منذ أيام طرحت تساؤلا للأصدقاء في فيسبوك، عن جدوى ما يسمى بالأعمال الكاملة لمبدع ما، والتي تعني تجميع أعماله كلها، في مجلدات تتراوح في الحجم والعدد حسب منجزه، وطرح تلك المجلدات على القراء. قلت هل هذا مهم فعلا، وإيجابيا، أم ماذا؟
كانت الآراء التي تصدت للتساؤل كثيرة، وهذا جانب إيجابي من جوانب منصات التواصل الاجتماعي، أن هناك بالفعل مواضيع يمكن أن تناقش بجدية بعيدا عن ما يعرف باللايك، أو علامة الإعجاب التي يركض خلفها كثيرون من دون أن ينشروا ما يثير الإعجاب.
تلك الآراء كانت متباينة، فهناك من يؤيد الفكرة، ويعتبرها جزءا من إنجاز الكاتب، أن يسعى لجعل أعماله كلها تتوفر في مجلدات محصورة، وبالتالي يسهل العثور عليها عند الطلب. أيضا ذلك يسهل دراستها للذين يودون الدراسة من طلاب أو أكاديميين، إضافة إلى أن المجلدات عادة تحمل غلافا صلدا، يصعب أن يتمزق، وبذلك يمكن الاحتفاظ بالأعمال في مجلدها من دون أي تأثر بالزمن.
الذين رفضوا الفكرة، رفضوها لكونها مكلفة في الطباعة، وبالتالي غالية الثمن، وفي الوقت نفسه بعيدة عن طقس التغيير الذي يحبه القراء دائما، أي أنهم يقرأون لكاتب معين عملا، ويذهبون لكاتب آخر أو كتاب آخرين، قبل أن يعودوا للكاتب الأول، في عمل آخر. إنها نزعة تحبها القراءة فعلا، وكلنا لا نستطيع أن نستمر في مطالعة أسلوب واحد لأشهر، ننتهي من نص، ونبدأ آخر مجاورا في المجلد نفسه. والحقيقة قد يكون القارئ يملك أعمال كاتب ما كلها، في مكتبته، لكنها مفردة، كل كتاب بنكهته ولون غلافه، وأجوائه، بالرغم من الأسلوب الواحد، وهنا لن يجد القارئ نفسه متورطا في تلك الأعمال، وعاكفا على قراءتها بالتتابع، سيقرأها ولكن حين يأتي وقت قراءتها.
ولو نظرنا إلى كاتب ضخم بأسلوب واضح ومميز، وعدد كبير من النصوص الإبداعية، مثل إبراهيم الكوني، لوجدنا ما ذكرته. فأنت تستطيع قراءة إبراهيم وأجواءه في أوقات متفرقة، كل كتاب وحده، بطقس قراءة له، وهنا تستطيع أن تستمتع وتنبهر، وتحس بطعم الجو الغرائبي، والأحداث المشوقة، بعكس تجميع تلك الروايات في مجلد، قد تحس بالملل، إن استمررت في مطالعة نصوصه لأشهر أو أعوام، من دون تغيير.
بعض الذين علقوا على التساؤل، تحدثوا عن جدوى الأعمال الكاملة في الشعر، أي أنها تناسب الشعر كثيرا، ولا يمكن أن تناسب الرواية، ذلك باعتبار الشعر نصوصا قصيرة، مربكة في أي لحظة، وكل دفقة شعرية لها معنى، وقوام مختلف. وقارئ الشعر في العادة حساس لتلك الإمكانيات الجيدة التي يملكها الشعر، ومتفاعل معها، ولن يهمه إن كان الأمر ديوانا شعريا صغيرا، به عشرين أو أربعين دفقة شعرية، أو مجلدا ضخما يؤوي خمسة أو ستة أو حتى عشرة دواوين داخله.
أنا أؤيد هذا الرأي، وأرى أن قراءة الشعر، في كل الأوقات، هي قراءة ممتعة ولا تستهلك وقتا، ويمكن قراءة دواوين عدة لشاعر ما، مجمعة في مجلد، في ساعة واحدة. تلك الساعة التي لا تكفي لإنهاء صفحات قليلة من رواية، وقد جربت ذلك في دواوين لأدونيس، والسياب، ومحمود درويش، وكانت قراءة سهلة كثيرا.
بالنسبة للرواية في رأيي، يبدو الأمر مخيفا، خاصة للذين يكتبون روايات طويلة، متشابكة الصفحات، ولا يعرف القارئ متى تنتهي، وهناك من يكتبون ثلاثيات، ربما يضمونها في مجلد واحد، ويبدو شكل المجلد مرعبا، ولا ينادي القراء العاديين، الباحثين عن متعة في الكتب، وربما ينادي فقط محبي الكاتب، وعشاق قراءته.
رواية مثل “ظل الريح”، لكارل رويس زافون، تستغرق قراءتها وحدها أياما طويلة، وربما أشهرا إن لم يكن القارئ متفرغا للقراءة فقط، وتصبح المسألة غاية في الصعوبة، حين نعلم أنها جزء أول من ثلاثية تضمها و”لعبة الملاك” الضخمة أيضا، و”سجين السماء”. ولنا أن نتصور إن وضعت تلك الثلاثية في مجلد واحد، إنه ببساطة سيكون قراءة العام كلها، أي سيسرق وقت القراءة المخصص في العام كله من دون أن يترك فرصة لكتاب آخر أن يبزغ في قراءة أحد. إذن لنقرأ تلك الثلاثية منفردة، كل كتاب ووقته، وبين كل قراءة وأخرى، نحاور كتابا آخرين، وأجواء أخرى.
بالنسبة لعشاق تزيين المكتبات، أعتقد أن المجلدات أو الأعمال الكاملة، أدوات تزيين جيدة وفخمة، ويمكن أن تصمد لتورث للأجيال، ونشاهد كلنا في بيوت نزورها، أو حتى بيوتنا، صفوفا من المجلدات، في الغالب مغبرة بسبب عدم اقتراب أحد منها. هذه المجلدات ربما تحوي كنوزا، لكن ذلك لم يكن سبب اقتنائها في الغالب، لقد وجدت هناك في تلك الرفوف، لتلفت النظر إلى ثقافة غير موجودة، ثقافة متوفرة فقط في إمكانية أن تشتريها من مكان عرضها، وتأتي بها. وقد سألت مرة صديقا لاحظت أن مكتبته لا تحوي سوى المجلدات، ولا يوجد فيها أي كتاب عادي صغير، هل تعرف شيئا عما يوجد داخل تلك الكتب؟
رد ببساطة: أبدا.
هذا الصديق وآلاف غيره، يعتمدون بالضبط على المشهد المبهر، للإيهام بالثقافة، وقطعا لا يتوقعون أن يسألهم أحد، وإن سئلوا لن يكونوا في الغالب في مثل صراحة ذلك الصديق، سيخترعون إجابات يرونها ملائمة بكل تأكيد، مثل: قرأت بعضها، تصفحتها، قرأتها منذ سنوات ونسيت ما تحويه… هكذا.
خلاصة الأمر، لتكون الطبعات المنفردة للكتب موجودة، بأغلفتها وشخصياتها الحميمة القريبة لقلوب القراء، ولتكن مجلدات الأعمال الكاملة أيضا موجودة بغرض التوثيق، والدراسة، والتزيين أيضا، وليختر كل منا ما يلائمه. وشخصيا أحب التنوع في كل شيء، وحتى في الطباعة العادية بالأغلفة الورقية، طالما ناديت بوجود طبعات فاخرة وأخرى شعبية للكتاب نفسه، ولكن لا استجابة حتى الآن. الناشرون يتبارون في تصميم الكتب وبيعها بأسعار غالية، وتلك سلع أصلا غير رائجة، فلماذا تحول إلى سلع استفزازية؟
*كاتب سوداني
الأعمال الكاملة لا طائل منها إذا لم تكن نتيجة ما يعرف بالطبعة العالمة، أي مقدمات طويلة وحواشي و شروح ينجزها متخصصون في الكاتب. وهذه الطبعات تكون هي المعتمدة عادة في إعداد رسائل الدكتوراه، حيث ترفض عادة طبعات كتاب الجيب أو طبعات أخرى إذا كانت الأعمال الكاملة متوفرة. وهناك ميزة أخرى للأعمال الكاملة، أشار إليها الفيلسوف ميشيل أونفراي. إذ يكفي أن نقرأ دفعة واحدة أعمال أي كاتب، حتى نكتشف حتما ما كان خفيا على القراء ! فقراءة أعمال فرويد سمحت لأونفراي أن يبرهن في كتاب ضخم على أن التحليل النفسي ليس سوى شعودة، و أن فرويد دعي و مستغل لغباء الناس ! أما إذا كانت الأعمال الكاملة تحتوي أيضا على ما يسمى بالكتابات الهامشية وغير المعروفة للكاتب فذلك يسمح، بالتأكيد، برسم الصورة الحقيقية للكاتب، كأن يكون عنصريا أو مؤيدا للإبادة، إلخ. وهناك مزايا أخرى لا تحصى للأعمال الكاملة، لعل أبرزها تحقيب المنجز وتكوين فكرة عن تطور وعي كاتبها.