة هو الإسترابادي فلخّص كامل العلاقة الإعرابية في عبارتين تستلهمان هندسة بيت الشعر البسيطة، وهما «العقد والتركيب».
الجملة العالمة في العربية، تلك التي ندرّس شروطها النظامية، هي ليست الجملة التي نستعملها في الكلام، فنحن لا نجري كلامنا على ما يريد النحو، هو يريد جملة من نوع (عبد الله أخوك) و(يذهب زيد) لكنّنا في الكلام لا ننقاد إلى هذا الانضباط في الترتيب فنعمد إلى التقديم والتأخير، ولا ننضبط إلى هذه البنية البسيطة، فنعمد إلى توسعتها بالأدوات التي تدخل على صدر الجملة لتسم الجملة بالزمان (كان عبد الله أخاك) أو بالاعتقاد (أظن عبد الله أخاك) أو التي تدخل على قافية الجملة بما يسمّى المتمّمات أو الفضلات (يذهب زيد اليوم إلى مطار الحجيج ليستقبل والده الذي…).

جمل الخطاب العلمي هي جمل مستوية نظاميّة في الغالب، ومنها خطابات لا تميل إلى الجمل بقدر ما تميل إلى الشكلنة باستعمال الرموز.

في الجملة العالمة ضربان من القيود التي تضمن نظامية الكلام اللغويّة: قيود ضابطة للأصول (الترتيب النظامي لعناصر الجملة وأخرى ضابطة للفروع (التقديم والتأخير) هذه القيود التي نسمّيها عدولا ممكنا ومقنّنا عن الأصول، هي التي تسمح لنا بأن نقول: (في البال أمنية يا أخت عن بلدي) ولا نقول (أنادي أختي لأقول لها: الأمنية التي عن بلدي توجد في البال). تصوّروا نحوا بلا عدول، لا يسمح بالتصرّف في هذه الجملة النظامية، سيكون القول أكثر نمطيّة وسيفكّر الناس بالطريقة نفسها، وسيسير الكلام بخريطة طريق لا مفاجأة فيها. هناك شيء يسمّى الجبرية اللغوّية ويعني أنّ اللغات بقواعدها النحويّة والصرفيّة وغيرها، تجبر الإنسان على أن يسير على منهج معلوم في الكلام لا يفارقه. صحيح أنّ الكلام مفرد، وأنّ الحرّية فرديّة أساسا، لكنّ جبر المؤسّسة اللغويّة على أن ترفع الفاعل ولا تقدّمه على المفعول في الأصل، وعلى أن تجعل المبتدأ معرفة والخبر نكرة في الأصل، يضيّق على الكلام بجبريّة اللغة، لذلك تسمح اللغة، لهذا الفرد الميّال في كلامه إلى الحريّة، وحتى لا يختنق وهو في محبسه الجبري، بأن يمشي كما يريد في ساحة السجن اللغوي الواسعة وأمام كاميرات اللغة الساجنة.
أكبر مجال لتحرّر الجملة هو أن تكون في الخطاب، نعني بجملة الخطاب الجمل المستعملة في نصّ مكتوب، أو في كلام شفوي في سياق تواصلي معلوم. الجملة في الخطاب هي أكبر وحدة من وحداته، هو أيضا يحتاج الجملة ليزن مكوناته لا طولا وقصرا، وحسب بل أيضا انسجاما وترابطا، هو يحتاج مفهوم الجملة العالمة لا ليراقب الأداء أسليم هو أم لاحن؛ لا يوجد اللحن في الخطاب إلاّ عن قصد (الخطاب الإشهاري مثلا) الجملة العالمة في الخطاب هي جملة بينها وبين مجاوراتها مواثقات وعهود «خطابيّة» تنصّ على حسن الجوار وعلى الانسجام تماما كانسجام البيوت في حيّ منسجم، بحيث لا يشذ بيت بلونه أو بهندسته عمّا تقرّره هندسة الحي لمالكي المنازل فيه، هناك شروط هويّة خطابيّة، وشروط تصرّف جمالي مقنّن والأولى هي التي تحدّد الثانية، فمثلا لا يمكن لخطاب في علم من العلوم أن يطلق العنان للمحسنات والاستعارات: حيّ خطابات العلماء كحي العلماء نفسه مليء بالمبادئ، مقدود من البساطة. وحيّ خطابات الشعراء كحي الشعراء، حكمته آخذة من صنوف مختلفة من الرؤى الفذة (أو المقلّدة) وألوانه طافحة وتوشياته مشعة.
جمل الخطاب العلمي هي جمل مستوية نظاميّة في الغالب، ومنها خطابات لا تميل إلى الجمل بقدر ما تميل إلى الشكلنة باستعمال الرموز. وجمل الخطاب الأدبي جمل ميّالة إلى العدول، واقعة بين حدود النظام، تلوّح لها برايات الثورة وحدود المروق، تلوّح لها برايات السلام: تطلّ الجملة في الخطاب الأدبي على جملة النظام، التي تلبس جبّة سيبويه وعمامة الخليل بلباس لا عمامة فيه ولا جبّة، فتحييها جملة النظام تحيّة من يحسدها على جرأتها، ولكنّه يراقب احتشامها القليل، فلا يجده مخلا للحياء، هو يتمنى لو كانت تلبس كلباس العلماء لكن لا يهمّ تقول جملة النظام فهذا من الحرّية المقيّدة.
وتطل جملة الخطاب على بلاد اللحن فتدعوها إلى المروق فتشتاق أن تتحرّر.. لكنّها تستحي أن تخرج عارية تماما أو يصعب عليها أن تمشي على حلّ نظمها، وفسخ العقد الذي يربط بين أزواجها بما تقضيه شريعة اللغة المنسوخة. جمل الخطاب لا شجاعة لها كافية حتى تصبح لا نحويّة، ولا جبن لها كاف حتى تصبح نظاميّة، هي اعتدال يسير على الصراط المستقيم، ولكنّه يفرّ إلى روح اللغة الممكن، ويجتهد في توسعته بالعدول المقبول، ويطلّ على مدينة تجاهر فيها اللغة بما ينافي الحياء: فيها قوم يرفعون يوم النصب وينصبون يوم الرفع ولا يخشون في اللغة لومة لائم يعجبهم المشهد لكنّهم يخشون يوما لا ظلّ فيه إلاّ ظلّها: اللغة.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول .Dinars. #TUN.:

    ها قد ظهر أيضا أن للجملة سوق كلام مستوحى من سوق الجملة للبطاطا وأخواتها.
    مؤكد أن الكلمة تعبأ في كونتنار اللغة ثم تحمل على شاحنات الأدب لتقطع الطريق أمام قطار التقدم.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري هذا عنوان (الجملة العالمة وجملة الخطاب) يا د توفيق قريرة، يلخص إشكالية مفهوم الرب/الإله في علم الكلام، أو من له حق صياغة لغة القانون أو الدستور لدولة الحداثة،

    الذي لاحظته، عند أهل علم اللسانيات الغربي، يجهل أي شيء عن علم اللغة/التدوين الذي ساهم في كتابته أبو الأسود الدوؤلي (إكمال شكل الحرف) والخليل بن أحمد الفراهيدي (إكمال هيكل الكلمة (الصيغة البنائية والجملة (بحور الشعر الأدبي)) في الوصول إلى لغة، تجمع كل ألسنة العرب وليس فقط لسان قريش، لتدوين لغة القرآن (كما تُنطق، تُكتب)،

    فأصبح الإسلام لدينا يجمع ما بين لغة القرآن وبين تمثيلها على أرض الواقع من خلال أفعال وأقوال الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم، فلذلك، لا رهبنة في الإسلام،

    وخرج المسلمين بنظام إقتصادي فريد (الوقف الإسلامي) لتمويل حاجة أي مسجد/جامع من إدارة أو حوكمة،

    فلذلك ليس هناك تجارة بالدين في الإسلام، مثل بقية الأديان، التي تجعل هناك رسم دخول (المعبد أو الكنيسة) لو أردت الاتصال برب/إله من خلال تاجر الدين،

  3. يقول S.S.Abdullah:

    ولذلك تلاحظ بعد 11/9/2001 وإصدار قانون الوطنية وفق صيغة (من ليس معنا، فهو ضدنا) بدأ

    أس المشاكل في دولة الحداثة، دولة خُمس آل البيت (ضرائب ورسوم وجمارك)، دون تقديم خدمات مقابل ذلك، ومن هنا جمال تقارير السي أن أن

    https://youtu.be/D-hzRTRiAQE

    لتوضيح كيف أن الذكاء الإنساني، يلخصه مفهوم كيف تخلق مُنتج، وفق حاجة السوق،??

    ولذلك يا حبيبنا هذا أحسن Business، لسرقة ميزانية أي دولة، تم تصميم بنودها، وفق (عقلية بندقية للإيجار) كما هو حال ميزانية العراق مثلاً بعد 2003،

    لتمويل جيوش آل البيت التي قبلت المشاركة في العملية السياسية، لنشر الظلم والعبودية والسكوت على جرائم سرقة خيرات وموارد العراق الإقتصادية، في الجانب الآخر،

    ما فات هؤلاء، أن لغة تدوين القرآن الذي بين أيدينا، جمعت كل ألسنة القراءات، وليس لسان قراءة قريش فقط، أي أنّ العرب ليس مثل الفرس أو الترك أو اليهود، لديهم عقد نقص تجاه العربي (لسان قريش (آل البيت)) ولذلك هم بحاجة إلى واسطة ومحسوبية ورشوة لأنّه لم ولن ولا يفهم لكي يستطيع الحكم، في دول الإسلام على أرض الواقع،

  4. يقول S.S.Abdullah:

    والحمدلله أخيراً الإنتاج الفني الغربي، يعترف بعبقرية التفسير الإسلامي، في سبب عدم الخوف من الموت،

    من أجل كسر دائرة الظلم بقوانين (التأميم/السرقة) لتمويل الحرب الدينية، عند صاحب أي سلطة في أي مجتمع/دولة، في الإنتاج الجديد لفيلم روبن هود 2019، سبحان الله.??
    ??????

  5. يقول آصال أبسال:

    مقال في الجملة بنوعيها العالم والخطابي.. خلط عبثي بين الإسناد وبين أصل الإسناد.. وخلط عبثي آخر بين دور النحو في الكلام وبين مقتضى الحال.. يرجى من القارئ الذي يقرأ أخذ الحيطة والعلم.. !!

  6. يقول fattouma tayachi:

    لغة ظاهرها تمثيل وباطنه تمثل شكرا للاستاذ قريرة

إشترك في قائمتنا البريدية