القاهرة «القدس العربي»: لم يكن اسم Francis Ford كوبولا معروفاً للكثيرين حتى بداية عام 1971، حين تم عرض الجزء الأول من ثلاثية «العراب»، ليُفاجيء الجميع ــ بما فيهم شركة إنتاج الفيلم نفسه ــ بموهبة سينمائية غير معتادة، وقفت بجانبها العديد من العوامل الفنية لتجعل من الفيلم تحفة فنية، أشاد بها النقاد والجمهور، محققاً تلك المعادلة الصعبة التي يسعى إليها كل من يعمل في مجال السينما، حيث نادراً ما يتفق النقاد والجمهور معا، مما جعل الجميع يعود إلى أعماله السابقة، التي لم تنل حظها من الشهرة. ومع توالي أعماله الفنية، بتفاوت مستوياتها الفنية، يظل كوبولا أحد أهم المخرجين على مستوى العالم، وقد أصبح له مدرسة سينمائية خاصة به. في هذا الحوار يكشف كوبولا عن العديد من الذكريات، التي لاشك ساهمت في تشكيل وعيه السينمائي، كذلك رؤيته لصناعة السينما، ليس من وجهة نظر المخرج فقط، بل كصورة شاملة لهذه الصناعة المعقدة، في مكان بمثل أهمية هوليوود. ٭
٭ أعرف أنك شاهدت التليفزيون كثيراً في طفولتك .. هلا أخبرتنا عن هذا الأمر؟!
٭ كان أبي عازفاً للموسيقى، كما كان دائم الشغف بكل ما هو جديد. ولهذا؛ عاد من نيويورك إلى المنزل، يحمل معه جهاز تليفزيون. حدث هذا تقريباً عام 1945، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كنت وقتها في السادسة من عمري تقريباً، وكنت أشاهده- بشكل طبيعي- على الرغم من قلة البرامج التي يعرضها. لكن حين بلغت التاسعة، أُصِبتُ بمرض شلل الأطفال، وأنت تعلم بالطبع أن العُزلة من النتائج الأساسية لهذا المرض، حيث يخاف منك الناس على أولادهم، خِشية أن تنقل إليهم العدوى؛ ولذلك قضيت فترة مرضي معزولاً عن أقراني، فلزمت المنزل لمدة عام ونصف، وانقسم وقتي بين مشاهدة التليفزيون، والاستماع إلى الراديو، واللعب بجهاز تسجيل، لذلك شاهدت التليفزيون كثيراً أثناء فترة إقامتي الجبرية بالمنزل.
٭ متى أدركت ما تود فعله؟!
٭ دائماً ما كنت أبدي اهتماماً بشيئين، الأول هو «العلوم» وسِيَر العُلماء وأحداث التجارب العلمية، إلى درجة رغبتي حينها في تحويل بدروم المنزل إلى متجر للأدوات العلمية، أقوم فيه باختراع العديد من الأشياء. وفي الوقت نفسه، كان الشيء الآخر هو الحكايات. وكان لي أخ أكبر شديد الاهتمام بالثقافة والأدب، كل هذا بالإضافة إلى المسرح بالطبع، فأحياناً ما كان أبي يقوم بالعزف في مسرحيات كوميدية، وهكذا واتتني الفرصة لمشاهدة العروض المسرحية الكوميدية. في النهاية، ولتعارض مجالا اهتمامي تماماً، حين وصلت إلى المرحلة الثانوية من التعليم، كنت أعمل في مجال الإضاءة للأعمال الدرامية، حيث يمتزج حبي وشغفي بكل من العلوم والحكايات! ومن هنا بدأ اهتمامي بالمسرح، واعتقدت في وقت ما أنني أريد أن أكون مؤلفاً مسرحياً، لاهتمامي بالحكايات، وبسردها.
٭ ومتى أصبحت السينما هدفاً لك؟!
٭ حين بدأت المرحلة الجامعية، التحقت بكلية لدراسة الدراما، ولم يكن أبي سعيداً أبداً باختياري هذا، فلقد أراد لي أن أدرس ما يجعلني أكثر احترافاً في العمل بالإضاءة المسرحية، التي كنت أمتهنها حينذاك، كدراسة الهندسة وما شابه، نظراً لما أبديته من قدرات عالية في تفهم العلوم وتطبيقاتها، لكن تم قبولي في الجامعة لدراسة الدراما والتأليف المسرحي، وكنت وقتها غارقاً في العمل بالمسرح، متخذاً بالفعل أولى خطواتي في فن الإخراج المسرحي.
٭ما الذي جعل الفيلم السينمائي يثير حماسك؟!
٭ السينما تجمع بين العديد من أشكال الفنون المختلفة، مثل المسرح والأوبرا، لكن العنصر الأساسي للسينما هو فن المونتاج. إن مزج الصور الغير معتادة، مع نماذج من الناس، خلال لحظات عاطفية معينة، تماماً كصنع تركيبة كيميائية. فالعديد من الصور تمتزج معاً لتصبح شيئاً آخر مختلفاً تماماً، هذا المزيج الذي يفوق ويعلو على كل صورة ساهمت في تركيبه، لو أنها ظلت على حالتها الأولى المنفردة. وكان هذا بالطبع أحد العناصر المدهشة في فيلم «Eisenstien»، لقد كنت منبهراً حين شاهدت فيلم «Ten Days That Shook The World»، وأذكر أنني في بعض اللقطات سمعت بالفعل صوت طلقات الرصاص، على الرغم من أن الفيلم صامتاً، ويعود هذا بالطبع إلى السياق والتعاقب الذي خلقه المونتير البارع. لذلك فإن المونتاج أحد أشكال الكيمياء، حيث السحر والجاذبية المدهشة.
٭ ماذا عن عملك الأول مع المخرج الاميدكي روجر كورمان؟
روجر Corman (يتنهد) … كانت البداية بفيلم خيال علمي روسي، أحضره وطلب مني كتابة الحوار له بالإنجليزية. بالطبع لم أكن أعرف كلمة واحدة باللغة الروسية، إلا أنني أدركتُ بعدها أنه لا يكترث بمعرفتي باللغة الروسية من عدمه، كما لا يكترث بما كانوا يقولونه في الحوار أساساً، فقط أراد مني أن أختلق له حواراً يتناسب وهذه المشاهِد المُصورة! وأذكر أن الفيلم كان من فئة الخيال العلمي، ولقد أراد أن يضيف بعض الوحوش إلى المشاهِد المُصورة، وتأليف قصة وحوار يتماشيان مع هذا المزيج من المشاهِد. قبلتُ بالمهمة بالفعل، وبذلت أقصى طاقتي وكل ما بوسعي لإنجازها، وفي النهاية أصبحتُ مساعداً له من ضمن طاقم مساعديه، وكان هذا يعني أنني يجب أن أقوم بغسل سيارته في المساء، ليقبلني مُخرجاً للحوار في الصباح بشركة الإنتاج. كانت الشركة بالطبع تدفع لي راتبي، وأعترف أنها كانت رغبتي أن أكون أحد مساعديه، حتى لو كان هذا يعني أن أعمل لديه نصف اليوم بشكل شخصي، بينما النصف الآخر من اليوم أعمل مساعداً له بشركة الإنتاج. وعلى الرغم من أن روجر يستنزف طاقة كل من يعمل معه من الشباب إلى أقصى حد، إلا أنه في الوقت نفسه يجعل منك شخصاً مسؤولاً، كما أنه يعطيك الفرصة الحقيقية؛ ولهذا أرى أنها كانت صفقة عادلة للغاية.
٭ والفيلم الذي قمت بإخراجه له؟
٭ لقد كان له تكنيكاً خاصاً به؛ فحين يبدأ روجر تصوير أحد أفلامه، يكون قد حصل على ميزانية الفيلم، وحين ينتهي من تصويره، كان يستغل المعدات المتوفرة بالفعل، وفريق العمل أيضاً ليصنع فيلماً ثانياً، لأن كل هذه التكاليف تكون قد تم دفع ثمنها بالفعل من ميزانية الفيلم الأول، وكان هذا بمثابة الصفقة الرابحة بالنسبة له. ذات مرة، قال روجر إنه ذاهب إلى أوروبا لتصوير أحد أفلامه، وسألني إذا ما كنت أعرف مهندساً للصوت، فأجبته على الفور بأنني هذا الشخص الذي يبحث عنه، ولم أكن بالطبع أعلم أي شيء وقتها عن هندسة الصوت، أعني أنني كنت أجيد التعامل مع الأجهزة التقنية، لكن لم يسبق لي العمل أبداً على أجهزة الصوت. لذلك، أخذتُ معي إلى المنزل كُتيِّب الإرشادات، وقضيتُ ليلتي في دراسته، وأخذني معه بالفعل. وبعد إنجاز أكثر من نصف العمل، تم استدعاء روجر إلى الوطن لينجز فيلماً آخر، فأدركتُ أنه لن يتمكن من إخراج الفيلم الآخرـ كما اعتادـ بالميزانية نفسها المُخصصة للفيلم الأول، خاصة وأنه مضطر لمغادرة أوروبا، فقلت له: « روجر.. لديّ سيناريو يُمكن تصويره وإنجازه، سيناريو يشبه فيلم Psycho لـ Hitchcock «، وكان وقتها Psycho قد حقق نجاحه الباهر، وكانت بالنسبة له صفقة كبيرة، فقلت له لديّ السيناريو، وكان رده عليّ «أرني جزءا منه». عرضتُ عليه الورقات الثلاث التي عملتُ على كتابتهم طوال الليل، وكانت بالطبع مجرد مسودة لأحد مشاهد الحركة، فقال لي «OK» .. وحرر لي شيكاً بمبلغ 20 ألف دولار، وأرسل معي سيدة من طاقم الإنتاج، وسافرنا معاً بالفعل إلى إيرلندا، حيث تقرر تصوير الفيلم هناك، وقابلتُ هناك بالصدفة مُنتجاً آخر، حين أخبرتهُ بأنني أقوم بالتحضير لفيلم تحت إشراف روجر، عرض الرجل شراء حقوق النسخة الإنجليزية للفيلم بمبلغ 20 ألف دولار، وحرر لي شيكاً بالمبلغ. أخذتُ الشيكين، واتجهت للمصرف، ووضعتُ المبلغ كله في حساب جديد، وعرفتُ من السيدة المصاحبة لي أن روجر ينتظر أن أعيد له الـ 20 ألف دولار التي دفعها لي، وأقوم بتنفيذ الفيلم بالمبلغ الذي بعت به حقوق النسخة الإنجليزية، ويحصل هو على الفيلم مجاناً، لكنني لم أكن مُغفلاً إلى هذه الدرجة، ونفذتُ الفيلم بتكلفة 40 ألف دولار، وعلى ما أذكر كان أحد أفلام الرعب بالأبيض والأسود، وقمتُ بتصويره في تسعة أيام فقط. فقد كتبته في الأسبوع الأول من تواجدي بإيرلندا. فلم يكن معي سوى المشهد الوحيد الذي عرضته على روجر ، واستكملتُ الباقي، فكُنت أعمل عليه ليل نهار.
٭ ما الفيلم الذي لا يمكن أن يسقط من ذاكرتك؟!
٭ لم يكن عالم المحترفين كما تخيلته من قبل حين كُنت هاوياً، فدائماً ما كنت أحلم وأنا في المرحلة الجامعية بتلك اللحظة التي سأقوم فيها بالعمل كمخرج محترف، وكُنت وقتها أعتقد أن الأمر سيكون ممتعاً. لكن الحقيقة على العكس من هذا تماماً، فجدول العمل لا يترك لك أي فرصة للاستمتاع أو السعادة، وأذكر أن أكثر أيام حياتي سعادة حين انتهيت من فيلم «العراب I»، تليها أيام انتهائي من فيلم «Apocalypse».
كان الجزء الأول من «العراب» محط إهمال الجميع حين كنا نقوم بتصويره، وأعني بالجميع كل مَن في شركة الإنتاج، فلم يكن هناك من هو سعيد أو واثق مما يتم تصويره. لم يكن هناك من يحب فريق العمل، ولا الطريقة التي أتبعها في إخراج الفيلم، وكنت طوال الوقت على وشك الطرد من العمل، وإيقاف تنفيذ الفيلم تماماً. كانت تجربة كابوسية، وقتها كان لديّ طفلين، والثالث في الطريق، ونعيش في شقة صغيرة للغاية، وكنت مرعوباً من النتيجة التي سيؤول إليها الموقِف لو فشل الفيلم بالفعل، فلن أتمكن بعدها من الحصول على أي عمل آخر، ولم يكن وقتها يتوقع أي أحد أن يحقق الفيلم أي نجاح، بل على العكس، ينتظرون الفشل الذي سيحققه كنتيجة بدهية وحتمية. وما إن انتهيتُ من الفيلم، قبلتُ على الفور عملاً تنتجه الشركة نفسها، ووافقتُ على كتابة السيناريو لفيلم «The Great Gatsby»، فلقد كُنت في أَمَس الحاجة للمال، من أجل أسرتي، وطفلي القادم. وفي ليلة ما- دون أن أدري لماذا- كُنت في باريس، ساهراً طوال الليل أكتب في سيناريو فيلم «The Great Gatsby»، حين تم عرض «العراب» في قاعات السينما، ورن جرس الهاتف، لأجد أحد رجال شركة الإنتاج يقول لي: «حسناً .. الأمور على ما يرام، وكل من شاهد الفيلم أحبه»، فسألته: «حقا؟!» .. وقتها لم أكن قد انتهيتُ من كتابة السيناريو الذي تعاقدتُ عليه بعد. ولعل من سخرية القدر، أن أعظم لحظات حياتي وأكثرها نجاحاً، لم أتمكن من حضورها، فلقد كنت في مكان آخر، تحت ضغط الموعد النهائي لتسليم السيناريو الذي أعمل على كتابته. لذا كانت ليلة من أجمل ليالي حياتي، حين حصد الجزء الثاني من الفيلم كل هذه الجوائز في مهرجان الأوسكار، على الرغم من أنه لم يحظ بإعجاب الجمهور بالقدر الذي حظي به الجزء الأول.
٭ ما أهم عوامل النجاح في المجال السينمائي من وجهة نظرك الخاصة؟!
٭ أهم العوامل في رأيي الشخصي هي «الشجاعة»، فلا أعتقد أن هناك فناناً- مهما كانت قيمته الفنية- لا يُساورهُ الشَّك في قيمة ما يُقدمه، وكُلما تقدمتُ في العمر، أجد نفسي أفكر في تلك اللحظات العصيبة التي تعرضتُ لها، خاصةً حين تم طردي من العمل.
لقد كتبت سيناريو فيلم Platoon، وكان السيناريو مُثيراً للجدل حين كتبتهُ، فلقد اعتقدوا أنهم سيقرأون سيناريو نمطي يعالج الموضوع الذي يتعرض له الفيلم، حيث كان من المفترض أن يكون مُحاكياً لفيلم The Longest Day، لكنهم بدلاً من ذلك، وجدوا سيناريو ذو تكنيك مختلف تماماً عما اعتادوا عليه، أو ما كانوا ينتظرونه. فمن اللحظة الأولى للمشهد الافتتاحي للفيلم، حيث يرفرف العلم الأمريكي، بدى لهم الفيلم مختلفاً عن النمط السائد لمثل هذه النوعية من الأفلام، وفي النهاية قيل لي «نشكرك كثيراً»، ثم تعاقدوا مع سيناريست آخر للعمل على سيناريو الفيلم، وتناسوا تماماً السيناريو الذي قمت بكتابته.
تم إجراء الحوار لموقع:
Academy of Achievement
ترجمة واعداد اسلام عبد الرحيم