شوبنهاور وإرادة السلطة

معظم الفلاسفة ذهبوا للبحث في الأنظمة السياسية وتشكلاتها، تبعاً لسياقات محددة، فبين نزعة الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز لتأييد الحكومة المطلقة، ونزعة سبينوزا لتأييد النظم الديمقراطية، ثمة بون شاسع بين التوجهين، غير أن ما يسترعي الانتباه ذاك التحليل المعمّق من قبل الفيلسوف الألماني شوبنهاور في ما يتعلق بالرغبة والإرادة، حيث يمكن أن نختبر من خلاله فهم نموذج التفكير السلطوي، إذ تمكن هذا الفيلسوف من سبر أغوار الإنسان، واكتشاف ما بداخله من إرادة السلطة؛ ما ينتج نوعاً من التعارض بين هذه الرغبة، وكل ما يخالفها.
إن قراءة في أحوال المجتمعات العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار، أو في مرحلة الاستقلال، يحمل الكثير مما يمكن أن نعدّه وصفاً لعالم عميق من التكريس لنموذج النفي للمختلف، وقمع كل ما يمكن أن يؤدّي إلى نموذج عادل. هذا المخاض الذي يختبره العالم العربي لا يمكن أن يؤرّخ مع انطلاق شرارة الربيع العربي، إنما هو ممتد من لحظة جلاء الاستعمار إلى يومنا هذا، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ، ثمة الكثير من التأملات التي تشي بأسباب هذا الإصرار على تبني الديكتاتورية، أو السلطة المطلقة.
إن ما نشهده الآن في قطاعات كثيرة من العالم العربي (دول الربيع العربي) يحمل معه وعياً لا يمكن أن نصفه إلا بأنه حلقة من حلقات التطور الحتمي للتخلص من النظم الديكتاتورية، على الرغم من عمق تأصلّها في وعي الإنسان العربي وثقافته، بوصفها قدراً لا يمكن الانفكاك منه، نتيجة سيطرة العقلية الحاكمة التي تسوغ وجودها تبعاً لعوامل؛ تنهض على استغلال ما يوجد لدى البعض من نزعة لتبني بعض الأيديولوجيات، أو النظم العصبية، أو أي وسيلة تستغلها السلطة لتمكين وجودها، ومن ذلك ابتكار الخوف من المجهول الخارجي، أو الاضطراب الداخلي، وهي أدوات تتيح للسلطة البقاء لأطول وقت ممكن. وهذا ربما يدفعا إلى تحليل تأمل سلوك السلطة المطلقة، أو دواخلها النفسية من منظور تأصل هذه النزعة القائمة على الرغبة الجائعة لدى الديكتاتور، قياسا بآراء شوبنهاور في ما يتعلق بالرغبة.
وهنا يبدو السّؤال الأكثر إثارة للجدل، لماذا يصرّ الديكتاتور على البقاء في السلطة، مع الرغبة بنفي الجميع من أجل أن يستمر في ممارسة وجوده؟ مع أن التاريخ ينقل لنا حتمية زوال الديكتاتور مهما طال وجوده… غير أن عقله الباطن يتجاهل هذه الحقيقة المطلقة، كما ثمة نوع من الإنكار العميق لدى هذا الديكتاتور، بحيث يكون منفصلا ًعن الواقع ليرى في وجوده جزءاً من كيان وجود أمة ما؟ وبأنه لا يمكن أن تستمر هذه الأمة إلا بوجوده، وبذلك فقد أضحى الأمر وجودياً بالنسبة إليه. ولعل هذا يفسر بداعي الرغبــــة العميقة القائمة على البقـــاء، على الرغم من كل المخاطر، والكلفة العالية، إذ يضطر الديكتاتور من أجل السلطة للتضحية بنصف شعبه، حيث يقتنع بأن وجـــوده أهم من وجود الشـــعب، وعلى الشعب أن يرحل، أو أن يباد كي يبقى.
هذا الأمر يعيدنا مرة أخرى إلى تحليل شوبنهاور الشّديد التبصر في ما يتعلق بفهم نزعة الإرادة التي تتولد عن الرغبة في السلطة، ففيلسوف التشاؤم يبدو في هذا التوجه على قدر كبير من الذكاء، حيث استطاع فهم الطبيعة البشرية العميقة التي تتعلق بالأشياء، بما فيها السلطة، من منطلق الرغبة التي لا يمكن أن تنتهي، أو تنضب.

يرى شوبنهاور أن الإرادة ما هي إلا الرغبة، وعند إشباع رغبة ما، فإن ثمة رغبات أخرى تبقى قائمة، أو أنها تتولد، وبذلك فإن رغبة السلطة لانهائية، فهي تشبه كافة الرغبات التي تسيطر على الإنسان، بوصفها سببا ً للحياة

يرى شوبنهاور أن الإرادة ما هي إلا الرغبة، وعند إشباع رغبة ما، فإن ثمة رغبات أخرى تبقى قائمة، أو أنها تتولد، وبذلك فإن رغبة السلطة لانهائية، فهي تشبه كافة الرغبات التي تسيطر على الإنسان، بوصفها سببا ً للحياة، بما في ذلك رغبة الحكم، فالإرادة الديكتاتورية – إن صح هذا التعبير- تنطلق من ذلك العماء الذي يتجاهل كل ما هو حوله، فشوبنهاور يرى أننا لا نريد شيئاً إذا وجدنا أسباباً له، ولكننا نبحث عن أسباب له لأننا نريده، وبهذا ينتفي العقل، وتصبح الرغبة هي المسيطرة، وهكذا نرى بكل وضوح، كيف يمكن لديكتاتور أن يحطم وجود أمة ما؛ لا لشيء إلا لأنه يعتقد أن وجوده ينتمي إلى أسباب معقولة، أو موجبة؟ لقد أصبح الديكتاتور غير متصل بالعقل، إنما بالرغبة التي تجعله يخوض حروباً أو يعتقل معارضيه، أو يتحالف مع الشيطان للمحافظة على البقاء الذاتي، فالمنطق العقلاني – في هذا السياق – يصبح غير فاعل؛ لأننا مهما حاولنا إقناع الديكتاتور بخطأ سلوكه فإنه لا يستجيب، ومن هنا تنشأ قيم التدمير، التي يمكن أن تقضي على كل شيء من أجل ذات تحكمها الرغبة، أو إرادة البقاء في السلطة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه قيم (التدمير الذاتي) الذي تمارسه السلطة قبل رحيلها، حيث تسعى لتدمير كل شيء.
يرى شوبنهاور أن الإنسان في طبعه محكوم برغبته في البقاء، وهو غالباً ما يتناسى هزائمه، وينظر إلى مكاسبه أو انتصاراته، وهذا يتصل برغبته في البقاء، وتوفير كافة السّبل التي تجعله على اقتناع بأن وجوده مبرر، ومن هنا يسارع الديكتاتور إلى سرد كافة تفاصيل ما أنجزه من إنجازات وهمية، على الرغم من أنه أفسد أكثر مما أصلح، وعليه فإنه لا يرى الأمور إلا من وجهة نظر واحدة، ونقصد بها الإرادة (الرغبة) المحكومة بذاتها، وهي ما يطلق عليها شوبنهاور إرادة الحياة – على الرغم من الاختلاف في تفسير (الحياة) – التي تصبح جزءاً بنيوياً من وجود الديكتاتور، فهذه الصّورة من الحياة لا تعني نموذجا معاشاً أو طبيعياً، إنما تعني الحياة في السلطة، وبذلك فهو لا يمكن أن يتخيل نفسه خارج السلطة، ولا سيما بعد أن يكون قد استحوذ عليها.
ثمة إشكالية عميقة تتصل بقيم التعليم التي تنشأ عليها الأجيال، كونها تقوم على ثقافة منتشرة، بأن وجود السلطة أزلي، وبأن الآخر ينبغي أن يكون خاضعاً، وألا يتمكن من سلب هذه الأفضلية، مع رفض الإيمان بتداولها، وبذلك لن نتمكن من الوصول إلى نموذج الحرية والديمقراطية الحقّة، ما لم ننزع عنها الرغبة بالتفوق، ونفي الآخر، وهي ثقافة مجتمعية غالباً ما تنشأ في المجتمعات التي تنهض على تكريس سلطة القيم العسكرية أو العصبية، أو في المجتمعات التي لم تتمكن من تطوير نظم حضارية مدنية، مع أن ثمة الكثير من الدول ذات القدرات أو النزعات العسكرية، غير أنها غالباً ما تخضع هذه المنظومة العسكرية لمنظور مدني مؤسسي صارم، ينهض على فلسفة الدولة المدنية، ولهذا يجب أن تُغذّى المؤسسة العسكرية على احترام النموذج المدني. يرى البعض أن هذه الرغبة (المدمرة) ربما تتسلل إلى بعض الأنظمة الديمقراطية لتجلب بعض الحمقى إلى الحكم، ولعل هذا ما دفع سبينوزا إلى القول بضرورة منع هؤلاء الحمقى، وغير المتعلمين من الوصول إلى السلطة – على الرغم مما يحمله هذا الرأي من تناقض- غير أن البناء المؤسسي للدولة يحول دون وجود سلطة مطلقة، يتحكم بها الطرف (المشّوه) الذي وصل عن الديمقراطية، وهنا تختلق وسائل منع التفرد في الحكم، وبذلك نذهب إلى أن النموذج الأنسب يتمثل بالتفكير الحضاري القائم على نفي الذات من أن تكون مصدر كل شيء؛ بعبارة أخرى محاربة ثقافة (الاستحواذ) التي تعمقت في العقلية، التي خرجت من رحم الاستعمار، كون الأخير هو المسؤول عن إيجاد هذه النماذج؛ إذ كان على الدوام محكوماً بالحاجة للتعامل مع تابع، أو ما يمكن أن نطلق عليه «وكلاء الاستعمار» الذين يكفلون بقاء الهيمنة. وكم تبدو عبارات شوبنهاور شديدة الصدق في التعبير عن الكثير من قيمنا التي يبدو فيها العقل في مجال من الضيق، كون إرادة السلطة، والتعطش لها لا تتعب، فالعقل يتعب، بيد أن الإرادة لا تتعب، كما يقول شوبنهاور.
وفي الختام ربما يكون العالم كله شر، وربما لن يتوقف الشر، لأننا مسكونون بمخاوفنا وهواجسنا من الآخر، وعندما يأتي الديكتاتور فإنه يأتي محمولاً على أكتاف الشر، فيخشى الرحيل لاعتقاده بأن وجوده بات محكوما بالنهاية، ومن هنا، فهو يسعى للبقاء إلى النهاية، فالرغبة تعيش على ذاتها، وهي جائعة دوماً؛ ما يعني أننا أمام معضلة تحتاج إلى تكريس أنماط ثقافية، تبدأ من التعليم للتخلص من نير مفاهيم السلطة المطلقة، أو وعي الديكتاتور، ولكن كل حركة في هذا الاتجاه لا بد لها من ثمن باهظ.

٭ كاتب أردني فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إبراهيم بومسهولي - المغرب:

    هذا مقال مفيد جدا ويعرض بدقة لنظرية الإرادة لدى شوبنهاور. ولكن هناك شيء غريب جدا في طيات المقال، مرتبط ربما بالفيلسوف ذاته وليس بالمقال. فأساس فلسفة شوبنهاور هو التشاؤم المطلق، لأن الحياة بالنسبة إليه تتأرجح، على شكل البندول، ما بين السأم والألم. ومهما حقق الإنسان في حياته فلن ينج من هذين القطبين، وبالتالي لا أمل ! بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما لعن الحب لأنه هو ما يؤمن إستمرار الجنس البشري،وما الحب سوى الرغبة الغريزية في إستمرارية الجنس البشري. أعتقد أنه من الصعب التنظير ضد الديكتاتور إستنادا على فيلسوف يعرف الحياة بوصفها صراعا أبديا بين الذوات، تمليه الإرادة، وهذا الصراع “الوجودي” حسب تعبيره هو الذي يؤدي إلى الألم يتبعه السأم ، وهي أساسا حياة لا تغري كثيرا حسب الفيلسوف ! زد على ذلك أنه هو شخصيا، ومن بعده نيتشه، ينفر من النظام الديموقراطي الذي يسوي بين الأرستقراطية والدهماء !

  2. يقول العلمي. المانيا:

    مقال رائع
    و لكم في القذافي و في بشار خير مثال
    لكن أخاف و نحن نرى كيف بدأت الساحة تخلو للشعبويين أمثال ترامب و أوربان و سلفين من صوت الناخب مهما تدنى مستواه المعرفي على الديموقراطية
    و لقد أثبث التاريخ ذلك منذ إعدام سقراط

إشترك في قائمتنا البريدية