ترجمة: شكير نصرالدين
لماذا اختار مؤلف الرسالة المسروقة منفذا لوصيته، ناقدا كان يبغضه وعمل على تدمير سمعته بعد وفاته؟ هنا سرد لقضية غامضة يقدمه مترجم من مترجمي أعماله الكاملة.
ما كان للموقر ريفيس غريزوولد، الكاهن المعمداني الفاشل، الذي تحول إلى مجال الصحافة، أن يُخلَّد اسمه لولا عمله الحثيث وإصراره العنيد على الإساءة لسمعة عدوه المفضل إدغار ألان پو. إذا كان سوء تقدير المعاصرين للمرء معروفا بكثرة، فإن ريفيس غريزوولد يمثل حالة فريدة في الحوليات الأدبية: حالة حقد مقيت. بعدما كان يكنه إبان حياة صاحب مغامرات آرثر غوردن بيم، ظهر تدريجيا بعد وفاة هذا الأخير. وكاد يفلح في مسعاه. وقد نجح بطريقة ما، لكن بدون بلوغ الهدف المنشود. في سعيه إلى تخريب وتشويه صورة پو ساهم غريزوولد في صنع أسطورته، تلك التي تشكلت في فرنسا مثلا، وعن حسن نية، على يد الشاعر بودلير، التي ما تزال مستمرة حتى اليوم رغم كتب السيرة الأشد تفسيرا وتوثيقا، لأن المتخيل أشد إغراء من الواقع في كثير من الأحيان وأشد ملاءمة لتوقعات القارئ ـ وليس إدغار پو من سوف يخالف ذلك، هو من يعتبر منجزه تشويها للواقع، منجز يقوم على مبدأ الخيال أكثر منه على الفانتازيا.
ومع ذلك بدأ كل شيء على وجه حسن، حيث عام 1841 التقى الرجلان، اللذان يبلغان السن نفسه تقريبا (غريزوولد أصغر من پو بثلاثة أعوام) حينما كان الثاني رئيس تحرير صحيفة «غراهامس ماغازين» وكان الأول يُعِدّ مختارات مخصصة للشعراء والشعر في أمريكا. يصفه پو بكونه «رجلا ذا ذوق رفيع، راجح العقل»، مُلمّا بالأدب الأمريكي في عصره. وكان من الطبيعي أن يظهر فيها بنفسه بثلاث قصائد ينوه غريزوولد في مقدمتها المختصرة بروحها ونظمها الحذق». وقد أشاد پو بهذه المختارات الصادرة عام 1842 التي تعد الأولى من نوعها للشعر الأمريكي، في تقرير كله محاباة باعتبارها «من أهم المساهمات في أدبنا منذ سنوات طويلة»، والمختارات على الأقل ميزة تحسب لغريزوولد.
في الفترة نفسها، بينما كان الوفاق بين الصديقين قريبي العهد بالصداقة في أوجه، ظهر أول الخلافات، أول التصدعات التي سوف تقود إلى القطيعة النهائية وتتعمق بعد الوفاة. وفي حقيقة الأمر إذا كان پو يؤكد في رسالة إلى غريزوولد أن لا أحد كان في وسعه تأليف أفضل من تلك المختارات، فإنه مع ذلك يشعر بشيء من الحسرة، لأنه لم يتم تمثيله فيها إلا بثلاث قصائد، مرفقة علاوة على ذلك حسبه بحاشية تفتقد الدفء، وترجمة للسيرة لا تخلو من الأخطاء، وعلى الأخص لأنه كان هو نفسه قد استقال للتو من منصبه في «غراهامس ماغازين»، وتم استبداله بأصغر منه يستفيد من تعويض مالي أفضل مما لدى پو المعسر. وليس من المستبعد أن تَجاوُر هذين العنصرين شحذ الضغينة عند پو الذي توارى نضاله من أجل تجديد الأدب الأمريكي، خلف العمل النقدي البارز والمعروف الذي يقوم به غريزوولد. لكن يبقى أن خلال الشهور التي عقبت ذلك، سواء في رسائله الشخصية، أو في ما كان يبوح به من أسرار، كان يسفِّه ويتهكم من المختارات ومؤلفها. وحينما نُشرت مقالة مجهولة الاسم تنتقد الكتاب بشدة، واصفة إياه «بالكتاب المُقلّد»، بعمل لص من «لصوص الأدب الذين يعوزهم الحذق»، الذي تماثل معرفته بالشعر ما يعرفه عنه هندي من قبيلة الكيكاپو. وقد كان غريزوولد على يقين بأنها من توقيع پو، وأخذ يشيع عنه أخبارا لا تليق بسمعته، ورغم العداوة فإن الموقّر قبل قرض غريمه خمس دولارات التي طلبها منه الكاتب لعلاج فيرجينيا، زوجته الشابة.
ما كان للموقر ريفيس غريزوولد، الكاهن المعمداني الفاشل، الذي تحول إلى مجال الصحافة، أن يُخلَّد اسمه لولا عمله الحثيث وإصراره العنيد على الإساءة لسمعة عدوه المفضل إدغار ألان پو.
وبمبادرة من پو تصالح الرجلان وعادت السكاكين إلى غمدها، وقد قرَّ عزمهما على طي صفحة خصامهما. وإذا كان الأول قد أثنى على خصال الصحافي والناقد والناشر، فإن الثاني يرى في الأول أكبر مؤلف أمريكي للحكايات والقصص. وصْلا للقول بالفعل، ضمَّن مختاراته الجديدة المخصصة لكتّاب النثر الأمريكيين قصة «سقوط منزل أوشر» مسبوقة بتذكرة كلها مديح، بل وصل حد قرض پو 25 دولارا، الذي كان يسعى إلى ضخ دم جديد في صحيفة «برودواي جورنال». كان في الوسع الظن بأن المصالحة تمت وانتهت، إلا أن قطيعة جديدة، في السر بدون ضوضاء وَأَدَتْ الصلح في المهد. ويبدو أن «الصديقان» كانا في حقيقة الأمر خصمان في مراودة أفلاطونية لشاعرة صالون غير ذات شأن، ومتزوجة فوق ذلك، هي الشاعرة فرانسيس سارجنت أزغوود. وبما أن پو فاز في هذه المبارزة الشعرية ـ الفروسية، فإن غريزوولد سوف يكيل الشتائم في مقال نشر خريف 1848 لمساوئ قصة «الغراب»، وهي من القصص التي عرفت نجاحا نادرا في حياة مؤلفها.
لقد كان مقدرا لمصيرهما أن يظل متحدا. حينما نشر پو شهر فبراير/شباط 1849 تقريرا كله إطراء حول مختارات غريزوولد الجديدة المخصصة لشواعر أمريكا، قام غريزوولد أمام هذا الجميل بتضمين مختاراته الجديدة لشعراء أمريكا أربع عشرة قصيدة بقلم پو. وفي شهر يونيو/حزيران، وكأنه حدس دنوَّ أجله، طلب هذا الأخير من غريزوولد أن يكون منفذا لوصيته وكلَّف الكاتب نثانييل پاركر ويليس بأن يكون كاتبَ سيرته. لكن يومين عقب وفاة پو، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 1849، نشر غريزوولد تأبينا لـ«صديقه» في الطبعة المسائية من «نيويورك تربيون» من شدة ما طفح بالشتائم والتحقير، وقعه باسم لودفيغ المستعار. يروّج فيه خرافات ستصمد مع الزمن: منها أن پو كان متغطرسا، غضوبا، حسودا، صلفا، يبغض الناس ولم يكن له أي صديق ولا إحساس بالشرف. وأمام ردود الفعل الخجولة التي جاءت للدفاع عن الراحل، زايد غريزوولد حينما شرع في نشر أعمال پو الكاملة، التي وفرتها له ماريا كليم حماة پو. في مقدمة الجزء الثالث هناك «مذكرة» بقلم غريزوولد سوف تفرض نفسها مدة طويلة بصفتها السيرة الوحيدة الموثوق فيها لإدغار پو. إذا كان يقر فيها بالموهبة الأدبية لهذا الأخير، فإنه يتحرر من كل القيود على نحو عجيب بخصوص وقائع حياته، التي يعمل على تحريفها وتغييرها وتحويلها، لختم تلك الصورة المخرّبة. ولن يخطئ بودلير في ذلك حينما وصف غريزوولد بعبارة «المربّي مصاص الدماء»، البغيض والمتحذلق، حيث أنه بلا ريب أفرط في فهم دوره كمنفذ وصية پو بالمعنى الحرفي للكلمة.
إن ما يثير العجب، ليس ذلك الحقد البغيض، وإنما التفاهم الذي أمكن قيامه بين الرجلين، فالشاعر كان يزدري الناشر الذي لم يغفر له ذلك أبدا. لكن على الأخص، لم يكن پو بالنسبة إلى غريزوولد سوى متخلف حقير من الجنوب، بينما كان ينظر الثاني إلى الأول بكونه متفيهقا من الشمال يكرهه كرها شديدا. إن هذا الغل المتبادل قد يبدو كأنه تعبير عن القطيعة التي كانت تجري أطوارها في الأمة الأمريكية الفتيَّة آنذاك.
العنوان الأصلي:
L’homme qui n’aimait pas Poe
المصدر:
Le Nouveau magazine littéraire, n°23, novembre 2019.