شهدت الدراسات السردية المعاصرة تحولا نوعيا منذ بداية الألفية الثالثة، يأتي هذا التحول ليُبنى على ما كرسته السرديات إبان المرحلة البنيوية ويتأسس عليها، تطويرا وإغناء وتحويلا لمسارها العام، خالقا بذلك مسارات جديدة منفتحة على المستقبل. إن أي تحول عميق في أي مجال من مجالات البحث العلمي والمعرفي، لا يمكن أن يتأتى له ذلك إلا إذا كان منطلقا من إبدال معرفي جديد ينخرط فيه الباحثون، ويسهمون جميعا في التفكير في نطاقه، ويعملون على إغنائه نظريا وتطبيقيا عبر الحوار والنقاش المتبادل الذي يتحقق من خلاله. تجمع أغلب الدراسات المعاصرة، والأبحاث المتصلة بنظرية السرد، أو السرديات بصورة خاصة، على اعتبار ما يطلق عليه «السرديات ما بعد الكلاسيكية»، إبدالا جديدا بدأ يتشكل منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي..
لا بد، لكي يتحقق الحديث عن إبدال جديد من توفر مستلزمات وشروط ضرورية لذلك. من بين أهم هذه المستلزمات ظهور وسائط جديدة للتواصل والتفاعل بين المشتغلين به، بهدف نقل التجارب والخبرات والآراء التي تدور في فلكه، مثل المجلات والمؤتمرات العلمية والأبحاث الرائدة. ظهرت، في ما يتصل بالسرديات، خلال المرحلة البنيوية مجلات كثيرة ذات سمعة علمية ومعرفية يقدرها الجميع لعمقها وريادتها. بعض هذه المجلات يمس موضوعات عامة ومتعددة، تتصل بهذا الإبدال الجديد مثل مجلة «تواصلات» التي صدرت سنة 1961، وتحمل مسؤولية إدارتها لحظة صدورها رولان بارث، وإدغار موران، وجورج فريدمان، وبعضها الآخر خاص جدا بالسرد في نطاق البويطيقا، مثل مجلة «بويطيقا» (1970).
كانت مثل هذه المنابر الجديدة، وهي كثيرة قد برزت مجتمعة في نطاق هذا الإبدال، وعملت على استيعاب مجمل ما كان يسير في الاتجاه البنيوي، فارضة نفسها في الساحة المحلية أولا (فرنسا)، ثم بعد ذلك في العالم أجمع. إلى جانب المؤتمرات العلمية التي كانت تدور في فلك اللسانيات والسيميائيات والدراسات الأدبية الجديدة، من لدن رجالات الاختصاص. كما كان للأبحاث التي يقدمها بين الفينة والأخرى باحثون طليعيون ممن ساهموا في ترسيخ الإبدال الجديد وتعميق دوره الأساسي في إشاعة التحليل السردي من منظور الإبدال الجديد (جيرار جينيت 1972 مثلا)، وفتح الحوار العلمي حوله.
جزءا من هذه التطويرات التي بدأت تراكمها السرديات ما بعد الكلاسيكية، تحققت خارج الفضاء الفرنسي، وأهم منجزاتها كانت في المجال الجرماني والأنكلو أمريكي.
على غرار ما تشكل في الحقبة البنيوية عندما كانت السرديات تبحث لها عن موطئ قدم في الدراسات الأدبية الحديثة، عملت الدراسات حول السرديات ما بعد الكلاسيكية على توفير المستلزمات الضرورية لإقامة هذا الإبدال الجديد على أرضية صلبة. لقد تم أولا استثمار المجلات التي ظهرت في المرحلة البنيوية، والتي عمل المساهمون فيها على تطوير مشروعها بجعله منفتحا على جديد الدراسات السردية والفكرية العامة. فعلى سبيل التمثيل فإن مجلة «تواصلات» عرفت تحولا كبيرا سنة 1980، حين أصبحت تحت تأثير إدغار موران الذي جعلها متسعة الموضوعات ومتعددة الاختصاصات. وعندما احتفلت بعيد ميلادها الخمسين بإصدار العدد 88 حين تحمل مسؤوليتها أنطونيو كازيلي انفتحت على الثقافة الرقمية التي كانت محور هذا العدد. وآخر عدد صدر منها (105) في سنة 2019 كان تحت موضوع «أحياء تحت الأرض»، وفي العدد 103، الصادر عام 2019، جعلته تحت عنوان بعد مئة عام بعد الشكلانية الروسية لتأكيد استمرارها في التطور وربط الجسور بالماضي.
أما مجلة «بويطيقا» التي تحمل مسؤولية إدارتها لحظة صدورها جيرار جينيت، وتودوروف، وهيلين سيكسو، فقد واصلت استمرارها وانفتاحها على موضوعات تتجاوز المرحلة البنيوية. وقبل العدد الأخير 186، الذي صدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، نجدها تكرس العدد 185 مايو/أيار 2019 لذكرى رحيل جيرار جينيت من خلال دراسات حول الرجل تكشف دوره في تعميق النقاش حول السرديات. جئت بهذين المثالين لإبراز أن ما تحقق في المرحلة البنيوية في دراسة السرد تواصل في ما بعدها ولم يتوقف. وأن مجهودات مطوري السرديات ما بعد الكلاسيكية ظلوا يتفاعلون مع وسائطها وقد تطورت بدورها، كما أنهم يعودون إليها بين الفينة والأخرى لتعميق النقاش حول السرديات، ما بعد الكلاسيكية التي لا يكاد أحد منهم يستغني عن ذكر جيرار جينيت بصورة خاصة.
لقد تم، من جهة ثانية، العمل على خلق وسائط جديدة تتخطى الحدود اللغوية الفرنسية، لأن جزءا من هذه التطويرات التي بدأت تراكمها السرديات ما بعد الكلاسيكية، تحققت خارج الفضاء الفرنسي، وأهم منجزاتها كانت في المجال الجرماني والأنكلو أمريكي. لا يعني هذا أن الوسائط الفرنسية توقفت، لقد ظهرت مجلات جديدة، ورقية ورقمية، ينشر فيها، بصورة كبيرة، جيل جديد من السرديين، وتواكب التطورات الجديدة. نذكر منها على سبيل المثال «فابولا: البحث في الأدبّ (1999)، و«دفاتر السرديات» الخاصة بالتحليل السردي في مختلف جوانبه الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية، وفي نطاق تداخل الاختصاصات وتعددها، التي تأسست سنة 1987، وتحولت رقمية منذ 2011. هذا إلى جانب «فوكس بويطيقا: للدراسات الأدبية والعلوم الإنسانية»، التي تشكلت سنة 2004، وغيرها من المجلات والدوريات المختصة. يستدعي الإبدال الجديد، جيلا جديدا، ووسائط جديدة، وأشكالا جديدة من الحوار والتواصل والتفاعل. فهل تحقق عندنا هذا الإبدال؟
٭ كاتب مغربي