أمام الواقع العربي الحالي الأسود بكافة تفاصيله، الذي جاء مجافيا بالكامل لطموحات أجيالنا في الخمسينيات والستينيات، التي أرادت ركوب المستحيل في سبيل تحررها وتحريرها فلسطين، وفي سبيل عزتها وكرامتها ووحدتها. تبدو هذه القضايا النابعة والمندفعة من حماس الشباب، أقرب إلى اليوتوبيا الحماسية، منها إلى الواقع، ذلك أن هذا التعبير الذي يستدعي إلى الأذهان أحلام الحكماء والفلاسفة والثوريين منذ أفلاطون، حتى توماس مور، وصولاً إلى عصر قريب، كانت أجيالنا تحلم به.
قدّسنا الفارابي، باعتباره كان أول من تبلور لديه مفهوم متكامل للمدينة الفاضلة من منظورٍ عربي، وهو حاجة الإنسان إلى الاجتماع، وتحقيق صورة مثلى للتعاون بين أفراد المجتمع، من أجل مدينة فاضلة يسود فيها العدل، وينعم سكانها بالسعادة، وتمكنهم فضائلهم من الصمود في مواجهة المدن الجاهلة. إلى هذا المعنى يرجع استخدام مصطلح يوتوبيا الذي كان قد اشتقه توماس مور. ولعل هذا يضرب بجذوره في جمهورية أفلاطون التي تقدم رؤيته في السياسة والحكم، ومن ثم يغلب على أعمال الأدب الطوباوي كطابع سياسي حالم بمجتمع فاضل يسعد أهله بلا استثناء.
حقيقة لم يأت مور بجديد، فهذه النزعة لتخيُّل أمكنة خرافية مثالية كانت موجودة في الغرب منذ العصر اليوناني، حين عالج الفلاسفة والشعراء قضايا الواقع ومشكلاته، بوصفها أمكنة عجائبية لا تتوقف فيها الأشجار عن حمل الثمار طوال السنة، كما هي حال حدائق الكينوس، التي تحدث عنها هوميروس في النشيد السابع من الأوديسة في ملحمته «الأعمال والأيام» أو لشكل حياةٍ نموذجي لا عمل فيه، ولا معارك، بل وَفْرَة ومآدب عامرة، كما وصفه بِنداروس في جزيرته السعيدة التي تقع «على أطراف الأرض».
لو أنّ الإنسان كان في أشدّ لحظاته حِلكةً وتشاؤماً، لما توقّع تصور هذا الوضع العربي الرديء الحالي في مجالاته المختلفة
بالفعل، لو أنّ الإنسان كان في أشدّ لحظاته حِلكةً وتشاؤماً، لما توقّع تصور هذا الوضع العربي الرديء الحالي في مجالاته المختلفة. الأدهى من ذلك أنه يسوء تدريجيا، ويشمل دولاً وقطاعات أعرض أخرى كلّ يوم لبلد عربي جديد. صحيح أن الوعي هو انعكاس للواقع، ولأن الأخير مشظّى، لذا ترى أن من يعي أبعاده وتداعياته، ويربط ما بين مضامينه والأشكال الصراعية التي يظهر عليهأ، يصاب بالفصام المرضي، فهو يرى: عنفاً، قسوة، قتلا وصولا لارتكاب مجازر مثلما يجري في العراق حيث المذابح أدت إلى استشهاد ما يزيد عن 450 شخصا.
لبنان مهدّد بحرب أهلية جديدة، حكما ستتخذ شكلا طائفيا، قد يعيد إلى الأذهان حربا طويلة سابقة. اليمن جرى تدميره وقتل الآلاف من أبنائه، وتجويع مليون طفل فيه وهدم بيوته. الجزائر شهدت سنوات من الحراك الاحتجاجي منذ عهد بوتفليقة، ورغم إجراء انتخابات جديدة فيه، وفوز الرئيس عبدالمجيد تبون، لكن الحراك ما زال في الشارع، ومعظم الأهالي، لم يشاركوا فيها، وبالتالي فهم لم يعترفوا بها، وسيقاومونها مثلما أكّد الناطقون بأسماء أحزابهم. لقد بدأ الحراك في تونس عام 2011 وامتد ليشمل الدولة العربية الأقوى مصر وغيرها، أزيح رؤساء وجاء آخرون من المدرسة ذاتها، وأخيرا وُفقت تونس برئيس شعبي وطني عروبي، يرى فلسطين قضية تونس الأولى، ويجرّم التطبيع مع دويلة الكيان. ليبيا على أبواب حرب أهلية، تتدخل فيها عوامل عربية وإقليمية ودولية، والحرب على الأبواب بين فريقي حكومة فايز السرّاج، الذي يعتبر حكومته هي الشرعية الوحيدة بالمقارنة مع الأخرى، وقوات المشيرحفتر، المتأهب للزحف إلى طرابلس.
لا ننسى السودان وكم من آلاف الضحايا ذهبت في حرب أهلية طويلة، وأخيرا اكتفت المحكمة العسكرية السودانية بالحكم على البشير، بقضاء سنتين في مركز للرعاية والإصلاح، بعد أن صادرت منه 6.5 مليون دولار.
المقصود من هذه الترتيبات: تصفية القضية الفلسطينية من خلال إيجاد بيئة رسمية عربية لظروف التصفية، مثلا توقيع معاهدة عدم اعتداء بين الدولة الصهيونية ودول الخليج، رغم كل التطبيع. نعم، تعددت مشروعات الإصلاح الاجتماعي والسياسي في مدن نموذجية متنوعة، كتلك التي تحل المساواة فيها على الأصعدة كافة، في مشروع أحد معاصري أفلاطون وهو فاليّاس، وتلك التي تقوم على الاختلاف وتكرّسه في مشروع هيبوداموس. ولم يخل الأمر من بعض السخرية أحياناً كما في مسرحية «مجلس النساء» للمؤلف الكوميدي أريستوفانيس، الذي طلب من الرجال ترك السلطة وتسليمها للنساء وستستقيم (كما رأى) والحالة هذه الأحوال بصورة أفضل. وليس مصادفة أنه في عام 2020 (نحن على أبوابه) أن تكون فنلندا بلد الرفاه الأولى في العالم، معظم الناس يعتقدون أن السبب يكمن في أن مجلس وزرائها يتكون من 18 منهم 16 امرأة، ورئيسة الوزراء هي سانا مارين 34 سنة. المقصود القول: إن الحلم باليوتوبيا يعتبر مشروعا، حتى ولو بدا خياليا! فالقضية الإيمان بالفكرة أولا، إضافة الى الإمكانيات ثم الإرادة بتحقيق الرفاه والعدالة، ولنتساءل مثلاً عن فارق كم الثروات بين السعودية مثلا وفنلندا على صعيد التقدم؟ أو بين الأولى وماليزيا؟ ولأن تلك المدن المثالية كانت مشروعات من الصعب تحقيقها واقعاً، فقد وضعها الكتّاب في أمكنة بعيدة يصعب الوصول إليها. ترافق ذلك وظهور أدب الرحلات الذي شجعت على رواجه تحركات جيوش الإسكندر المقدوني. وهكذا تعددت الروايات عن بلاد بعيدة حقيقية، للحياة فيها طعم مختلف، كجزر الشمس التي زارها يامبولوس، حسب رواية ديودوروس الصقلي، الذي نقل عن مكتشفها أن السعادة تحلّ فيها دوماً، وأن سكانها يعيشون حياة جماعية مليئة بالوفرة، لا يعرفون المرض ولا الموت المبكر، وتنتفي فيها العبودية.
كان القرن الثامن عشر أيضاً عصر التنوير، وأفكار الموسوعيين الجديدة حول دور القانون في التأسيس لمجتمع أفضل، إضافة إلى المفاهيم الجديدة حول المساواة والإخاء والحرية التي مهدت للثورة الفرنسية، ولذلك صارت المشروعات الطوباوية في كل أوروبا حتى القرن التاسع عشر تتناول نمطاً جديداً من الحياة الجماعية، التي تنعدم فيها الملكية الفردية. ففي كتاب موريللي «قانون الطبيعة» نجد طرحاً لأسس حياة شيوعية بدائية ذات نمط زراعي. كما أن روبرت أوين الذي اهتم بظروف العمال وبتحسين القوانين الاجتماعية للعمل في إنكلترا، حاول أن يؤسس مستعمرة شيوعية في الولايات المتحدة سماها «الانسجام الجديد»، لكن مشروعه أخفق، فعاد إلى التنظير عن الشيوعية الطوباوية. كذلك كتب الألماني فيلهلم فايتلينغ الذي تأثر بالأفكار الاشتراكية في فرنسا «البشرية كما هي، وكما يجب أن تكون» كما حاول تأسيس رابطة للحرفيين وبناء مستعمرة شيوعية، مشروعه هذا باء بالإخفاق أيضاً. كل هؤلاء تأثروا بأفكار الاشتراكية الطوباوية التي نشرها في فرنسا شارل فورييه، الذي حلم بعالم جديد، وكلود هنري دي سان سيمون الذي وجه تفكيره نحو تأسيس «المسيحية الجديدة»، وأعلن عن رغبته في إعادة جنات عدن إلى الأرض. وهناك أيضاً إتيين كابيه مؤلف «رحلة إلى إيكاريا». وعلى صعيد الأدب العربي ظهرت منذ القديم بعض الأعمال ذات الصبغة الطوباوية، التي تتحدث عن عالم قَصِيٍ تتحقق فيه أحلام البشر المؤمنين الصالحين بالعدالة والمساواة. ومن هذه الأعمال على الصعيد العربي «رسالة الغفران» للمعرّي. نعم، ظهرت في الأدب العربي الحديث منذ عصر النهضة بعض الأعمال القليلة أيضاً التي اندرجت في مفهوم الطوباوية كرواية «جمهورية فرحات» وكتاب «أحلام الفلاسفة»، ورواية «من أحلام اليقظة»وغيرها.
على صعيد الديستوبيا (المدينة الفاسدة) فإنها النظام الأقرب إلى التطبيق في عالمنا العربي، ومن الروايات التي حاولت تصوير هذا الوضع يوتوبيا لأحمد توفيق. رواية حول مدينة مخيفة ستعمّر في أرض مصر وفلسطين 2020 برعاية الحراس الأمريكيين واليهود وتحت إمرتهما، وأن عامة الناس ستكون فريسة لهذه الكلاب والحيوانات المتوحشة، ولا يكون فيها شيء من العدالة والأمن والسكون، ويكون القاتل هو القاضي والقاضي هو القاتل، والناس يلجؤون إلى حراس أمريكيين من الإرهابيين وعملائهم. وهي تشبيه عربي لرواية جورج أورويل «1984»: «أحذر، فالأخ الأكبر يراقبك»، «الحرب هي السلام»، الحرية هي العبودية»، الجهل هو القوة». تدور أحداث الرواية في عالم الحزب الحاكم، حيث تدار كل وسائل الإعلام بواسطة الحكومة والحزب، ينتشر الفساد وتنتفي العدالة، ويعيش المجتمع أشد أنواع عصر الظلم قسوة.
كاتب فلسطيني
مقال رائع تشريح مخيف للواقع العربي تحققت الكثير من أحلامهم المثالية وتجسدت اكثر الكوابيس سوادا في وطننا العربي
مقال رائع لواقعنا المحزن. منذ بضعة سنوات في ظل تطًور أجهزة ألأتصالات أللاسلكية والحاسوب
خطرت لي فكرة ضرورة تغيير نظام ألأنتخابات ألعامة المتبعة حالياً في معظم دول العالم الى نظام جديد يعالج عدم ألألتزام بالوعود التي يطلقها المرشحون عادة. وبموجب هذا ألنظام لا يكون هناك مدد محددة لفترات شغل المناصب. أذا التزم ألمرشح بوعوده وكانت اعماله جيده فما هو الداعي لتحديد مدة لشغل هذا المنصب او ذاك. وكذلك ألحال أذا تبين منذ ألبداية بأنه ليس هناك نية للطرف ألمنتخب لتنفيذ الوعود التي ضمنت له ألكرسي, ففي مثل هذه ألحالة ما على المعترض سوى زيارة مركز ألأنتخابات في منطقته والتصويت لمرشحه ألجديد. أو ألقيام بالتصويت من خلال أستخدام جهاز ألكمبيوتر ألشخصي بعد أستخدام ألمعلومات ألخاصة به وألأرقام ألسرية ألصادرة له من دائرة ألأنتخابات. وعندما يصل عدد ألأصوات ألمطلوبة لشغل مثل هذا ألمنصب يتم ألأعلان عن ألنتائج لآجراء ألتغيير.