تواجه الأديب الكثير من المعوقات التي تقف في طريقه ومنها، الهجوم المتعمد وغير المتعمد من الفئة الثقافية ذاتها كطريقة للملامة أو البحث عن السلبيات في هذا العمل أو ذاك. والسؤال، لماذا تزداد عملية الإقصاء وتعمد التهميش بين أدباء البلد الواحد، خاصة أن البعض يجد صدى طيبا لنتاجه في دول أخرى، لكنه في الواقع المحلّي يحمل الكثير من العيوب. ودائما هناك من يقلل من قيمة الأدب المحلي في هذه الدولة أو تلك، وأن هناك تراجعا في الوعي الأدبي وأن هناك إسفافا؟
أنانية وحسد
الناقد السوداني عزالدين ميرغني يقول، إن من أكبر المعضلات التي تواجه المبدعين والكتاب في العالم العربي هو معاداة وحسد زملائهم، خاصة الذين يزاملونهم في التخصص الثقافي والأدبي. المشكلة أن الواحد منهم يريد أن يتملك ويظهر في الساحة وحده، خاصة في وسائل الإعلام وفي نيل الجوائز. وليت الأمر يتوقّف عند الحسد القلبي الصامت، وإنما يتحوّل إلى فعلٍ يضرّ ويعاكس المبدع. ويوضح أن هنالك الكثير منهم قد حرموا من أن يقدموا للعالم، من خلال الملحقيات الثقافية العربية المنتشرة في العالم، التي لم تقدم خدمة لكتابها ومبدعيها، كما يفعل أهل الغرب، ولم نسمع بسفارةٍ عربيةٍ قدّمت دعوة لواحد من كتابها للحضور في البلد المضيف ليقدّم إبداعه ويرفع اسم بلده، عكس ما تفعل السفارات الغربية، بل إن النقاد في بلادنا العربية لم يقدموا كتابهم للآخرين، الذين هم في قائمة الترشيح للجوائز العالمية وينتظرون دراسة تقيم أعمالهم، وتشهر محاسنها، ناهيك من إحجام دور النشر في تقديم الأعمال الجيدة من كتاب مغمورين كان من الممكن بنشر أعمالهم أن يصيروا في القمة.
خلل قيمي وحب الذات
القاص والروائي العراقي حسن عبد الرزاق، يعتقد أنها عملية تقويض تستدعيها حالة التنافس الموجودة بين أدباء البيئة الواحدة، وأن هذه ظاهرة تاريخية سببها الجوهري حب الذات، وعدم تقبل تفوّق الآخر المنتمي إلى المنظومة الاجتماعية نفسها، خشية الإحساس بالخسارة إزاءه، بلا شك أن هذه الظاهرة تؤشّر لوجود خلل قيمي وأخلاقي لدى البعض ممن يمارس إشاعتها، إضافة إلى الفشل الإبداعي الذي يقودهم للبحث عن الخلاص من وطأة تأثيره النفسي، بالتقليل من أهمية إبداع القرين. ويرى عبد الرزاق، إن تسقّط الأخطاء والبحث عن الثغرات هو ديدن الذين يقرأون النصوص (بعين السخط) أولئك الذين ينسون إنهم جزءٌ من كلّ، وإن الذي سوف يشيع عن هذا الكلّ سينعكس عليهم أيضا في المحصلة النهائية. فالأمر يعتبر ممارسة مفهومة الدوافع مسبقا، ناهيك من جانبها النفسي، من ذوات غير قادرة على تخطّي ثقافتها الاجتماعية المتدنية، والارتقاء إلى درجةٍ من الوعي يجعلها بمستوى ما توصف به من إنها ذوات مثقفة.
الدونية الإبداعية
القاص والروائي العراقي إبراهيم سبتي، يرى أن الأديب إنسان ويشعر بكلّ ما يشعر به سواه، لكن صفة البغض التي يصرح بها البعض علانيةً وبوضوحٍ تنم عن وجود غيرة وتصغير وتهميش للآخر المبدع المثابر، حين يكون قد تجاوز بعض المحدّدات والقواعد البالية المثلومة، التي تقيّده للانطلاق والشهرة، فتتوجّه نحوه السهام المسمومة والعبارات المدسوسة الملغومة. ويضيف إنه الشعور الآخر بالتراجع والاندثار والشعور بالدونيّة الإبداعية، وعدم قراءة الواقع الثقافي الأدبي قراءة متأنية لأولئك الذين ينظرون للناجحين والعارفين بطرق تسويق نتاجهم، نظرة قاصرة وبطرف عين. ويعتقد سبتي أن خروج الأديب أو المثقف بمنجزه الإبداعي من حدوده إلى فضاءٍ أبعد، حالة تسعى إليها الذات المبدعة الناجحة، فتذهب إلى فضاءٍ أفضل خالٍ من العوائق والنظرات الصغيرة والقاصرة، يصفّق لها ويهلّل، بدون حواجز أو بغض أو كره. ويقول أيضا إن الحالة التي رأيناها مؤخّرا كانت أكثر صدامية وعنفا عندما كتب البعض بتصغير وعدم مبالاة تجاه منجز يحتفى به خارج الحدود، ولم يلق للأسف اهتماما داخل بلده، ولذا يعدها سبتي حالة التعبير عن الغيرة الأدبية الإبداعية، التي لا تريد رؤية الأرجح، وهو يحلّق في فضاءٍ آخر فتتلقفه الأقلام المتربّصة وتبخس حقّ منجزه وتهمشه، ويمضي بقوله إن الشهرة حقّ مشروع لكلّ إنسان مبدع وليس الأديب وحده، ولأن الشهرة تحتاج إلى طرقٍ ووسائل ومجهودٍ شخصي للارتقاء والتحول، فالأديب أو المثقّف الذي يرى في نفسه القدرة على الوصول فلا يحتاج وصية من أحد أو نصيحة، والأجدر بالمنتقدين أن يسارعوا لنهج الطرق ذاتها للوصول، لأنها ليست حكرًا على أحد، وأن يكفّوا عن التسقيط والتصغير لنتاج الآخرين.
ثقافة الشللية
الشاعر المصري أشرف قاسم، يرى أن الوسط الثقافي بشكلٍ عام قد تفشّت فيه ظواهر سيئة ألقت ظلالها على الناتج الثقافي، ومن أخطر هذه الظواهر السيئة «الشللية» ويوضّح أن الأديب إن لم ينتم لشلّة أو جماعةٍ من جماعات الوسط يكون من المغضوب عليهم، الذين يحاربون بكل طريقة، لأنه يغرد خارج السرب، وتزداد الحرب شراسة كلما تقدّم هذا الأديب خطوةً للأمام، وهذا أمر غريب على ثقافتنا، لم يكن موجودا مثلا في عصر طه حسين، فقد كان هناك بجانبه العقاد والمنفلوطي ويحيى حقي ومحمد حسين هيكل وغيرهم، وكان لكل منهم منجزه المميز عن سواه، ولم نسمع أن حارب بعضهم بعضا، بل كانت معاركهم كلها حول قضايا أدبية أو ثقافية مهمة، لا من أجل إزاحة الآخر .ويرى أن مقولة (مطرب الحب لا يطرب) فهي مقولة خادعة، فالمطرب الحقيقي يطرب في كل مكان وزمان، ولكن لا بد من وجود أذن نظيفة تستطيع تمييز الجيد من الرديء، بدون غرض، فالغرض مرض على عكس ما يحدث الآن بين أدباء البلد الواحد، فقد صار تصيد الأخطاء سمة عامة من أجل التقليل من شأن الآخر، حقدا أو حسدا، أو لأنه كما قلت يغرد خارج السرب ويرفض سياسة القطيع. لذا لابد أن يؤمن الأديب بنفسه أولًا، وبرسالته التي يود أن يصل بها للمتلقّي، بدون التوقّف طويلًا لدى عبارات المدح أو القدح، وليترك الحكم على تجربته للتاريخ وللقارئ .
تهديد السلام النفسي
الشاعرة المصرية رضا أحمد، تبدأ قولها بأنه منذ أيام توفي أحد الشعراء الفاعلين في المشهد الثقافي العربي، وأنها صُدمت أن أكثر الأصدقاء من بلده لم يتحدّثوا عنه حتى على سبيل أداء الواجب وتقديم العزاء، وأن أيّا من مظاهر الحزن المعلنة التي جعلت موقع الفيسبوك مثلا أشبه بسرداق عزاءٍ كبير من الجميع وتقول.. لقد تأكدت لي وقتها شكوكي والأسباب القاسية التي جعلت مبدعا له نتاج مهم ومشروع ثقافي جاد وتجربة ثرية مهمش ومنبوذ في وطنه، لدرجة عدم ذكر اسمه كمنتجٍ فاعلٍ في المشهد الثقافي الذي يتصدّره كتاب متواضعون وكتابات في غاية الرداءة. وترى أنه قد يصل التهميش لحرمان المبدع من حقه في تمثيل وطنه في المهرجانات الأدبية المختلفة وإنكار وجوده وإنجازه في حال فوزه بجائزة ما والتقليل منه في شكل ماسوشي، متمثل في رؤيتهم الضئيلة لأنفسهم أولا ولإنجازاتهم الأدبية. وتعطي مثالا بالأديب العالمي نجيب محفوظ من أنه عانى من كل هذه الطعون والإساءات، وإلى يومنا هذا من محبيه وكارهيه على حد سواء، كأن البعض لا يصدق أن مواطنًا مثله حصل على الجائزة لأنه يستحق وإبداعه على مستوى الذين فازوا بها من قبل في شكلٍ يهدّد السلام النفسي لكل طموح يسعى لكتابة أفضل، بالاشتغال على نفسه، وتطوير المنتج الإبداعي بشكلٍ مختلف عن السائد والمطروح والمفروض، وفق معايير ضيقة ومرضي عنه من كهنة المعبد القديم. وتقول أحمد إنه اذا كان أديبًا مثل نجيب محفوظ واجه كل هذه المعاناة، فهذا ما جعلني أصبر على ما ألاقي من تجريحٍ وتهميشٍ من أبناء جيلي، وبعض الذين حسبتهم أصدقاء وأنكروا حقّي، لأنه لا مصلحة معي ولا علاقات تساعدهم في الوصول إلى ما يريدون، قد يغلظون لك القطيعة مهما حقّقت من إنجازٍ، ولا يبادرون إلى تهنئتك بأحد الإصدارات، أو يذكرونك في ما يوزّعونه من ألقابٍ ومديحٍ في ما بينهم، على عكس بقية القراء من الدول الأخرى الذين يحتفون بك، لأنهم خارج حسابات شللية المشهد الثقافي، التي توزّع المنح والهبات والكتابات النقدية، وصالونات الاحتفاء المختلفة، أو لأنك لسوء الحظ من المغضوب عليهم من السلطة السياسية، الواجب تجنبهم، حتى لا يقع الآخرون في دائرتك المنبوذة نفسها ولا يحصلون على فتات الموائد بسببك.
٭ كاتب عراقي