رواية العراقي عوّاد علي “وردة الأنموروك”: من رسولة عشاق الأرمن إلى راعية أرواح ضحاياهم

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

تنويهُ الروائي العراقي عوّاد علي، في تقديم روايته “وردة الأنمورك ـــ سنة الأرمن”، لم يأتِ عبثاً ومعاكساً لما يتمّ به تخطّي بعضَ عوائق الروايات التاريخية: “أيّ تشابه بين شخصيات الرواية وشخصياتٍ حقيقية مقصود”. فعوّاد علي الروائيُّ هو قبل ذلك ناقدٌ مختص، ويَعرفُ على أيّ صراطٍ خطرٍ يضع هذا التنويه شخصياتِه في الرواية، كما يُدرك سعة حجم مرايا التحدّي التي يضعها أمام شخصياتٍ تتحرّك في ممرّات “الرواية التاريخية” المليئة بفخاخ منع التوثيق من الوصول إلى فساحة أرض فن الرواية. ويدرك، كذلك، حجم التوثيق التاريخي الهائل لحقائق موضوع روايته، وهي حقائق لم تترك منفذاً للخيال بهولها الذي يفوق الخيال، حول ما جرى للأرمن من مجازر على أيدي العثمانيين الاتحاديين عام 1915 المعروف بسنة الأرمن، كما تذكر الرواية نفسها:

” في برج حمود سمعت من بعض الرجال الذين نجوا من المذابح، أن الجندرمة مارسوا أساليب وحشية في قهر الأرمن وتعذيبهم وقتلهم: السحل، والحرق، والنحر، والشنق، والسلخ، والخوزقة، والرمي من فوق القلاع، والإعدام بالرصاص، وتكسير الرؤوس، ودفن الأحياء في مقابر جماعية، وغير ذلك مما لا يخطر بالبال. إلى جانب اغتصاب النساء والفتيات، وبيع الصبايا والأطفال، وطمس كل ماله صلة بالأرمن مثل المعالم والآثار الثقافية، وتغيير أسماء المدن، ونسف النصب التذكارية بالمدافع والديناميت، وتحويل الكنائس إلى مساجد وسجون ومخازن وحظائر”.

أمام تحديات ارتقاء التوثيق إلى الرواية، لجأ عوّاد علي إلى ابتكار بنية روائية مشوّقة، تشبه ما ابتكر أنطونيو غالا في روايته المذهلة “المخطوط القرمزي”، لكن بخصوصية رواية بطلته نفسها لوسين صاحبة المذكرات عن ألم ضياع مذكراتها، وصُدَفِ العثور عليها، وجهودِ تنسيقها، في الفصل الأول من الرواية. ثمّ عرض حياتها في مخطوط هذه المذكرات، قبل وبعد وخلال مسيرة الإبعاد المهولة بعد هذا ضمن خمسٍ وثلاثين فصلاً بأرقام، يقطع الفصلَ السادس عشر منها في منتصف الرواية، سردُ صديقتها مريم عن هربها من قافلة المبعدين الأرمن بواسطة رقيب عثماني رشته أمها فأنزلها في نصيبين، ليرعاها إمام مسجد ويتبناها زوجان كلدانيان ويتزوجها بعد ذلك إلياس.

وينتهي الفصل السابع عشر منها بسرد كلاديس أم مريم حكاية عرض العثمانيين لما تبقى من قافلتها للبيع في مدينة دير الزور السورية، واحتضان ورعاية أهالي هذه المدينة لهم، مع إنهاء الفصلين الثامن عشر والتاسع عشر بحاشيتين يسردهما أرمين زوج لوسين، عن تدمير الاتحاديين لكل ماله علاقة بالأرمن. وكذلك عن قصة حياته في الإبعاد إلى بيروت ومن بعدها القدس فالعراق، يتخللها ما جرى لعائلته وللأرمن المبعدين من إبادة، ومن صعوبات عيش وإصرار على الحياة بالأمل والعمل.

ولدفع روايته ارتقاءً من التوثيق إلى إبداع فن الرواية الحديثة، أضاف عوّاد علي إلى هذه البنية المنسابة المتداخلة ببساطة، عوامل كسر ومداخلات التسلسل الزمني للسّرد في جريان الفصول:

ـــ رجوعاً لحياة ساردة المذكرات لوسين، قبل مسيرة الإبادة، طفلةً تلهو، وصبيةً تحبّ في أجواء تعايش سلمي لسكان بلدتها سيفان، المختلفي الأديان والقوميات.

ـــ وتقدماً لحياتها بعد مسيرة الإبادة، صبيةً مهددةً بالاغتصاب والموت، وشابّةً تجد الرعاية من أهل المناطق التي مرّت وعاشت بها، عرباً وأكراداً وكلداناً وبشراً توحدت مآسيهم تحت نير استبداد الدولة العثمانية ومتعصبيها من الاتحاديين الطورانيين.

ـــ وسرداً على لسانها، لمسيرة الإبادة التي شهدت فيها موت أخيها أمامها تحطيماً لرأسه بهراوة، وموت أبيها أمامها بطلقة في رقبته، واختطاف أختها الصغيرة للبيع قسراً من بين يديها المتشبثتين بها، ورميها من على الجسر إلى النهر كشوال لا قيمة إنسانية له، من قبل الجندرمة العثمانيين.

على دروب هذه المسيرة، التي تشبّهها بدرب آلام السيد المسيح، تعرف أنها أكثر من ذلك، حيث: “يمكن الظن أن تلك الضفادع كانت تهزأ بمئات البشر المزدرى بهم، الذين ساقهم الدهر إلى تلك البرية المنعزلة، وهم في درب الآلام، التي لم يكن بإمكان أي شخص أن يعرف بالضبط إلى أين ستفضي بهم، وإن كان يلوح في الأفق أنها ستنتهي إلى عذاب قاسٍ، مثلما انتهت الدرب التي سار فيها يسوع منذ لحظة الحكم عليه وحتى صلبه وإعدامه، مع أن كلمة عذاب ليست في الحقيقة هي الكلمة الأكثر ملاءمة لوصف ما لقيه هؤلاء المنفيون من أهوال في تلك الدرب، أهوال أقل ما كشفت عنه أن الرحمة والمحبة والعدل والضمير محض كلمات فارغة”.

في بناء شخصياته الأساسية التي تحتل عائلة لوسين ومن ارتبط بها الجزء الأكبر منها، سمح عواّد علي، كما يبدو بنجاحٍ، أن يلعب الخيال دوره في بلورتها، وتطوّرها خلال جريان أحداث الرواية المرعبة التي تبعث على تغيّر الشخصيات، وإنْ ببعض إشكالات تثير الاختلاف. مثلاً، حول تغليب حوارات الأسئلة والأجوبة التي تبدو متقصدة لإدخال المواقف على السّرد، في مواضع تتطلب الغوص عميقاً فيما يعتري الشخصية من خلال السّرد، كما في أسئلة لوسين للصياد حول ما إذا كانت مهنة صيد السمك ممتعة، وحوارها مع زوجته بعد ذلك حول اختلاف الأديان في الموقف من الخنزير، مباشرةً بعد هول قتل أخيها وأبيها وانتزاع أختها منها ورميها في النهر ونجاتها على يد الصياد، بما يفترض الخرس.

كما أدخل عواد علي بنجاحٍ أسماء وشذراتٍ من شخصياتٍ تسند التوثيق دون أن تؤثر على فنية الرواية، مثل اسم السفير الأمريكي في السلطنة العثمانية هنري مورغنتاو، الذي قدم تقريراً يكشف عن فظائع ارتكابات الاتحاديين بالأرمن، ومثل شخصيتيْ متصرف لواء دير الزور علي سواد بك، ورئيس بلديتها الحاج فاضل العبود اللذين مثّلا أهالي دير الزور في استقبال المبعدين الأرمن بكرم ضيافة إنساني قلّ نظيره، حسب رواية الشاهدة كلاديس. ويتبلور نجاح هذا الإدخال في ارتباطه بفتح الرواية المتألّق انطلاقاً مما فجّر ذكريات الإبادة لدى لوسين، في كنيسة شهداء الأرمن التي افتتحها بقداسه “كاثوليكوس عموم الأرمن لبيت كيليكيا” في دير الزور شتاء عام 1991.

وقد نجح عواّد علي كذلك في ارتقائه بروايته على حدّ سيف خطورة إدخال المواقف، بإدخال شخصية الرجل الخمسيني هاكوب كاسبيان، الذي سار مع عائلة لوسين على درب الآلام، واختلف مع أبيها الكاهن، مبلوراً اختلافات المواقف بين من يعتقد الإنسانية ومن يعتقد الدين. وهو موقف يتجلى أيضاً في إدانة هذه الشخصية العلمانية مباركةَ رجال الدين، بذريعة تبرير التبشير، خطفَ الأفارقة واستعبادهم وتعميدهم مسيحيين قبل شحنهم في سفن العبودية إلى أمريكا، وفي مقارنته لما يفعل الاتحاديون بالأرمن. وهو أمرٌ يذكّر وللأسف بالمواقف المؤيّدة من بعض متشدّدي الطاشناق، الذين عانى أسلافهم من الإبادة، لحزب الله والنظام السوري ونظام ولاية الفقيه ونظام بوتين، في إبادتهم السوريينَ بمجزرتهم الجارية المفتوحة التي تفوق ما جرى من إبادات للأرمن.

وختاماً، في ارتقاء التوثيق إلى إبداع الرواية، تبرز مهيمنةً على القارئ روح الحب التي تبثّها لوسين، بلقبها الذي أسبغه عليها حبيبها أرشاك عندما أهداها لها، وبتفتّتها عندما شهدت مقتله أمامها، وبانبعاثها رسولة عشاقٍ وإصرار على الحب والحياة، بالقدر الذي تنبعث فيه ناعية ضحايا، ورمزاً يذكر بضرورة إدانة الإبادة كي لا تتكرر. إنها وردة الأنموروك، البنفسجية التويجات، وردة عشاق الأرمن، التي تظل ساريةً بعطرها في مسحها للرواية من بدايتها إلى نهايتها المفتوحة، فواحةً مرفرفة بتويجاتها الفراشية البنفسجية مع نسائم أغنية شجن صبايا الأرمن:

“تطير الفراشات الصغيرات في حريةٍ متناهية

تنتقل من حقل إلى آخر بأجنحة من حرير

بينما نحن الفراشات الأرمنيات مجلّلات بثياب الحداد

أعماقنا حزينة

مترعة بالعذابات

تعصف بنا ريح نكباء

وليس في مقدورنا أن نطير”.

تبقى إشارة على أن عواّد علي ناقد وروائي عراقي. حاصل على ماجستير في المسرح من جامعة بغداد 1990، يقيم حالياً في العاصمة الأردنية عمّان. صدرت له، قبل “وردة الأنموروك”، روايتا “حليب المارينز”، 2008؛ و”حماقة ماركيز”، 2014؛ والعديد من الكتب النقدية، بينها في المسرح “المألوف واللا مألوف في المسرح العراقي”، 1988؛ “شفرات الجسد – جدلية الحضور والغياب في المسرح”، 1996؛ “غواية المتخيل المسرحي”، 1997؛ المعرفة والعقاب – قراءات في الخطاب المسرحي العربي”، 2001؛ “الحضور المرئي: المسرح من التحريم إلى ما بعد الحداثة”، 2008؛ “المسرح واستراتيجية التلقي”، 2008. كما صدرت له، بالاشتراك مع آخرين، “دراسات في الرواية العربية”، 1998؛ و”التجنيس وبلاغة الصورة”، 2007.

عواد علي: “وردة الأنموروك ـ سنة الأرمن”
الأهلية للنشر، عمَّان 2019
175
صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية