بقيت فترتا الرئاسة المتاحتان لأي رئيس أمريكي، تقليداً أرساه الرئيس الأول جورج واشنطن، الذي لقي التزاماً من جميع الرؤساء الأمريكيين، حتى سنة 1940 التي شهدت استجابة الرئيس ثيودور روزفلت، الذي تولى قيادة الولايات المتحدة في ظروف صعبة، واستطاع أن يعبر بها محنة الكساد العظيم، من خلال برنامجه الواسع للإنفاق الحكومي والتشغيل.
ومع بداية الحرب العالمية الثانية كان الحزب الديمقراطي يبحث عن مرشح آخر لخلافة روزفلت، الذي شارفت فترته الرئاسية الثانية على الانتهاء، إلا أن الانتصارات الألمانية الجارفة، وتقدم الجيش النازي الخاطف على جميع الجهات، دفع الحلفاء السياسيين إلى حث الرئيس روزفلت على الترشح من جديد لمرة ثالثة، وتمكن الرئيس من الفوز بفترة الرئاسة الثالثة، ولحقها بفترة رئاسية رابعة سنة 1944 قبل وفاته بأشهر قليلة، ليصبح الرئيس الوحيد الذي بقي في البيت الأبيض لأكثر من دورتين رئاسيتين، ونظرياً لا يمكن تكرار هذه التجربة، لأن التعديل الدستوري 1951 حدد الفترات المتاحة لأي رئيس بفترتين، لا يمكنه الترشح بعدهما.
الدافعان الأساسيان اللذان وضعا الأمريكيين أمام اختيار ترشيح روزفلت لمرة ثالثة ورابعة، كانا دافعين حقيقيين، فبين إنجازاته الاقتصادية التي لا يمكن دحضها والتي انتشلت الحلم الأمريكي من الانهيار الكامل، أمام طوابير العاطلين والجوعى، والخطر المحدق من دول المحور في الحرب العالمية الثانية، الذي لم يمهل الأمريكيين كثيراً حتى ضربهم في بيرل هاربر، وأدخلهم إلى جميع جبهات الحرب.
يمكن للديمقراطية، حتى في ذروة نضجها، وبين مؤسساتها الراسخة، أن ترتب لبعض الاستثناءات، كما حدث في حالة روزفلت، والاستثناءات جرى العمل على توظيفها في المنطقة العربية إلى أقصى الحدود، ومع أنه لم توجد ديمقراطية حقيقية في المنطقة بأسرها، لأن عملية استدعاء أشباح الخطر الخارجي، وأوهام المنجزات الاقتصادية، بقيت تستخدم لإعاقتها وتأجيلها وتحويلها إلى رفاهية، وحتى لتخوين من يطالبون بالديمقراطية، وفي أفضل الأحوال اتهامهم بالسذاجة.
اعتمدت الأنظمة العربية على المنجزات الوهمية، لتصبح العامل الثاني لإخماد أي دعوة للديمقراطية ومداورة السلطة
تعطلت الديمقراطية لمرات ومرات، تحت مبرر وجود العدو الصهيوني، كما جرت العادة على تسميته في تلك المرحلة، وعاشت المجتمعات العربية، في دول الطوق، وغيرها من الدول، حالة من التعبئة المستمرة التي كانت تبرر وجود تجاوزات واستثناءات، فلا صوت يعلو على صوت المعركة، إلا أن المعركة أفضت إلى هزيمة بعد الأخرى، وفي كل مرة كانت حالة التعبئة تعود بنبرة أعلى، كما المقامر يزداد إصراراً واندفاعاً، كلما زادت خسارته وصولاً إلى الإفلاس الكامل، وإذا كان انتقاد حالة التعبئة قبل الهزيمة يعتبر تخاذلاً، فإن نقدها بعد وقوع الهزيمة يصبح خيانةً واضحة.
أتى مشروع السلام، وكل اجهاضاته ومشكلاته وتناقضاته، وأصبحت اسرائيل عدواً غير محتمل، ولذلك تدافعت الدول العربية لتبحث عن أعداء جدد، فظهرت إيران من جهة، ولما كانت إيران بعيدة عن بعض الدول، اصطنعت ليبيا مثلاً حرباً مع تشاد، وفي مرحلة لاحقة ظهرت العداوة مع الإرهاب لتصبح عائقاً عنيداً أمام جهود الديمقراطية، واستغلت الجزائر ومصر وسوريا صعود وتراجع الإسلام السياسي، لتصطنع عدواً غامضاً ومموهاً، ولم تجعله عائقاً أمام الديمقراطية والحريات وحسب، ولكن حولته إلى مبرر جاهز ومريح ومغر لتبرير القمع وكل التجاوزات الممكنة لحقوق الإنسان وسلامته وأمنه وحريته.
بعد أشباح الخطر الخارجي، اعتمدت الأنظمة العربية على المنجزات الوهمية، لتصبح العامل الثاني لإخماد أي دعوة للديمقراطية ومداورة السلطة، فكيف يمكن ترك المشروعات الكبرى والطموحة، التي ستنقل هذه الأمة إلى مقدمة العالم لمجرد تجربة وجوه جديدة في السلطة، وظهرت الأحاديث عن الصناعة الثقيلة، التي حولت مصر من دولة زراعية مهمة إلى مجرد اقتصاد يقوم على خدمات الترانزيت والسياحة، لفشل مشروع الصناعة، ويمكن القول بأن جزءاً كبيراً من ظاهرة العشوائيات في مصر، يعود لفشل مشروع التحول إلى الصناعة، وتفريغ الأرض الزراعية من الفلاحين، ليتحولوا إلى كتلة بشرية هائمة تحيط القاهرة بالفقر والعدوانية.
بعد الصناعة أتت المنجزات الكبرى في مجال الصواريخ وغزو الفضاء، وكلها لم تتجاوز مطلقاً مرحلة المانشيتات الساخنة في الصحف وبعض الاستعراضات، وعلى خطى مصر استكمل العراق مع صدام حسين الحديث عن منجزات تبين أنها لم تكن موجودة على أرض الواقع، وفقط تغيرت الأسماء، فأصبحت صواريخ الظاهر والقاهر المصرية تحمل تسمية العابد والحسين في العراق، مع أنها لم تكن سوى تنويعات متهافتة لصاروخ سكود الذي قدمه السوفييت. بالطبع وجدت أشباح الخطر وأوهام المنجزات، إعلاماً مستعداً للترويج والتطبيل وإطلاق الوعود للمؤيدين، والاتهامات لمن يشتبه في معارضتهم أو تشككهم، حيث أن ثبوت ذلك كان يمكن أن يدفع في حالات كثيرة لأن يتولى الذراع الأمني مهمة ترويضهم، أو تغييبهم، أو احتوائهم أو إقصائهم، فاعتراض المسيرة غير ممكن، وتعطيلها يرقى لمرتبة الجريمة، والقائد ليس شخصا عادياً، ولكنه ضرورة، خلاصة التقاء الرجل المناسب والمنتظر مع الموعد المناسب والحرج، والمنظومة بأكملها برسم حركة دائمة لا تتحمل التوقف لأي مراجعة أو تقييم أو تصحيح.
ربما استمرت الحرب العالمية الثانية لأشهر أخرى إذا لم تلحق الوفاة بروزفلت، فشخصيته لم تكن لتتخذ قراراً بقصف اليابان بالقنابل النووية، ولذلك ظهرت المؤسسة، وهي تدفع نائبه وخليفته، من دون انتخابات في فترته الأولى هاري ترومان إلى اتخاذ أحد أصعب القرارات في التاريخ، لينهي الحرب بهزيمة مذلة لليابان، ومن يومها لم يعد لدى الأمريكيين من يمكن أن يوصف بالقائد الضرورة، أو الرجل الاستثنائي، فعلى الرغم من التقدير الأمريكي لأدوار رؤساء مثل أيزنهاور وكينيدي وريغان وكلينتون، إلا أنهم مجرد وجوه تبقى وراءها مؤسسات أنضجتها تجارب الأخطار الحقيقية والمنجزات الملموسة.
كاتب أردني