لا يجانبُ الصّوابَ في الحقيقة من يرى أنّ الشاعرَ طفلُ البشرية، تلده كي لا تنسى ذكرياتِها الماضية، مخاوفَها الحاضرة، وأحلامَ مستقبلها، وربّما لكي تجدّدَ روحها كذلك في رؤى طفلها المختار. وفي أتون انصهارات مشتركاتِها هذه داخل وليدها، يعيش الشاعر تجربةَ معايشة عبث طفل البشرية الذي بداخله، في عيش رؤاه الماضية والحالمة، وفي مدّه بأصابع الكتابة وموسيقى تراكب كلماتها وجملها؛ ويعيش الناس بتأثير لوثات حالات الشعراء أنفسهم، تجربةَ إسباغ صفة القرين وشيطان الشعر على الوليد العابث الذي يتداخل بمن يشعرون أنه يتحدث بقلوبهم حتى لو تحدّث، وهو الغالب، عن نفسه، في أقصى ما تصل إليه نرجسياته.
ولا يجانبُ الصوابَ في الحقيقة كذلك من يعتبر أن هذا الطفل هو حياة الشاعر، وماؤه الذي يسعى إن شعر بنضوبه، للحفر عميقاً في آبار دواخله للوصول إليه، واستنهاضه كما لو كان مخدّرات، بكل ما خبر وما اختزنت يداه من إغراءات.
بعد مجموعته السابقة عن جمع الشعراء المتجلّين في ذاته تحت عنوان “سيرة لأبناء الورد”، يحفر الشاعر الأردني عمر شبانة عميقاً في آبار دواخله ليُنتج مجموعته الشعرية الجديدة “يمشي كنهرٍ دونما ضفاف”، والتي يستمرّ فيها بسبر حركة طفل البشرية في داخله، تحت ضغط شعورٍ خانق بانسداد أفق المدينة العربية التي تصحّر الروح:
“روحي الـ.. كانت.. شجْرةَ لوزٍ، في ريفٍ، عانقت الزيتون
صارت أغصاناً ملقاةً في الصحراءِ،
وصارت حجراً منبوذاً..
روحي الـ.. كانت
مطراً في قرية أسلافي
غابت في الرمل
وعادت وتراً أعمى”.
وكما لو أنّ جزءاً من تاريخ الشعر العربي الحديث الذي برز في ستينات القرن الماضي، يعيد نفسه متجلياً في نزعة رفض الشاعر للمدينة وإدانة تغريبها للروح، وبالأخص لدى الشعراء الذين قدِموا من الريف؛ يحاول عمر شبانة محو تغريب المدينة التي تمثلها عمّان للروح، ليس من خلال تصويرها كوحشٍ يبتلع القادمين، بل أكثر، من خلال العودة إلى الطفولة، وتصوير حياته الهانئة طفلاً في الريف، مقارنةً بما يعيشه من خواء في المدينة؛ ثم حياة الشعب الفلسطيني الريفية قبل الاحتلال، رجوعاً إلى التاريخ القديم. وهو يمدّ التعارضَ قليلاً إلى قسوة الحياة على الأرض، ويحاول مواجهة قسوة وغربة المدينة والأرض بالحبّ، وتبادل أدوار خلق الرجل والمرأة لبعضهما من أجل إعادة التوازن الذي اختلّ، بخلق أرض جديدة.
في دورة هذه المجموعة من انسداد الأفق إلى العودة للطفولة، ومن ثم الحبّ والتوق لخلق كونٍ جديد، يشكّل شبانة مجموعة قصائده التي تتمحور حول ذلك، في بنيةٍ بسيطة تجري فيها دونما ضفاف سبعة عشر قصيدةَ تفعيلة، مختلفة الأطوال، تحت عناوين. وتنقسم كل قصيدة إلى مقاطع مختلفة الأعداد بأرقام، تتراوح بين ثلاثة وستّ وعشرين مقطعاً؛ ويغلب على عناوين القصائد ما تتمحور حوله من موضوعٍ يشكل وحدة للمجموعة، مثل: طفولة أولى، مدينة أولى، في الأغوار، في المراعي، شيطانة حبّ وهلاك، أسماء الزيتون، والمدينة أخيراً…
ولا يجد القارئ بشكل مباشر ما يربط القصائد بالعنوان، سوى عنوان قصيدة “ضفتان لنهر القلب”، وسوى موضوع الشاعر العائد لطفولته، الساعي للحب، ولخلق أرض جديدة يغمرها الحب.
في جميع قصائد المجموعة لا يتخلّى شبانة عن التفعيلة، وعن أسلوبه في تنويع إيقاعاتها، وفي حصر الإيقاع بالسطر، وتسكين نهايته في معظم الأسطر، مع عدم الاسترسال في إيقاع القافية رغم حاجة المقطع أحياناً لذلك. ويبدو الهربُ من تأثير محمود درويش في هذا واضحاً رغم عدم شعور جميع الشعراء، بمن فيهم شبانة، بالخجل من هذا التأثير الذي لا مهربَ لشعراء التفعيلة منه. وقد يطيب لقارئٍ العودة للتغني بقصيدة درويش الشهيرة بيروت: “شكل الروح في المرآة/ وصف المرأة الأولى ورائحة الغمام/ بيروت من تعبٍ ومن ذهبِ، وأندلس وشام”، عندما يتقطّع انسياب إيقاع التفعيلة لديه في قصيدة طفولة 2:
“خضراءُ ثورتُنا
حقولٌ من ندى
خضراءُ من وجعٍ
وموسيقا و.. شام
خضراءُ
مثلَ غمامةٍ
فوق الحقول”.
في لغة قصائده، يتماثل شبانة بقوة مع طبيعة قصيدته الرعوية، وأجواء عودته للريف الفلسطيني، الأردني، وما يحفل به من أزهارٍ وفراشاتٍ وزعتر وزيتون وطيور وماعز جبلي وأسماءِ أشجارٍ، وما لا يعد من غنى مفردات هذه الطبيعة، متفاعلةً مع لغة عبث الطفولة، ونار عشق الصبا، ومفردات الحلم في خلق جديد:
“أعيديني إلى ريفي
إلى شجري وأنهاري
طفولاتي هناك تركتُها
قلبي هناك يدورُ
يلعب في البساتينِ
أعيدي لي نجومي الخضرَ
قريتيَ التي في الحلم،
أسمائي ولونَ الروح”.
في تداخل تراكيبه اللغوية لا يتعمّق شبانة كثيراً، ولا يخوض في غمار دواخل الكتابة الآلية، ويفضّل ترك معانيه واضحةً كما هي طبيعة ريفه المشتهى، مع عدم التعمّق في التداخل باستخدامه الكثير لكلمة مثل، وكاف التشبيه التي تبرز منذ البداية في عنوان المجموعة، إضافة إلى اللجوء للتجريب في إغناء ثنائية التضاد، من خلال إضافات مفردات تشكل خطورة على توازن الثنائيات.
وفي إغناء قصائده بالثقافة والتراث، الذي يخدم موضوعه، لا يتعمّق شبانة كذلك في إعادة حبّه إلى آلهة السوريين الفلسطينيين عشتار، وإن شابَها بهذه المسحة، ويُغْني قصائد حبّه أكثرَ باستخدام رمز بنلوبي التي لم تيأس من انتظاره، في تشبيه ارتحاله في المدينة بتغريبة “أوديسيوس”، كما يستبدل رمزَ “حمّالة الحطب” القرآني، بحمّالة الذّهب، في لوم الرجل الذي أوقعها بهذه الورطة، وفي مدّه المرأة إلى الوطن، ولعلّها فلسطين الريفية: “يا أنتِ، يا حقلي/ ويا حمّالة الذهبِ/ تبّت يدا من باع روحك للردى،/ من باع مسكَ يديك للنيران والحطبِ/ يا أنت.. يا وطنَ النّدى/ من خان قلبكِ عامداً متعمّدا؟/ من خان روحَكِ في السُّدى؟”.
ويمدّ شبانة إغناءَ قصائده برموز التراث إلى استخدام شخصية يوسف الذي نال نصيب قدّه لقميصِ زليخة كما قدّت قميصَه، في معارضة الشاعر لما قُدّمته أساطير الأولين والمتوسطين من مفاهيم عن الأخلاق، وكذلك “سليمان” الذي لم ينلْ من العمق أكثر مما عُرف عنه في الأسطورة التوراتية والإسرائيليّات التي يحفل بها القرآن الكريم. كما يمدّ إغناءَه إلى استخدام “ألف ليلة وليلة” في شبك جمل قصائدَ متألّقة في المجموعة:
“كوني معي
لنصوغ هذا الكونْ
لنصوغ ألف حديقةٍ، وحديقةً
في هذه الصحراء
سأكون أرضك
كي تكوني الماء
وأكون نهرك
كي تكوني حقل زيتوني”.
ويصل شبانة في استخدامه الثقافة التي جايلها كذلك، إلى تأكيدٍ ذكيّ لجملة درويش الشهيرة المذهلة: “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”، وذلك بمعارضتها وفق موضوع غربته التي مدّها من المدينة إلى الأرض، ومدّ إيقاع تفعيلتها دون تسكينٍ من السّطر إلى كامل المقطع:
“تعالي لنخرج من هذه الأرضِ
فالأرض ليست على ما يُرامُ
وليس عليها سوى الظلماتِ،
وليس على هذه الأرضِ
ما يستحقّ الحياةَ
تعالي لنخلقَ أرضاً
ونصعدَ في حلمها
في أغانٍ طفوليةٍ
وسماءٍ بدون سِماتْ”.
وختاماً، في مجموعته الجديدة التي يعود فيها لمنابع الطفولة، وعشق الصّبا، في الريف كي “يجري نهراً دونما ضفاف”، في تغريبته المدينية، يُبدع شبانة مجموعةً شعرية متميزة بتواصلها مع سالف زمان شعر تعارض الريف والمدينة، وتفاعلها مع أوان انسداد أفق المدن العربية للتطور، وحلمها بتوليد الحب الذي يستعيد أرض الأجداد الحافلة بالخير والمحبة والسلام.
عمر شبانة: “يمشي كنهرٍ دونما ضفاف”
وزارة الثقافة الأردنية، عمّان 2019
144 صفحة.