على قدر ما ننتقل نحن البشر من مركزيّة الأرض، إلى مركزيّة الشمس؛ يستغرقنا السؤال الأبدي: ماذا علينا أن نعرف؟ ماذا علينا أن نفعل؟ ونحن اليوم كائنات رقميّة تعيش تحوّلا كميّا نوعيّا في كلّ ما يحفّها في مسالك العيش، من أشياء ومن مصطلحات تفد علينا وتتزاحم كتزاحم الظباء على خراش؛ فنديرها على ألسنتنا في أصلها الأجنبي أو نتحيّل لها بما تتوفّر عليه لغتنا من سيولة القياس والاشتقاق. ومثال ذلك هذا المصطلح: smart city .
ومن لطائف العربيّة، وأنا أقلّب النظر في ترجمة هذا المصطلح الجديد الوافد علينا “مدينة ذكيّة” أنّ الذكاء هو شدّة وهج النار، وهو السنّ أيضا؛ ويقال للحيوان وللإنسان إذا أسنّ وبدن. و”ذُكاء” (بضمّ الذال) اسم الشمس، وهو معرفة لا ينصرف ولا تدخلها الألف واللام. وتقول العرب للصبح “ابن ذُكاء” لأنّه من ضوء الشمس. أمّا الذكاء في السياق الذي أنا به، فهو حدّة الفؤاد وسرعة الفطنة والفهم التامّ وسرعة القبول وإتمام الشيء واستتمام القوّة. وعلى أساس من هذه الأريحيّة اللغويّة التي تميّز العربيّة، يمكن أن نسوّغ الترجمة المتداولة سواء عن الهواتف الذكيّة أو المدن الذكيّة. وهو من مباحث المستقبل وما يتعلّق بها من دراسات تستشرف المدينة العصريّة في شتّى الميادين التقنيّة والاجتماعيّة، وما ترهص به من طاقة ديناميّة. إنّها المدينة التي تتميّز بزيادة إنتاج المعطيات والمعلومات التي لا غنى عنها، واستعمالها في كلّ ما ييسّر إدارة شؤون الوسط المدني والبيئة، وحسن التنظيم عامّة بطريقة رقميّة تواصليّة ميسورة. يعرّف الفريق المختصّ بهذا الصنف من المدن في مؤتمره بجنوة (2014) المدينة الذكيّة الحيّة من حيث هي “مدينة متجدّدة تستخدم تقنيات الإعلام والتواصل، فضلا عن وسائل أخرى؛ من أجل تحسين نوعيّة الحياة ونجاعة الإدارة المدنيّة والخدمات؛ وإذكاء التنافسيّة، مع مراعاة حاجات أجيال اليوم والغد في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئة”.
في الفرنسيّة تستخدم لهذا الصنف من المدن مصطلحات أخرى غير الذكاء مثل “ماهر” و”بارع” و”مبتكر” و”فطن”، وإن كانت لا تتعلّق في الأصل بها؛ وإنّما بالإنسان والآلة. والحقّ أنّ النعت “ذكيّ” قلّما فُهم فهما تامّا، وهو الذي يحيل على سيرورة إدراكيّة تشمل كلّ ما يتعلّق بتطوّر المدينة الحديثة أو “الذكيّة”؛ وكأنّ هناك مدنا ساذجة أو حمقاء أو غبيّة. واللافت أنّ الباحثين في هذا الموضوع، يقرّون بأنّه مبحث لا يزال في بداياته؛ خاصّة أنّه لا وجود حتى اليوم لمدينة ذكيّة بالمعنى الدقيق الحصري للكلمة، إلّا إذا سوّغنا القول إنّ المدن كلّها تتّسم تاريخيّا بالفطنة والذكاء. وعليه يقترحون جملة عناصر من شأنها أن تقدّم تعريفا، ولو محدودا لظاهرة مفاجئة تتشكّل، ولكنّها بارزة في عالم اليوم؛ بما يجعلنا نجهد في تسميتها من دون أن نستوفيها حقّها. لنقل إذن إنّ النعت “ذكيّ” يشمل مفهوم الذكاء الخاصّ بالأنظمة الإلكترونيّة الحسّاسة أو “الكواشف” بالنسبة إلى تغيّرات البيئة أو أيّ محيط معطى سواء تعلّق الأمر بالفرد أو بالمعلومة وإنتاجها وتداولها. والهدف من ذلك هو تيسير العمل أو الإدراك الذهني، عند الفرد الماهر في استخدام الأجهزة الرقميّة الملائمة لمحيطه وحاجاته؛ والحاجة أمّ الاختراع كما يقال. وهذا مفهوم جديد للذكاء يمكن أن نحدّه من حيث هو تفاعل وتشارك أو “تفاعليّة” بين الفرد ومحيطه، مصدرها هذه الماديّة الجديدة التي أساسها الإعلاميّة المتعدّدة كليّة الحضور حيث نعيش لحظة عجيبة فارقة: ولادة كائن جديد “متعدّد الخلايا” هو “الذكاء الهائل” و”الوعي الإنساني العالمي” بعبارة بيتر أمانديس. وهو يبيّن أنّ البشريّة ستشهد في العقود الأربعة القادمة هذا النوع من الذكاء، إذ نحن ننتقل من تطوّر “دارويني” يمليه ما تقوم به الطبيعة في عمليّة الانتقاء، إلى تطوّر جديد أكثر تعقيدا يمليه التحوّل الذكيّ، فـ”نحن اليوم نتقدّم بسرعة فائقة نحو مرحلتنا التطوّريّة القادمة، وهي مرحلة الذكاء الأعظم؛ في مستقبل نكون فيه جميعا متواصلين دماغا بدماغ بفضل “سحابة الكلمات” متبادلين أفكارنا ومعارفنا وأنشطتنا”. وهو ما يؤكّده مارك ويسر أبو إعلاميّة الجيل الثالث (1952 ـ 1999) في مقاله “حاسوب القرن الحادي والعشرين” (1991)، حيث يبيّن أنّ الأنموذج أو المثال الإعلامي، إنّما يقيّم بقيمته الحقيقيّة في سياق انتشار الحواسيب ورواجها في المحيط اليومي المعيش، بناء على تصميمها بأحجام صغيرة، وتكاملها مع أشياء غير إعلاميّة (الطاولة والمكتب وحاملة المصباح والشارع…) وهو تكامل عضويّ متساوق لتأدية عمل مخصوص في كتلة واحدة، أو وحدة لا تتجزّأ؛ بما يعزّز كليّة وجودها في كلّ مستويات الأشياء المجزّأة حتى تلك التي تشبه ذرّات الرمل، بما فيها الجزء الطفيف أو الصغير جدّا في مجموع المعطيات؛ ما تعلّق الأمر بالإعلاميّة. ومن ثمّة فإنّ تأصيل مفهوم الذكاء في بعده التقني والمادّي، هو المنفذ إلى إدراك محتواه. وعليه يمكن القول إنّ الذكاء بهذا المعنى هو التغطية الرقميّة الدقيقة للمحيط المادّي، بوساطة الإعلاميّة الشاملة المنتشرة التي تسمح بتبسيط أنشطة الفرد اليوميّة وتيسيرها وجعلها سائغة مقبولة، لا عنت فيها ولا مشقّة. فالمدينة الذكيّة إذن إنّما هي نشر الرقميّة وتعميمها في المحيط المدني، بما تؤدّيه من منافع لمستعمليها، وما تقترحه من طرق جديدة في الإدارة والحكم، وفي أن نعيش المدينةَ التي تبني مدينة المستقبل، وأن نرى إليها وهي تتّخذ جلدا جديدا، وتجدّد بناء وظائفها على أسس رقميّة؛ من أجل إنتاج المعلومات وحسن استعمالها.
لمفهوم المدينة الذكيّة اليوم حظوة لا تخفى، وربّما شعبيّة عند الشباب خاصّة؛ لما تتوفّر عليه من إدارة ناجعة فعّالة، ديمقراطيّة أو تشاركيّة؛ لفائدة المجموعة، ومن تقنية تعدنا بمغالبة رهانين كبيرين، وأخذهما على عاتقها، وهما: الحدّ من استغلال الموارد ومن تبذيرها، وإدماج المواطنين كلّهم في إدارة المدينة والحوكمة الرشيدة عامّة.
بيْد أنّ هناك أخطارا وتبعات ينبغي أن لا نغفلها، فالمدينة الذكيّة قد لا تكون المدينة الفاضلة المنشودة؛ بل يحقّ لنا أن نتساءل ما إذا كانت مدينة مستبدّة متسلّطة؟ بل قد تكون كذلك إذا نحن أخذنا بالاعتبار ما تتميّز به هذه المدن من حيث فيديوهات المراقبة وآلات التصوير والكاميرات، وتعرّف الوجوه وبصمات العيون والتقاط الأصوات واستشعار البيانات، وما إليها من وسائل المراقبة؛ وإن كان البعض يرى فيها حماية للمواطن وأمنا، وليس تلصّصا عليه. والسؤال هو كيف تكون لنا مدن ذكيّة متحرّرة من بهرج السوق أو “الماركتنغ”؟
قد يرى البعض في هذا عودا على بدء، وتذكيرا بظهور الكتابة؛ وقد كان إنشاء المدن وقيام الممالك من أهمّ الظّواهر التي لازمت الكتابة ورافقتها. وهذه الكتابة إنّما كانت أداة من أدوات إخضاع النّاس لقوانين الحضارة وقواعد الاجتماع، وإرغامهم على الامتثال لأصول الحكم أي إدماجهم في الحياة الاجتماعيّة المدنيّة، أو في نظام سياسيّ أو تقسيمهم إلى فئات وطبقات. فهي التي ذلّلت تسخير النّاس، ويسّرت استغلالهم قبل محوهم وتجريدهم من قيمتهم الفرديّة.
قد يكون في هذا الكلام مقدار من الصواب، إذا نحن أخذنا بالاعتبار أنّ الوظيفة الأوّليّة التي قام عليها التّخاطب الكتابيّ؛ كانت تسهيل استعباد النّاس وتسخيرهم والتّحكّم فيهم، وأنّ استعمال الكتابة لغايات ومقاصد نزيهة أو موضوعيّة مثل إشباع حاجات ثقافيّة أو جماليّة، لم يكن إلاّ نتيجة لاحقة على تلك الوظيفة. بل ربّما كان هذا الاستعمال مقصورا عامّة على وسيلة لتقوية الآخر أو التّستّر عليه، كما يذهب إلى ذلك كلود ليفي ستراوس.
غير أنّ الرقميّة اليوم طريقة مختلفة تماما، في تناول الأشياء والموضوعات توطّئ أشكالا من النشاط التواصلي لا عهد للبشر به، وتتعهّد طرقا في وضع المشاكل وحلّها. بل هي التي تروض “العقل المتوحّش” بما تمتلكه من أدوات تأنيسه. وهي تضفي على المدينة المرئيّة أصلا، بعدا فضائيّا ثانيا، إذ تكاد تعرّينا تماما، ونحن في بيوتنا أو مكاتبنا جالسين إلى حواسيبنا وهواتفنا. وهذا وغيره يسمح بإخضاعنا لترتيبات وتنسيقات توافقيّة أو احتماليّة.
لكن ماذا عن مدننا نحن، وكلامي على المدينة التونسيّة عامّة، وإن كان يتّسع لغيرها؛ فالحقّ هي تعد بالكثير دون أن تعجّل ولو بالقليل، على ضرورة تنسيب هذا الحكم. ومع ذلك لا أحبّ أن أنعتها بالحماقة أو قلّة العقل وفساد الرأي وغلاظة الذهن، كلّما تعلّق الأمر ببعض مدننا التي يمكن، إذا تهيّأت لها ظروف مناسبة، أن تجاذب المدن الذكيّة بعض مكانتها. علما أنّ الحماقة ليست شرّا كلّها، فقد يكون “التحامق” استراتيجية خطيرة في بعض المواقف السياسيّة. والذكاء ليس مطلقا، بل لعلّه ملكة الحفاظ على توازن حيّ بين “ذكاء” و”حمق”؛ كما يقول البعض. والحمق في سياق حديثنا، هو أن يتصرّف الفرد أو المسؤول السياسي دون ذكاء العصر الذي ينتمي إليه.
يطلقون صفة السياسي على المهرب المتهرب من الضرائب الذي يعتبر ” آلة ” لا تبقي ولا تذر.
هذا الصنف من الذين حصلوا المناصب عن طريق ” النهب العام ” للمال بحيث لم يقدر لا الذكاء الطبيعي ولا الصناعي منه التصدي أولئك ومرد ذلك استحسان الخمول عند المجتمع الذي آوى فسدة المال.
عنوان (من أجل مدينة ذكيّة) رائع، يا د منصف الوهايبي، سلمت يمينك عليه، والأهم هو لماذا؟!
لأنّه من وجهة نظري، يُلخّص إشكالية مستقبل الإقتصاد الرقمي الإليكتروني في أجواء العولمة،
بعد ما حصل في هونغ كونغ يوم 1/7/2019 والذي هو تكرار لما حصل في باريس يوم 14/7/2016 والذي هو تكرار لما حصل في تركيا اليوم التالي 15/7/2016،
لماذا فشلت الآلة العسكرية والأمنية والقضائية والإعلام، في قراءة فشل موظف الدولة العميقة في دولة الحداثة،
والسبب من وجهة نظري، لعدم وجود منافسة وتنافس، فالوظيفة بعد توطين الوظائف حتى على مستوى الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية، حتى في دول مجلس التعاون في الخليج العربي بعد 2/8/1990، أصبحت استحقاق وطني، ليس له علاقة بالوقت والإنجاز في الموعد بجودة وكفاءة، تنافس من حولك في السوق، ويعرض نفس بضاعتك،
فظهرت كما ذكر د عبدالله النفيسي (في برنامج الصندوق الأسود) مشكلة البدون واللجوء، ومحاولة طرد أهل العراق من إيران، كما حصل في طرد أهل فلسطين من الكويت أولاً، وبقية دول مجلس التعاون ولكن بنسب أقل،
كما حصل معي أنا شخصياً في دولة الإمارات العربية المتحدة (شركة أولاد الشيخ محمد محمود الصواف، مؤسس العمل الحزبي الإسلامي، في العهد الملكي، ومستشار الملك فيصل، منذ وصوله لكرسي السلطة في السعودية) عام 2000.??
??????
شكراً أخي منصف الوهايبي. موضوع جميل جداً، والتطور في العقود القادمة مع قدوم مايسمى الحاسوب الكمي اي الذي يعتمد على الفيزياء الكمونية أو الفيزياء الذرية، سيكون هائلاً. لمن نقطة أساسية فقد لاحظت خلال وجودي الطريل في الغرب وألمانيا بالتحديد، أن الناس بقدر ماتتفاغل مع التطور التقني بقدر ناترى الحاجة الى الطبيعة والمحافظة عليها والإرتباط بها. أي في النهاية الخطر الأكبر هو أن تكون المدينة ” الذكية ” حمقاء باعطاء التقنية الرقمية وزناً فوق الذكاء الطبيعي للعقل البشري والذي هو طبعاً يتطور بتطويره للتقنية الرقمية والذكاء الصناعي، ولهذا يبقى الذكاء الطبيعي سيد
المعمورة، وإلا ؟ يعلم الله.
الفيزياء الكمومية او مياتيك الكم quantum mechanics
أحب و استمتع بقراءة مقالات الأستاذ الوهايبي لأنه يكتب عن لغتنا الجميلة بأسلوب جميل و هي اللغة القوية الأمينة التي لم تخذلنا يوما أو تخُنّا أو تبخل علينا بذخائرها. يحضرني هنا و أنا مجرد هاوٍ أستعرض عضلات لغتنا لا عضلاتي من المفردات المناسبة لوصف تلك المدينة مثل النبيهة و الكيِّسة و النيِّرة و المتيقظة و بالطبع فإن كل هذه الأوصاف مجازية و لكن هناك أوصاف تليق بتلك المدن وهي أقرب إلى الواقع مثل المُبَرمَجة. و شكرا على الإستمرار في خدمة هذه اللغة السيدة.
البيءة الفزيائية، من بينها المدن، ما هي الا انعكاس لواقع المجتمع حضاريًا. فاذا كان المجتمع مكون في مجمله من أفراد ينقصهم الذكاء فكيف يمكن لهم ان يعيشوا في مدينة ذكية؟ الم يكن هذا تضارب شبه مستحيل؟ يجب على العرب ان يعتنوا بالإنسان وتحسين قدراته العقلية قبل التفكير في جعل بيئته ذكية. تقليد مدن شمال-شرق اسيا، اوربا وأمريكا الشمالية ليس مجد حيث معظم سكان هذه المناطق متحصل على تعليم جامعي او ما فوق. بين العرب لا زالت الأمية متفشية بشكل رهيب، والقليل المتعلم لا يتعدى أنصاف المتعلمين! فكيف لهذا الواقع ان يتحدث عن المدن الذكية والحضارة الرقمية! غومة
وهل السياسات العربية تسمح أن نؤنسن المدن الذكية، وأن نجعلها مدنا للحقوق والحريات والتنميات، بعيدا عن فكرة السيطرة والرقابة والتي ستتحول ايضا الى ادوات ذكية في رقميتها وفي طبيعة ما تُثيره من رعب من الصعب السيطرة عليه أو تفادي مخاطره السلطوية ..