رواية «ضمير مستتر» لبسمة الشوالي: كتابة العوالم المتوحشة

حجم الخط
1

■ تضعنا بسمة الشوالي في روايتها أمام لعبة روائية بوجهين، فهي لعبة الكتابة الروائية التي يمتزج فيها السردي بالشعري والتراثي بالأسطوري، وهي كذلك لعبة الشخصيات الماكرة ضد الشخصيات البريــــئة، ما يجعــــل القارئ يقف في حيرة من أمره ومتسائلا: من أي البابين أسلك طــــريق هذه الرواية؟ هل أكتفي بالغوص في جماليات السرد وأتوقــــف عند الخطاب الروائي وما فيه؟ أم أنفذ من زاويـــة الحكاية ومكوناتها السردية وما فيها من ألم ومرارة وتخييل لواقع قبيــــح وموجع؟
لقد جاءت رواية «ضمير مستتر» لبسمة الشوالي بعد تجاربها المختلفة في الكتابة القصصية. وكانت وفية لأسلوبها الأدبي ونهجها في الكتابة، فالكاتبة تحمل إليها أسلوبها الذي عرفت به في قصصها فتكتب بلغة شعرية مثقلة بخطاب المشاعر والأحاسيس وتخصب نصها بالكثير من النصوص السابقة مثل أسطورة برومثيوس والأشعار الشعبية التونسية، وأغاني جاك برال، وخرافة «بو غريبة» وقصة «ليلى والذئب»، وغير ذلك من النصوص السابقة التي يستعيدها هذا النص الروائي عن طريق الاستشهاد بمقاطع منها، والكاتبة بذلك تعتمد شكلا من أشكال التناص، وهي تعتمد أيضا أسلوب اليوميات، بوضعها لتاريخ ومكان دقيقين في مطلع كل فصل، إلى جانب تقنية سرد الذاكرة، منوعة بذلك أجناس الرواية، ومحدثة نوعا من حوارية الخطاب الروائي. ولكن هذه الجمالية تذوب في عالم الرواية وأحداثها الذي يأخذنا إلى عوالم خفية، فالكاتبة تقتحم واقعا سوداويا متوحشا.
من واد الزان إلى سوسة في تونس وبيروت، وجهات أخرى تنسج الحكاية وتدور اللعبة. هي لعبة العصر، لعبة العصابات التي تدير أوراقها في الخفاء تحت يافطات مختلفة.. شخصيات يتم التلاعب بها وتجنيدها وتكليفها بأدوار وجرائم خطيرة، مقابل شخصيات أخرى لا ضمير ولا قيم لها، فهؤلاء الذين يضحون بالإنسان ويقتاتون منه لا هم لهم غير تحقيق أهدافهم وطموحاتهم. ينسجون علاقات أخطبوطية مزيفة، ويظهرون بأسماء ومشاعر غير حقيقية. لا معنى للعلاقات والمشاعر ولا للإنسان «مافيا» مدججة بمختلف أنواع الأسلحة وقادرة على تحقيق مختلف الوسائل (الترحيل/ التزييف/ التخدير/ القتل/ التجنيد لخدمتهم). حكاية متشعبة تستمر لسنوات عديدة. تواكب الوجه الآخر لما يجري في عالم اليوم، وفي الفضاءات المخصوصة التي تدور فيها الأحداث.. مدن ساحلية ونزل وفيلات خاصة تمارس فيها مختلف الأدوار والألاعيب.

في هذه الأجواء والمغامرات الصاخبة من السهرات الباذخة، وقصص العشق والغرام، تجد الشخوص نفسها في عوالم الغدر والخيانة، وفي قبضة العصابات، فتشهد الرواية أكثر من خدعة وأكثر من جريمة وأكثر من ضحية.

رواية تحمل الصدمات لشخوصها ولقرائها أيضا، فهي تكتب ممارسات مقرفة، وتغوص في عالم سري للإجرام والتلاعب بالإنسان واضطهاده. فالعلاقات الجميلة واللحظات الشيقة والأحلام تتحول إلى كوابيس وآلام وخيانة وغدر…
لعل تتبع شخصية حليمة يبرهن على هذا المصير الذي لاقته الشخصيات، فهذه الفتاة القادمة بأحلام بسيطة من الشمال الغربي، ومن ريف فقير، ترتبط بشخص أجنبي طمعا في الثروة، و«ترى نفسها تنزل دحرجة عن ظهر الجدب وترتفع الهوينى إلى منازل الرفاه بكعب رفيع»، و«تحلم بالمستقبل الباسم» ستطمئن على مستقبل إخوتها وتلأم شقوقا في عقبي أمها، وأخرى في سقف المنزل المتداعي. ستؤمن رزق عائلتها اليومي ومدى السنوات المقبلة، ولن تتذمر كثيرا من سوء تصرفهم في مال توفر لهم بلا عرق». ولكنها تكتشف بعد وفاته المشبوهة بأنه خدعها واستدرجها إلى عوالمه «فرينيه لم يكن رينيه كان مجرد واجهة رسمية لإدارة مصانع الأحذية والملابس الجلدية ذات الماركة العالمية… كنت زوجة للاأحد… قرينة اسم لا يحمله رجل بعينه أرملة شابة لزوج مجهول لكن بلا ثروة طائلة كما حلمت». وهكذا تصبح راقصة في النزل الذي كانت تحلم بملكيته وتحمل بدورها اسما جديدا:
«يصخب أهل الليل مهتاجين يتقارعون اسمها كما الكؤوس والكراسي:
-عاربيا- عاربيا – عاربيا»
في هذه الأجواء والمغامرات الصاخبة من السهرات الباذخة، وقصص العشق والغرام، تجد الشخوص نفسها في عوالم الغدر والخيانة، وفي قبضة العصابات، فتشهد الرواية أكثر من خدعة وأكثر من جريمة وأكثر من ضحية. ليست حليمة الضحية الوحيدة في هذه الرواية لكنها الضحية، التي تحمل دلالات كثيرة وتصيغها الكاتبة بطريقة قريبة من الواقع متخذة إياها نموذجا للفتيات القادمات من الداخل نحو المدن الكبرى، وما يقعن فيه من استغباء ومن أوهام. ولعل الكاتبة تكتب بذلك صورة عن الهامش الاجتماعي المضطهد الذي يلتهمه المركز ويذوبه في متاهاته. وصفوة القول إن بسمة الشوالي تنسج روايتها انطلاقا مما يروج عن عمل العصابات وتوغلها في الأوساط الاجتماعية وامتدادها الشاسع، طارحة في الحقيقة الأسئلة، وموحية بدلالات عديدة. وهي تكتب جانبا من العوالم المتوحشة التي يفقد فيها الإنسان قيمته، ويغدو رقما أو آلة في خدمة الآخرين وتحقيق رغباتهم ونزواتهم.

٭ كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نجاة البكري:

    قراءة تليق بنص كاتبته بسمة الشوالي التي امتازت ريشته عن غيرها بالقدرة على مراوغة اللغة وتطويعها بما يتناسب وعوالم النص.

إشترك في قائمتنا البريدية