المزاوجة بين ما هو «مدني» وما هو «شعبي» من أصعب الأمور في الانتفاضة. لبنان نموذجاً.
فـ»المدني» لا سبيل للإعراض عنه، ما دامت المعركة «أيضاً وكذلك» هي معركة تحقيق مواطنة، وانتزاع فضاءات عمومية، ودفاع عن الحريات العامة والخاصة، وانتساب إلى القيم المدائنية الكونية المعاصرة.
لكن الفاعلين الذين ينشدون إلى «المدنيّ» يميلون في نفس الوقت، ما أن يعطوا فرصة لذلك، إلى تحويله كاتم صوت موجّه من موقع الفقاعة التي تزيّن لنفسها أنّها تجسيد لـ«المدينة الكونية»، لـ«تهذيب» المدائن القائمة بالفعل، التي تتداخل فيها أنماط التريّف والتمدّن والترحّل.
ليست العلاقة بين «المدنيّ» و«الشعبيّ» سهلة. في لحظة يسمح فيها «المدنيّ» بتعطيل بعض فائض القوّة الميليشياوي، وفي برهة يستحيل أداة قمع «فوق ميليشياوية» ضدّ الحسّ الشعبي، وأداة قمع طبقية تخفف الضغط عن المصارف.
مصلحة «الشعبي» في جذب المدنيّ إليه، وجعله يتشرّب الحسّ الشعبي، بالفعل لا بالتهويم. بالتكامل بين الخطين السياسي والاجتماعي الاقتصادي للمواجهة، بالانتماء إلى «مدينة كونية» قوامها حركة الاحتجاجات والانتفاضات المعادية للرأسمالية وللاستبداد سواء بسواء، عبر العالم، وليس إلى «مدينة كونية» مجسّدة في حرم جامعة أو نخب «ناشطة».
ومصلحة «المدنيّ» على العكس من هذا، في ممارسة الفوقية على «الشعبي» ومسخه إلى فولكلور. كما لو كان «المدني» هو المستقبل و«الشعبي» هو الماضي، والحاضر حوض اجتماعهما، وامتطاء أحدهما للآخر.
«المدني»، حين يستقل بذاته عن «الشعبي» ويعمد إلى تهذيبه وإسكاته، يبرز مهارة استثنائية في حرف الأسئلة. فبدلاً من الانطلاق من انتاج اللبنانيين لشروط عيشهم يصير السؤال عن شروط انتاجهم لشروط وعيهم، وينحط الانهمام بالوعي سريعاً إلى دراما الانطباعات. وفي اللحظة نفسها التي تستبدّ فيها الأوليغارشية المصرفية، بفرعيها «العام» (المصرف المركزي) و«الخاص» (جمعية المصارف) وتستهتر بمقدرات المودعين، وتحبس أموال الناس عن الناس، يبرز فيها «المدنوي» طاقة لا محدودة للخروج عن الموضوع، كما لو أنه يلزم قبلاً، تحرير المواطنين من الطائفية، وتخليص الدولة من الفساد، حتى يصير بالإمكان تحصيل الناس لحرّ مالهم وتعبهم، ونيلهم رواتبهم ومواجهة عمليات تخفيضها، ناهيك عن قوافل الصرف التعسّفي الجارية على قدم وساق. كلّها تفاصيل «واهية» بالنسبة إلى «المدنيّ» المتحد بالانتفاضة اتحاد العاشق بالمعشوق عند الصوفية. هذا بالضدّ مما يفترض أنه الحس الشعبي. فالحس الشعبي لا يخوض في الانتفاضة إلا أنّه لم يجد سبيلا آخر للدفاع عن الوجود، لكنه حين يخوضها فهو يفعل ذلك بجديّة، بجديّة من يعلم بأنّها مواجهة بين خيارين، فإما أن تدفع الطبقة السائدة فاتورة الكارثة بالدرجة الأولى، وإما أن تدفعها الطبقات الشعبية بالدرجة الأولى. ليس هناك «تجاوزية مدنوية» لهذه المعادلة الحادّة، من موقع الحسّ الشعبي. أما بالنسبة إلى «اللاحس المدني»، فهذه أمور عارضة، يتكفّل بحلّها الإبداع الانتفاضي نفسها، بمجرّد أن يحافظ على الاحتفال بهذا الإبداع على طول الخط كما لو أنّه إله جديد يولد، ولا تهمّ القرابين.
واذا اضطر «المدنيّ» للكلام في الطبقات مثلاً، ستجدها عنده بثلاثية الأثرياء، والطبقة الوسطى، والفقراء. بهذا الرسم. بهذا الابتعاد الفلكي عن كل مقال الماركسية. والطبقة الوسطى هي ما يناجيه هذا المدني ليل نهار، يخاف عليها من الانهيار إلى الأسفل، إلى الحضيض، كما لو كان هذا الحضيض هو «الرسيكل بين» على حاسوبه لا يهمّ من فيه. ويتناسب ذلك، للمفارقة، مع من يطعن في الانتفاضة، من موقع الالتزام بالمنظومة الإقليمية الممانعاتية، التخوينية بالضرورة لأي «ثورة ملوّنة». فعند الأخير أن كل الانتفاضة هي ما يحدّثه المدنيّ عنها، أي أنها حراك الطبقة الوسطى، المعادي للفقراء أكثر من معاداته للرأسمالية.
في اللحظة التي تستبدّ فيها الأوليغارشية المصرفية، بفرعيها «العام» (المصرف المركزي) و«الخاص» (جمعية المصارف) وتستهتر بمقدرات المودعين، وتحبس أموال الناس عن الناس، يبرز فيها «المدنوي» طاقة لا محدودة للخروج عن الموضوع
في الحالتين، يقال للناس أنتم لست بكادحين ما دمتم لستم بؤساء. في الحالتين، يقال لهم بأنه حتى ولو بعتم قوط عملكم، وقضمت المصارف ثلاثة معاشاتكم تحصيلاً لأقساط القروض عند فاتحة كل شهر، ولم يبق لكم الكثير لدفع أتاوات التعليم والطبابة والخدمات، إلا أنكم «طبقة وسطى»، طبقة ينبغي أن تناضل كي لا تهبط إلى «الأسفل» (بالنسبة لـ«المدنيين») وينبغي الحذر منها حرصاً على الفقراء الذين يفوّضون أمرهم إلى «المقاومة» وهي تعرف كي تتدبّر الأمر في تقاسمها السلطة مع الأوليغارشية (بالنسبة إلى اليساري الممانع). بالضد من هذين المنطقين، يحضر شرط إمكان الخط الشعبي التحرري في الانتفاضة: بالتشديد على أن كل من يبيع قوة عمله، ودخله الأساسي يأتيه أو يتوخاه من بيع قوة العمل، فإنه جزء من بروليتاريا بشكل أو بآخر، كخاصة عندما يكون غير معتق بسبب الديون الخاصة، وفوقها حصته من الدين العام. هو برجوازي صغير أيضاً، من حيث هو متملك لعقار مرهون للمصرف يدفع أقساطه طول عمره، لكنه في نشاطه ووضعه الأساسيين يبقى بروليتاريا. بروليتاريا هجيناً.
هذا «الوضع البروليتاري الهجين» للعدد الأكبر من الناس في بلد مثل لبنان هو ما يتلاقى كل من «مدنوي» الانتفاضة ويساري الممانعة المتأفف منها (بحجة «مديونيتها) على إنكاره. مرة باسم طبقة وسطى عليها أن تعيش الانتفاضة عرساً كي لا تسقط في «رسيكل بين» الفقراء، ومرة باسم الفقراء الذين لا صديق لهم سوى «المقاومة».
في تاريخ الفكر اليساري اللبناني والعربي، لم يفهم أحد هذه الإشكالية قدر مهدي عامل، «في نمط الإنتاج الكولونيالي» (1972). لقد نبّه إلى أن التفارق الطبقي الواضح بين الطبقة العاملة وغيرها من الطبقات الاجتماعية الخاضعة لسيطرة البرجوازية في الحواضر الإمبريالية للرأسمالية «لا نجده في اطار علاقات الانتاج الكولونيالية، بل نجد هنا تفارقا «نسبيا» يتحرك دوما في اطار «نسبته» تظل فيه حركته ملجومة بين الطبقة العاملة وبين غيرها من الفئات الاجتماعية الخاضعة لسيطرة البرجوازية الكولونيالية المسيطرة. إن البنية الاجتماعية الكولونيالية هي التي تلجم حركة التفارق الطبقي هذه».
البنية الكولونيالية محكومة باللاتفارق الطبقي بين الطبقات الشعبية إذاً، أي في أقل تقدير بغياب حدود واضحة بين ما هو «طبقة عاملة» وبين ما هو فلاحين أو برجوازية صغيرة. لا يعني أن هذه الطبقات غير موجودة، لكنها غير متفارقة طبقياً فيما بينها، أي أنّها متداخلة حتى النخاع.
هكذا كتب مهدي عامل في نفس السياق: «ان الفارق بين الفلاح والعامل في لبنان مثلا، يصعب جداً تحديده، وجوداً ووعياً». وشرح: «نرى العامل يرجع الى قريته كلما سنحت له الفرصة، في الأعياد والعطل والمأتم. بل ويبني له فيها مركزاً ثابتاً هو أقوى من مركز وجوده في المدينة، الى أن يشده نهائياً حنين الأرض التي تغرّب عنها، فيطلب دفنه في قريته، في مسكن الأجداد. فالعامل إذن فلاح فشل في عملية تحويله الاجتماعي الى عامل، لأن البنية الاجتماعية، كبنية كولونيالية، لا تسمح اطلاقاً بتحقيق عملية هذا التحويل الاجتماعي، لاستحالة وجود الحلقة الصناعية فيها».
نصف قرن يفصلنا بطبيعة الحال عن هذا الكلام، تغيرت فيه أشياء كثيرة، يبقى أن البنية الاجتماعية اللبنانية لم تنقض فيه بعد راهنية ما ذهب اليه مهدي بأن «حرية التنقل الطبقي هي ميزة أساسية في علاقات الإنتاج الكولونيالية، وربما وجدنا العامل في نفس الوقت فلاحاً وعاملاً وبائعاً أيضاً لبعض السلع الاستهلاكية في أوقات فراغه، أي برجوازياً صغيراً».
هذا التداخل بين الطبقات الشعبية، وبالأخص بين الطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة والفلاحين، هو في نفس الوقت نعمة ونقمة. لأن «اللاتفارق الطبقي» يؤمن فرصة لـ«الخطاب المدني» بأن لا يرى الطبقات، الا من ضمن ثلاثية «أغنياء، متوسطو حال، فقراء»، بحيث تغذية الأوهام الطبقية لـ«الوسطيين»، ويؤمن فرصة لـ«الممانعة» بأن لا ترى سمة الكدح عند أكثر المنتفضين، بحجة أنّهم لا يشبهون «البؤساء المثاليين». لكن هذا الواقع يؤمّن أيضاً فرصة للخط الشعبي التحرري إذا ما تصالح مع كون العدد الأكبر من الناس في أوضاع لبنان «بروليتاريا لكن هجينة في نفس الوقت». التصالح مع واقع هو بالضرورة متوتر.
كاتب لبناني